افراسيانت - مؤسسة وزارة الدفاع الأميركية لم تعد بمنأى عن البيروقراطية واستغلال النفوذ وعقد الصفقات خارج سياقات الشفافية. فالحديث مؤخرا عن بحث الولايات المتحدة عن مكان لبناء قاعدة عسكرية جديدة للجيش الأميركي في القارة السمراء، كشف عن معلومات تؤكد أن أميركا لديها العديد من القواعد، لكن القول بأنها تبحث عن بعث قاعدة ثانية ليس سوى شجرة تغطي غابة كاملة من شبهات الفساد.
العرب [-فقد كشف موقع “توم ديسباتش”، المتخصص في نشر التحقيقات الصحافية التي لا تنشر أو التي تم تحريفها وتحويرها من قبل هيئات التحرير، عن معلومات تم نشرها من قبل الصحافية كارلا باب في موقع “صوت أميركا”.
وتؤكد المعلومات التي نشرتها الصحافية والتي تم حذفها في ما بعد، حجم الأموال الضخمة التي تصرفها وزارة الدفاع الأميركية في إقامة قواعد عسكرية سرية لها في أفريقيا دون الإعلان عنها، وهذا ما كشفته الأرقام.
وأعلن العقيد مارك تشيدل، المتحدث باسم القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا “أفريكوم”، مؤخرا، عن معلومات مذهلة للموقع الإخباري “فويس أوف أميركا” (صوت أميركا).
وقال إن أفريكوم تدرس حاليا أكثر من 11 موقعا محتملا لإقامة قاعدتها الثانية في القارة. لكن تقارير أخرى متباينة مع ما صرح به تشيدل، تؤكد أن القاعدة التي تبحث عن بعثها الولايات المتحدة في أفريقيا، ليست الثانية.
وتبدأ القصة بكتابة الصحافية كارلا باب مقالا لموقع “فويس أوف أميركا”، ما اعتبر اكتمالا للصورة التي يريد البنتاغون أن يروجها للرأي العام، بخصوص الأنشطة العسكرية الأميركية في أفريقيا.
ولاحظت الكاتبة أن “الولايات المتحدة لديها حاليا قاعدة عسكرية واحدة في دولة جيبوتي الواقعة في شرق أفريقيا. وتوجد القوات الأميركية أيضا على أرض الصومال للمساعدة في المعركة الإقليمية ضد حركة الشباب في الكاميرون ولدعم جهود القوات متعددة الجنسيات ضد بوكو حرام في نيجيريا”.
أواخر العام الماضي تم إحصاء 60 مواقعا في 34 بلدا أفريقيا توجد فيها قواعد ما يشكك في رواية البنتاغون
ولكن بعد يوم فقط اختفى مقال كارلا باب من الموقع، وظهر مقال جديد أشار إلى أن “تشيدل قال في البداية إن الولايات المتحدة تبحث في 11 موقعا لإقامة قاعدة ثانية”، ولكن في وقت لاحق أفاد الموقع بأنه “أسيء فهم هذه المسألة”.
وكررت كارلا باب أن الولايات المتحدة لديها قاعدة عسكرية في جيبوتي، وذكرت أن “هناك أحد المواقع الأمنية التعاونية الجديدة المحتملة في الكاميرون، ولكن تشيدل لم يحدد مواقع أخرى بسبب حساسيات الشعوب المضيفة”.
واعتبر هذا التصريح بمثابة تشكيك في الرواية الرسمية التي أعطاها الناطق الرسمي باسم القيادة العسكرية الأميركية، وأنه ليست هناك قاعدة فقط في أفريقيا للقوات الأميركية بل الكثير منها. وللمسألة علاقة بالميزانية العسكرية المخصصة للانتشار العسكري الأميركي في العالم. وبالفعل، تتمركز القوات الأميركية في كامب ليمونير في جيبوتي منذ العام 2002. وفي ذلك الوقت، تم توسيع القاعدة من 88 هكتارا إلى حوالي 600 هكتار.
