افراسيانت - حلمي موسى - السفير - التاريخ شيء والأسطورة شيء آخر. والواقع شيء وتأريخه شيء آخر. وهذا ما يثبت أساساً من الأسطورة التي بنيت على أساس رواية تاريخية لا تجد أسانيد علمية لها.
ومن الجلي أنه ليس في عصرنا الراهن أسطورة تعاملَ البعض معها وكأنها تاريخ واقعي أكثر من الرواية التوراتية التي أنتجت قناعات تتعارض مع طبيعة الأشياء.
وهكذا نشرت «هآرتس» قبل يومين تقريراً عن اكتشاف أثري جديد يثبت أن مدينة جات الفلسطينية القديمة كانت المدينة الأكبر في فلسطين في القرن العاشر قبل الميلاد، وأن الفلسطينيين القدامى وليس العبرانيين هم من كانوا يسيطرون على ساحل فلسطين في تلك الحقبة. ومعروف أنه وفق الرواية التوراتية قامت في فلسطين في تلك الحقبة مملكتي يهودا والسامرة، وأنهما كانتا تسيطران على غالبية أرض فلسطين.
وبحسب «هآرتس» فإن تل الصافي الذي يطلق عليه اسم «تل تسفيت» كانت على أراضيها مدينة جات الفلسطينية، التي كثيراً ما ورد اسمها في التوراة كواحدة من خمس مدن فلسطينية تصارعت مع اليهود. وكانت ذروة الصراع في عهدي داوود وسليمان، أي في القرن العاشر قبل الميلاد مع جات المدينة القائمة في مكانها منذ الحقبة البرونزية والأكبر في ذلك الحين.
وقد بدأت الحفريات في المكان على أيدي بعثة من دائرة الآثار في جامعة «بار إيلان» الدينية وبرئاسة البروفيسور أهرون مئير. وخلال الحفريات تم اكتشاف الكثير من الأدلة عن تلك الفترة، بينها مذبح للطقوس الدينية وبقايا مبان ومواقع لصناعة الحديد وآلاف قطع الفخار والأدوات. وتركزت الحفريات حتى وقت قريب في الجزء العلوي من التل، رغم العلم المسبق بأن الموقع هو لمدينة تاريخية مهمة.
ولكن ما إن انتهت الحفريات في القسم العلوي، وبدأت في القسم السفلي، حتى تبين أنه ليس بعيداً عن موقع المذبح تم اكتشاف الطرف العلوي لجدار كبير، وأدلة تثبت وجود برج مراقبة وأطلال تشير إلى وجود بوابة مدينة كبيرة. وبحسب الجدار فإن جات كانت المدينة الأكبر والأهم في نلك الفترة، مقارنة بما كان معروفاً عن المدن الأخرى. وحسب تقدير البروفيسور مئير فإن مساحة جات كانت تبلغ 500 دونم، في حين أن القدس ومدن أخرى مثل مجدو وبئر السبع لم تكن تزيد مساحتها عن 120 دونماً.
وتنبع أهمية هذا الاكتشاف من واقع السجال الدائر منذ عقدين في دوائر الآثار في إسرائيل حول وجود وطابع المملكة اليهودية الموحدة. ويقول مؤيدو المملكة الموحدة أن هناك توافقاً بين الوصف التوراتي لمملكة داوود وسليمان والوقائع الأثرية، وأن الحديث يدور عن قوة عظمى صغيرة سيطرت على الجبل والساحل وشمال فلسطين. لكن المدرسة الثانية كانت ترى أن هذه المملكة كانت صغيرة، ولم تسيطر إلا على مساحة صغيرة في الجبل، واتخذت من القدس عاصمة لها، وأن القدس لم تكن أكبر من قرية صغيرة. واعتبرت المدرسة الأولى أنها حسمت القناعة بعد اكتشاف خربة كيفا القريبة من تل الصافي، حيث اكتشف فريق برئاسة البروفيسور يوسي غرفنكل وساعر غانور مدينة محصنة من القرن العاشر قبل الميلاد. وعنى الأمر بالنسبة إليهم أن المملكة الموحدة وصلت إلى خربة كيفا على الأقل.
