افراسيانت - "هآرتس" - تبدو الصورة محيّرة من الجانب الإسرائيلي في كل ما يتعلق بالتعامل مع المسألة الفلسطينية. فمن الناحية السياسية لا تريد الفلسطينيين بين صفوفها ولكن حكومتها الحالية ترفض جوهرياً مبدأ حل الدولتين وتبذل كل ما في وسعها من إجل الحيلولة دون توفر الشروط لإنشاء الدولة الفلسطينية. ومن الناحية الأمنية تنظر حولها فتجد أن العرب، بمن فيهم الفلسطينيون، يعيشون أشد حالات الانقسام الجغرافي والطائفي والمذهبي والمناطقي حدة، فتستشعر أن من مصلحتها عدم الظهور في الصورة وترك العرب في مذابحهم. لكنها وفي الوقت نفسه تحاول الإفادة من الوضع القائم فتعمد إلى تجيير الاقتتال لمصلحتها من خلال محاولة خلق تحالف مع دول أو أطراف عربية باسم محاربة الإرهاب. وتذهب إلى أبعد من ذلك بمحاولة ترسيخ هيمنتها على القدس والأراضي المحتلة ومحاولة تقسيم الحرم القدسي زمانياً ومكانياً.
وثمة في إسرائيل من يرى الأمور بشكل مختلف عن تلك التي يراها قادة الحكومة الإسرائيلية. وكل ما يتعلق بالقدس عموماً وبالحرم القدسي خصوصاً يشكل مرآة لقراءة هذا الاختلاف. فاليمين الحاكم الذي كثيراً ما حاول، باسم «حرية العبادة» تشجيع اليهود على زيارة الحرم بقصد تكريس «الحق اليهودي» فيه يُصرّ طوال الوقت على أنه يرفض تغيير الوضع القائم. ولكن تغيير الوضع القائم في الحرم القدسي يجري على قدم وساق ومنذ زمن طويل وبشكل تدريجي. ولا يخفي عدد من وزراء الحكومة الإسرائيلية نفسها إيمانهم بوجوب السماح لليهود بالصلاة في الحرم، كما لا يخفي بعضهم تأييده لإعادة بناء الهيكل مكان الحرم القدسي.
ولكن ما أن تتم الإشارة إلى أن التحركات الإسرائيلية في الحرم هي جزء من مخطط واسع حتى تعتبر إسرائيل هذا تحريضاً لا يستند إلى أساس. ومع ذلك فإن الاتهامات ضد إسرائيل على هذا الصعيد، وسابقة تقسيم الحرم الإبراهيمي في الخليل، زمانياً ومكانياً، تستند إلى أكثر من أساس. أما ادعاءات الحكومة الإسرائيلية بأنها لا تنوي تغيير الواقع القائم في الحرم فهو فعلاً لا يستند إلى أي أساس. وما القرارات التي اتخذها وزير الدفاع موشي يعلون بإخراج المرابطين والمرابطات الذين يتواجدون داخل الحرم لمنع الاعتداءات اليهودية عليه إلا تأكيد على النية في تغيير الواقع القائم. كما أن الإجراءات القمعية المكثفة في القدس ومحيطها تحاول منع أهالي القدس والفلسطينيين عموماً من مناصرة الأقصى والدفاع عنه.
وإذا أخذت الإجراءات «القانونية» الإسرائيلية والإجراءات القمعية التي تمارسها الشرطة والجيش في شوارع القدس ومحيط الأقصى فإن الصورة واضحة: إسرائيل تريد تجريد الفلسطينيين من حقهم في الدفاع عن الحرم القدسي. وهذا يعني أنها تريد بقاء الجميع ليس فقط في غفلة عما تخطّط وتفعل وإنما بعيداً عن ممارسة حقهم في الدفاع عن مقدساتهم. وواضح أن أهل القدس والمدافعين عن الأقصى لم تعد لديهم أوهام بشأن ما يجري. وهم من ناحيتهم لا يريدون أن يسجل بحقهم خذلان الحرم القدسي والتخلي عن الدفاع عنه. والأهم أنهم لا يصدّقون ادعاءات إسرائيل بأنها لا تريد تغيير الواقع القائم كما لا يصدقون أن أحداً سوف يدافع عن الأقصى أكثر منهم. وربما لهذا السبب نجدهم يواجهون بصدورهم العارية رصاص العدو الإسرائيلي وهراواته ويبذلون كل ما في وسعهم للانتشار في محيط الأقصى والدفاع عنه من جهة وإشغال الإسرائيليين في باقي المناطق من جهة أخرى.
وواضح أن إسرائيل بعد أن رأت أن الجمهور الفلسطيني في القدس ومحيطها لم يكل من المواجهة ولم يتراجع عن حقه في الدفاع عن القدس صارت تدعو للتهدئة. وهذه ليست دعوة جديدة ولكن تحت أمثال هذه الدعوة اختفت المصلحة الإسرائيلية في تنفيس الاحتقان على أمل أن لا يتفجّر الوضع. ولكن هناك عوامل أخرى تدفع إسرائيل للدعوة للتهدئة في القدس أولها أنها رأت أن العرب ورغم غرقهم في شلال الدم لم ينسوا القدس.
فالمسألة لم تعد تيسير ترسيخ السيطرة على القدس والحرم القدسي وإنما احتمال حدوث تطورات خطيرة. وبين هذه التطورات وفي مقدّمتها احتمالات نشوب انتفاضة فلسطينية تحمل في طياتها انهياراً أو تدميراً أو تخلياً عن السلطة الفلسطينية. ثم أن ما يجري في القدس يعيب العلاقات الاستراتيجية القائمة بين إسرائيل والدول العربية المتصالحة معها وخصوصاً الأردن ومصر. ومعروف أن إسرائيل لا تزال ترى في معاهدات السلام التي أبرمتها مع مصر والأردن على أنها ذخر استراتيجي ومن المؤكد أنها لا تخاطر بالتخلي عنها بسبب رغبات اليمين في تكريس إنجاز يبقى أقل قيمة. والمسألة هنا هي في الأصل حسابات ربح وخسارة وهي حسابات مرهونة بوقتها وقابلة للتغيير عندما تتغير الظروف.
وعدا ذلك هناك الرغبة الإسرائيلية الدفينة في الوصول بالعلاقات مع الدول العربية الخليجية إلى مستوى التحالف العلني تارة في مواجهة إيران وأخرى في مواجهة الإرهاب الأصولي المتطرف. ومنطقي الافتراض أن كل محاولة للتقدم في هذا المجال تصطدم بعقبة القدس والحرم القدسي. وليس صدفة أنه في ذروة السجال الداخلي الإسرائيلي حول الحرم القدسي والمخاطر على إسرائيل أعلن زعيم «هناك مستقبل»، يائير لبيد أن من مصلحة إسرائيل الآن تبني المبادرة العربية للسلام. فهناك من يؤمن أن التعامل مع واقع متفجّر بمثل هذا التجاهل للمستقبل يمكن أن يحمل في طياته قدراً كبيراً من الخطر على إسرائيل.
تقديم وترجمة: حلمي موسى