افراسيانت - وسيم ابراهيم - السفير - حينما أخذت السماء تنغلق تماماً بغيوم سوداء متوعدة، كانت كتيبة المهرِّجين تتقدَّم الصفوف المرصوصة باتجاه حشود الخصم القوي.
تعليمات مكبرات الصوت والهتافات صنعت صخباً يصمّ الآذان.
التشويق الذي ولّدته أخبار المعركة المنتظرة، مع كل أجواء الترقب والاحتياطات، أخرج جمهوراً إلى الشرفات والنوافذ. الكل كان ينتظر ما يعرف مسبقاً أنه سيحصل: الالتحام سيكون تحصيلاً حاصلا.
هذا المشهد المتأزِّم ساد شوارع وأزقَّة بلدة غراميش ـ بارتنكيرخن، أقصى الجنوب الألماني قرب مدينة ميونخ، حيث كان آلاف رجال الأمن يحرسون صفوَ انعقاد قمة «مجموعة السبع». على الجهة المقابلة، كان مئات المعارضين الأشداء يفعلون كل ما في وسعهم كي ينكّدوا صفوَ اجتماع زعماء الاقتصادات الكبرى في العالم.
في الأساس، لم يكن السؤال ما الذي سيحصل، بل كيف. ميزان القوة كان واضحاً في الشارع، ومع ذلك خرجت الأخبار متضاربة. الطرف الأول قال إنَّه يعترف بالجريمة: كتيبة المهرِّجين، بعتادها الكامل، كانت البادئة بالهجوم. تقدَّم عشرات ممن يرتدون الأنوف الحمراء، مع وجوه مصبوغة، ليرشوا كرات من غبار الألوان على مئات رجال الأمن الذين سدوا أمامهم الطريق.
لم تحتمل جحافل الأمن هذا الاعتداء السافر، فانطلقت صفوفهم الأمامية لهجوم مضاد دفاعاً عن النفس. إصابات كتيبة المهرِّجين كانت متفاوتة. هناك من تعرَّض للرَّكل والسَّحل، وخرج من دون كدمات. آخرون بدا وكأن الكرات الحمراء فوق أنوفهم انفجرت، لكنهم لم ينزفوا ألواناً هذه المرة، بل دماء حقيقية.
لكنَّ الخصوم لم يكونوا أقوياء فقط بهيبة لباسهم الموحد، مع خوذهم وعصيهم ورشاشات مسيل الدموع، بل أيضاً بالإعلام الذي يترقب. حالما حصل الصدام، بعثت الشرطة على عجلة تغريدة لتعمّ وسائل الإعلام: المحتجون هم من بادروا بالاعتداء بإلقاء زجاجات وإطلاق مرشات أجهزة إطفاء يدوية، مع الإشارة إلى أنّ ما قاموا به «ليس سليماً وما كان يجب أن يحدث».
سكان البلدة الوادعة، المعروفة بكونها منتجعاً شتوياً للتزلُّج، ليسوا معتادين على وجع الرأس هذا. كان بول يراقب عربات الشرطة التي لا تتوقَّف عن التدفُّق. متابعاً ما يجري من نافذة الفندق الذي يعمل فيه، قال بارتباك واضح: «نعم نحن معتادون على الزحمة لأنَّ البلدة تمتلئ في موسم التزلج، لكنَّنا لسنا معتادين على هذا التوتُّر».
صارت البلدة، والمنطقة التي حولها، مغلقة أمنياً. انتشر نحو 17 ألف رجل أمن وشرطة، ووضعوا حواجز التفتيش في كل مكان. هكذا تحوَّل مكان انعقاد القمَّة في قصر إلماو إلى حصن بكل معنى الكلمة. لا شيء يمكن أن يدخل ويخرج إلى منطقة مطوقة حوله على طول سبعة كيلومترات. منطقة أوسع، قطرها تقريبا 50 كيلومتراً، ممشطة أمنياً بشكل كامل. جعل ذلك الحواجز وعمليَّات التفتيش تمتدّ إلى حدود النمسا القريبة، حيث أغلقت المداخل الحدودية التي لا يمكن الشعور بوجودها عادة بين دول فضاء «الشنغن» للتنقل الحر.