لكن اكتشاف الحصن في أسفل مدينة الأعداء الفلسطينية يلقي الضوء من جديد على الوضع الجيوسياسي في المنطقة. وحسب قول مئير فإن اكتشاف جات، وهي مدينة ضخمة ومحصنة على حدود المملكة التي سيطر عليها داود وشلومو لفترة طويلة دون وجود علامات خراب كنتيجة للحرب مع يهودا، يثبت أن الفلسطينيين وليس الإسرائيليين هم الذين سيطروا على ساحل يهودا، لأن خربة كيفا وجدت خلال فترة قصيرة نسبياً (30 سنة)، ويمكن أن تكون من بقايا فشل المملكة الإسرائيلية في الانتشار غربا باتجاه الساحل، وليس من علائم قوتها. وقال مئير إن «مملكة يهودا يمكن أن تكون أكبر وأكثر قوة وأهمية، لكن يتبين أن هناك دولة كبيرة جداً على حدودها الغربية. لقد قلت خلال سنوات إن جات مدينة كبيرة، لكن تم الادعاء ضدي أنه لا توجد مدينة سفلى، وإن وجدت فهي غير محصنة. والآن عندما عثرنا على الحصن الضخم، فمن الواضح أنها المدينة الأكثر أهمية في القرن التاسع أو العاشر».
البروفيسور غرفنكل لا ينفي هذا التفسير، لكنه يقول «نحن نعرف أن هذه المنطقة شهدت كل الوقت صراعات على الحدود. صحيح أن يهودا نجحت في بناء كيفا كمدينة محصنة جيداً، مع حجارة يبلغ وزنها 8 أطنان، وعندما سقطت كيفا قاموا ببناء بيت شيمش، أي أنهم ينجحون في بناء المدن والتحصينات».
بوابة مدينة جات ذُكرت في التوراة في سفر شموئيل أ، عندما هرب داود من شاؤول ووصل إلى أبواب جات تصرف مثل مجنون وسال لعابه على لحيته. ملك المدينة أخيش طرده، وقال «هل ينقصني مجانين؟». هذه الحادثة تؤكد العلاقة المعقدة بين الشعبين، وتؤكد ذلك أيضا الوقائع على الأرض، والصعوبة في رسم خط واضح بين المملكتين. فمن جهة الإسرائيليون والفلسطينيون هم أعداء لا يكفون عن محاربة بعضهم البعض. ومن جهة أخرى هم يؤثرون في بعضهم البعض من ناحية ثقافية، مثلاً المذبح الذي وجد في تسفيت يُذكر بالمذابح التي وصفت في التوراة. «كل مجموعة تستمر في اعتبار نفسها منفصلة ولكن هناك تداخل مكثف بينهما»، قال مئير بعد اكتشاف المذبح قبل أربع سنوات. وذكر قصة شمشون الجبار «هو يقتلهم وهم يقتلونه، لكنه من جهة أخرى تزوج من امرأة فلسطينية وهو يشارك في أعراسهم». لقد استمرت جات في الوجود حتى سنة 830 قبل الميلاد، إلى أن احتلها ودمرها حزال، ملك آرام. مئير يقول إن دمار جات كان حادثة دراماتيكية غيرت موازين القوى في المنطقة، ومكنت من صعود مملكة يهودا المستقلة في القرن السابع والثامن قبل الميلاد.
ولكن الوقائع العنيدة لا تدحض الأسطورة. فالوقائع تبقى على الأرض، أما الأسطورة فإنها تنغرس في الدماغ وتمنع النظر في الأرض لرؤية ما هو عليه الحال حقاً أو ما كان.