وأشـارت كـارلا باب إلى أن القوات الأميركية تعمل في الصومال بحسب هذا الحجم من المساحة، من خلال اثنتين من القواعد على الأقل، في الوقت الذي تقوم فيه الولايات المتحدة بإنشاء قاعدة عسكرية في الكاميرون. وعلى هذا النحو، فإن القاعدة الأميركية “الثانية” في أفريقيا أينما يكون موقعها سوف تكون أشبه بقاعدة أميركية خامسة في القارة وليست الثانية كما صرح تشيدل.
وبطبيعة الحال، هذا يعني أنه إذا لم يتم التعويل على مطار تشابولي للطائرات من دون طيار الذي تتكتم عليه الولايات المتحدة ليسهل عليها العمل في أي مكان آخر في جيبوتي، فإن نظرية قاعدة عسكرية ثانية تسقط مباشرة في الماء لأن مطار تشابولي يعتبر قاعدة بحالها. وهذا دون احتساب المناطق التي تملك فيها الولايات المتحدة مواقع أمنية تعاونية ومواقع العمليات الأمامية والبؤر الاستيطانية الأخرى مثل بوركينا فاسو وجمهورية أفريقيا الوسطى، وتشاد، وإثيوبيا، والغابون، وغانا، وكينيا، ومالي، والنيجر، والسنغال، وسيشيل، والصومال، وجنوب السودان، وأوغندا، وبعض الأماكن الأخرى.
وفي أواخر العام الماضي تم إحصاء 60 من المواقع في 34 بلدا أفريقيا توجد فيها قواعد أميركية، ومؤخرا أضافت ميسي ريان من صحيفة “واشنطن بوست” مواقع أخرى لهذا العدد عندما كشفت أن “قوات العمليات الخاصة الأميركية كانت تتمركز في موقعين في شرق وغرب ليبيا منذ أواخر العام 2015”.
سبب الكتمان
من الصعب أن يفهم مراقبو النشاطات العسكرية في أميركا لماذا سعت القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا إلى إنشاء شبكة مترامية الأطراف من قواعد متحررة من القيود والمراقبة، أو لماذا روّجت لمعلومات خاطئة حول بصمتها “الصغيرة” في أفريقيا؟ ومما لا شك فيه أنه ولنفس السبب هم يرفضون التعاون مع الصحافيين للحصول على أبسط المعلومات عن عملياتها، حيث تفضّل وزارة الدفاع الأميركية العمل في الظلام.
وكشفت مدونة “توم ديسباتش”، التي يشرف عليها الصحافي بيل هارتونغ، عن نوع آخر من الجهود في وزارة الدفاع الأميركية للإخفاء والتمويه، والتي تنطوي على نوع آخر من المحاسبة مثل: التفكير في تبخر الأموال، البرامج السرية، التهرب من المحاسبة، المخالفات المالية التي لا يمكن تنفيذها إلا من طرف المؤسسة، والتي من المفترض أنها مؤسسة أكبر من أن تفشل.
ومن خلال رفض كل محاسبة دقيقة ومساءلة فعلية، بدءا من أروقة البنتاغون إلى المخيمات المتقشفة في أفريقيا، أثبتت وزارة الدفاع التزامها بإبقاء أنشطة المسؤولين الأميركيين في الظل وإخفاء ثرواتهم وأسمائهم. ولكن يبدو بيل هارتونغ على استعداد لتسليط الضوء على الممارسات المشبوهة لوزارة الدفاع الأميركية.
“ميزانية البنتاغون هي الأقرب لعمل فني في الإخفاء”، بهذه الطريقة أكد الكاتب نيك تورز أن الحكومة الأميركية تمارس شيئا من الاحتيال. حيث تبدو الولايات المتحدة في طريقها إلى إنفاق أكثر من 600 مليار دولار على الجيش هذا العام، وهو أكثر مما أنفقته في ذروة الحرب الباردة خلال فترة حكم الرئيس رونالد ريغان، كما أن هذا المبلغ يفوق الميزانيات العسكرية لسبع من دول العالم مجتمعة.