كل الـ»آكشن»، عملياً، كان في بلدة غراميش ـ بارتنكيرخن. الصحافيون القادمون من أصقاع العالم وضعوا في المركز الأولمبي لرياضات الجليد، بعدما تحوَّلت أرضية ملعب التزلج إلى صالة عمل مسوّرة بالمدرجات الفارغة. هدير المروحيات العسكرية لم يتوقَّف طوال فترة وصول واجتماعات زعماء السبعة، وهي تنقل وتعيد الصحافيين من وإلى قصر إلماو خلال تغطيات وجيزة.
على بعد مئات الأمتار من المركز، كانت محاولة المحتجين تتعرَّض لفشل جديد. قوات الأمن أحبطت أيّ إمكانية أمامهم لتحقيق انتصار معنوي. بين مجموعة شبان قطعوا نحو 500 كيلومتر بسيارتهم ليتظاهروا، كان ألكسندر فرانس محبطاً نوعا ما: «لم تسر التظاهرة كما كنَّا نريد، الصدامات مع الشرطة كانت تحصل كل خمس دقائق، ولم نتمكَّن من الوصول إلى هدفنا». كان المقصد قطع أحد الطرق التي تؤمِّن عبور المسؤولين والكوادر العاملة في مقر انعقاد القمَّة، لكن كتائب الشرطة كانت تهرع من مكان لآخر لمنع ذلك. توقَّف المتظاهرون على بعد أمتار من الطريق، ولم تمانع الشرطة في الاشتباك معهم لردّهم.
تفرّقت كتيبة المهرِّجين وهي تعود مع المحتجين إلى أمام منصة التجمع. هناك كانت فرق موسيقية تواصل العزف والغناء بعنوان عريض «حاربوا مجموعة السبع: لا سلام من دون عدالة اجتماعية». جملة تقول أنَّ النتيجة، طالما العالم تحت هذه القيادة، هي ببساطة: «لا سلام» بين الخصمين.
المغني والعازف الأميركي ديفيد روفكس كان ينتظر دوره على المنصة. جال في دول أوروبية خلال شهرين، وفي كل مكان كان يدعو جمهوره إلى القدوم إلى جنوب ألمانيا والتظاهر ضدّ القمَّة. هناك كان يواجه بالسؤال: لكن هل من فائدة لهذه الاحتجاجات، خصوصاً أنَّها صارت نوعاً من «الفولكلور» السنوي؟ يقول: إنَّ جوابه كان حاسماً عبر أغانيه: «هناك مشكلة تحيط بحركات الاحتجاج، الناس ينسون أنَّ هناك احتجاجات تاريخية ناجحة حصلت يوماً ما ولا يدركون أيّ أثر كان لها».
حين كان المحتجون عائدين بعد إحباط محاولتهم، كان هذا الفنان فوق المنصة مع غيتاره، يغني عن اضرابات العام 1862 التي أخضعت ملاك الأراضي والسلطات في نيويورك. المزارعون أضربوا حينها لمدة تسع سنوات، رافضين دفع إيجار الأراضي للملاك الكبار، فباعوها قبل أن تضطَّر الحكومة الفدرالية لتوزيعها تجنباً لانفجار ذلك الصراع.
كانت الأغنية تصدح من مكبرات الصوت: «من أعطاكم الحق في أن تكونوا ملّاك الأراضي، من أعطاكم الحق في أن تكونوا أغنياء فوق بؤسنا». على وقعها كان المحتجون يواصلون احتفالهم. حملوا أعلاما حمراء، لأحزاب يسارية مختلفة في أوروبا، ورايات لأحزاب الخضر وأخرى ملونة بقوس قزح طبعت عليها كلمة «السلام». تحوَّلت الأبنية حول الساحة الصغيرة إلى منصات مشاهدة لسكانها، وبعضهم علّق لافتات تدعم الاحتجاج. بعض المتظاهرين صنع مجسماً لمؤشر الجهات الأربع مطبوعاً باللون الأحمر، وهو عادة شعار حلف «شمال الأطلسي» لكن باللون الأزرق. صحيح أنَّ القمة لـ «مجموعة السبع»، الغرب الاقتصادي الذي يقرر مصير البشرية، لكن المعارضة لها كانت بكل لغات العالم... بما فيها ظهور بالصدفة للعربية!
الشابة النمساوية كارولين ريتسلار كانت ترقص مع عبارة تسخر من الديموقراطية الغربية. على كاحلها كان ظاهراً وشم مكتوب بأحرف عربية: «الحياة». تقول بفرح متذكرة أيام التمرد على العائلة: «لقد اخترته أيام مراهقتي، كنت ولا أزال أحب حروف اللغة العربية وأحب الحياة». وبرغم أنَّها أزالت وشوماً كثيرة، بعدما صارت في الثلاثين الآن، لكنَّها مصرة على الإبقاء عليه تحديداً. تحبه مع أنها تلفظ الكلمة «خياة».
بدأت العواصف الرعدية التي تحدَّثت عنها نشرة الطقس، والمطر نزل من السماء دفعة واحدة. فرّقت العاصفة الجميع، محتجين وشرطة، ودفعتهم إلى الاختباء تحت أيّ شيء في جانبي الشارع. الشرطة بقيت تحاصر المكان. كل شيء كان محاصراً في البلدة المشرفة على القصر والفندق الشهير. فبخلاف قمم واجتماعات أخرى، حوَّلت قمة السبع المنطقة إلى ما يشبه حصنا عسكريا. هذه الحماية المشدَّدة لاجتماع الغرب الحاكم، بصفاء بعد تجميد عضوية روسيا، كانت تقول ضمناً إنَّ هناك دائماً ما يجب عليهم الخوف والحذر منه إلى أقصى الحدود.
حضور العبادي .. عملية تجميل ضرورية لـ«التحالف»
اهتزاز صورة «التحالف الدولي» لمحاربة «داعش» حتّم على مجموعة السبع دعوة رئيس وزراء العراق حيدر العبادي إلى المنتجع الشتوي جنوبي ألمانيا. غير ذلك، لم تظهر حتى الآن بوادر تحرك عملي مهم تقف وراء اجتماعه بزعماء الدول الصناعية الكبرى، التي تشكل عمليا النواة الصلبة لعمليات «التحالف» في العراق وسوريا.
في الأساس، نقاش عمليات «التحالف» و «محاربة الارهاب» موجود على جدول أعمال القمة في يومها الثاني. لكن إصدار خلاصة، حتى لو كانت مكررة، كان يقف أمام حاجز محرج ظهر مؤخرا. ينقل مصدر ديبلوماسي غربي لـ «السفير» أنه كان «سيبدو من غير الملائم الحديث عن تقدم عمليات التحالف في ظل الانتقادات الواضحة التي وجهها العبادي»، بعدما احتج على تقاعس دوله عن دعم العراق كما وعدت، وكانت واشنطن المعني الأول بتلك الانتقادات.
هكذا ارتأت مجموعة السبع أن يصدر بيانها الختامي المبجل لعمليات «التحالف الدولي» مع حضور العبادي المصادق على ذلك، كنوع من عملية التجميل الضرورية لتغطي العيوب التي أظهرتها انتقاداته العلنية والمفاجئة نوعا ما.
وفي ذات السياق، قلل مسؤول في الاتحاد الأوروبي من شأن أي توقعات حول إعلانات مهمة يمكن أن تصدر من القمة بخصوص «الحرب على داعش». هذا المسؤول المشارك في الاعداد للقمة قال لـ «السفير» إنه «لا يجب انتظار أي خطوات دراماتيكية حول العراق وسوريا»، لافتا إلى أن الاعدادات لبيان القمة الختامي أظهرت أن «الحديث سيكون ضمن سقف الموقف المعروف، عبر الدعوة لتعزيز عمليات التحالف والحرب على الارهاب».
الرئيس التونسي باجي قائد السبسي سيكون أيضا بين ضيوف القمة. سيحضر مع العبادي ومدعوين آخرين على طاولة نقاش موضوع «الارهاب» ومواجهة ظاهرة «الجهاديين»، خصوصا أن تونس هي إحدى الدول الأكثر تعرضا للظاهرة. رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك قال إن مجموعة السبع تبحث سبل هذه الدول، معتبرا أن مكافحة تهديد «المقاتلين الأجانب» باتت «ملحة أكثر من أي وقت مضى».