حجم الأموال الضخمة التي تصرفها وزارة الدفاع الأميركية تكشف عمليتها السرية في أفريقيا
ويبدو أن هذا لن يكون سوى جزء من الميزانية الإجمالية. حيث أظهرت تحليلات مشروع ستراوس للإصلاح العسكري، أنه إذا تم التعويل على الأنشطة ذات الصلة مثل الأمن الداخلي، وشؤون قدماء المحاربين، وإنتاج الرؤوس النووية في وزارة الطاقة، والمساعدات العسكرية لبلدان أخرى، والفوائد على الديون الوطنية المرتبطة بالقوات العسكرية، فإن هذا الرقم يمكن أن يصل إلى 1 تريليون دولار.
فكلما زاد الإنفاق على وزارة الدفاع، فإن أقل ما يريد البنتاغون أن يعرفه الرأي العام، هو كيف يتم استخدام هذه الجبال من المال، وبما أن الوكالة الفيدرالية الرئيسية الوحيدة لا يمكنها النجاح في عملية التدقيق، تبقى وزارة الدفاع الطفل المدلل لعملية وضع الميزانية بعيدة عن المسؤولية. ويعود التكتم عن القواعد العسكرية التي تقوم بها وزارة الدفاع الأميركية إلى الخوف من مصارحة المواطنين الأميركيين بمصير ضرائبهم التي يدفعونها.
هروب من المحاسبة
ليس هناك تصور في اللحظة الراهنة بأن قائمة البرامج السرية المتزايدة التابعة للبنتاغون والمراوغات الموجودة في الميزانية، هي إما عرضية أو أنها مجرد مسألة محاسبة، لكن في المحصلة، جعلت وزارة الدفاع الأميركية من المستحيل تقريبا على أي شخص محاسبتها على فعل أي شيء.
إذ يتم تحديد البيروقراطية الراسخة بعدم تقديم المعلومات التي يمكن استخدامها لوضع ميزانيتها الكبيرة تحت السيطرة، ولهذا السبب أصبح الخداع في الميزانية إجراء عمليا في وزارة الدفاع. ومشكلة مراجعة الحسابات هي أبرز مثال على ذلك، إذ ينبغي على وزارة الدفاع الأميركية وجميع الوكالات الفيدرالية الرئيسية الأخرى أن تقدم دفاترها ليتم التدقيق فيها، وفقا لقانون المسؤولين الماليين لعام 1990.
وبعد مرور أكثر من 25 عاما، ليست هناك أدلة تشير إلى أن وزارة الدفاع الأميركية سوف تكون قادرة على إطلاق عملية تدقيق مالي واسعة.
وفي الواقع، يبدو أن المثال الوحيد الذي يمكن بلوغه من عملية التدقيق الموثقة، وهي عملية تدقيق في جزء من الدفاتر وسلاح مشاة البحرية، لتكون دراسة حالة في مقاومة هذه البيروقراطية.
وفي مارس من العام 2015، نفى مكتب المفتش العام التابع للبنتاغون لشركة غرانت ثورنتون الخاصة التي أجرت التدقيق، أن يكون عملها ناجحا في معرفة تفاصيل التصرف في أموال وزارة الدفاع. وفي الواقع، في أواخر عام 2013، ذكرت وكالة رويترز، أن مدققي الحسابات في مكتب المفتش العام الذي أعطى الضوء الأخضر على مدى شهور لشركة غرانت ثورنتون، اعتبر أن هناك عددا من الثغرات الواضحة. حيث تم إلغاء عمليات التدقيق من طرف نائب المفتش العام للتدقيق، الذي وصفته وكالة رويترز للأنباء بأنه على “علاقة مهنية طويلة الأمد” مع شركة غرانت ثورنتون المشرفة على التدقيق.
ونفى كل من البنتاغون وشركة غرانت أن يكون هناك أي تقاطع في المصالح بينهما، ولكن العملية كانت واضحة للغاية، إذ أن هناك مصلحة كبرى في الترويج لفكرة أن سلاح البحرية يمكن أن يخضع لعملية تدقيق، حتى لو كانت الوقائع غير مريحة، وأن هناك حاجة لفعل ذلك لسحب البساط من بعض الأصوات التي تؤكد أن وزارة الدفاع لا تقول الحقيقة. وهذا النوع من السلوك غير مستغرب نظرا للبيروقراطية التي يتسم بها البنتاغون والمتعاقدين معه الذين يستهلكون اعتمادات مالية كبرى، وهنا تكمن شبهات الفساد.