افراسيانت - هاني المصري - لم تتحول الموجة الانتفاضية المستمرة للشهر الرابع على التوالي إلى انتفاضة شعبية شاملة لها قيادة موحدة وأهداف محددة لأسباب عديدة، سبق أن تعرضت أنا وغيري لها، أهمها أن القيادة لم تتبنَّ الانتفاضة واكتفت بتأييدها الخجول، وأن القوى إما عاجزة أو مترددة بين تبني الانتفاضة واستخدامها، والخشية من تحولها إلى انتفاضة شاملة لا يمكن السيطرة عليها، وكذلك من إقدام الخصم والمنافس الداخلي على توظيفها لمصلحته وضدها.
غير أنّ هناك بعض المظاهر التي أعطت شعبية للانتفاضة لا يمكن التقليل من أهميتها، ومثال ذلك الحشود الشعبية التي شاركت في جنازات الشهداء وبيوت العزاء، وفي التظاهرات والتحركات المنادية باستعادة جثامين الشهداء وتوفير حزام بشري حول بيوتهم، ما حال في مرات عديدة وأجّل تنفيذ أوامر الهدم التي اتخذت بحق هذه البيوت.
في هذه المقالة سنركز على سياسة هدم المنازل لمنفذي العمليات الفدائية التي كانت جزءًا من الخطوات التي قررت سلطات الاحتلال اتخاذها كنوع من العقاب ولردع آخرين عن تنفيذ عمليات جديدة.
منذ بداية الموجة الانتفاضية، تناقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية أخبارًا عن وجود تباين بين قيادة جيش الاحتلال والأجهزة الأمنية من جهة، وبين القيادة السياسية من جهة أخرى حول جدوى سياسة هدم المنازل واحتجاز الجثامين وقضايا أخرى. وجاءت الأحداث لتثبت ـ من وجهة نظر العسكريين ـ أن هذه السياسات تؤجج الوضع ولا تساعد على إخماد الانتفاضة، ما دفع الاحتلال إلى الإفراج عن غالبية الجثامين، بينما احتفظ ببعض جثامين شهداء مقدسيين، لأن المسؤولية عنهم ليست ضمن سلطات الجيش، بحكم أن القدس ضمت لإسرائيل وينطبق عليها القانون الإسرائيلي، وليس القانون الاحتلالي الذي يحكم الأراضي المحتلة العام 1967.
بدأت القصة في مخيم شعفاط في القدس حين بادرت مجموعة من الأشخاص بتنظيم حملة لجمع تبرعات لإعادة بيت الشهيد إبراهيم العكّاري، وتجاوب معها الناس برغم أحوالهم المعيشية الصعبة، وساهم الفقير وبعض الأغنياء في الحملة، وكرت السبحة... حيث تم إطلاق حملة «إعمار بيوت الأحرار» في نابلس التي جمعت مليون شيكل عوضًا عن تبرعات عينية أخرى، وحملة إعادة بناء الشهيد مهند الحلبي التي جمعت ما يقارب 600 ألف شيكل، عدا عن الأرض ومواد عينية أخرى والعمل من دون أجر. كما أعلنت نقابة الموظفين المنحلة والمعروض أمرها على القضاء عن قرارها بدفع 1 في المئة من راتب كل موظف لدعم الحملة، وإذا طبقت السلطة هذا القرار فهذا يعني جمع حوالي خمسة ملايين دولار، وحثت النقابات الأخرى أن تحذو حذوها لجمع أضعاف هذا المبلغ، وتوظيفه لإعادة بناء المنازل المهدمة، ومساعدة أهالي الشهداء والأسرى والمتضررين من الإجراءات الاحتلالية.
تبرهن حملات التبرع مرة أخرى على أن الشعب جاهز للكفاح والعطاء، أما القيادة والنخبة فغائبة إلى حد كبير. فالمبادرات للتبرع لم تطلقها القيادة ولم تتبنَّها السلطة، مع أن الأصل أن تلتزم السلطة بإعادة بناء كل بيت يقوم الاحتلال بهدمه، وعدم التذرع بقلة الموارد لأن تلبية هذه الحاجة الحيوية والوطنية أولوية وتعلو على أي مسألة أخرى، وإذا ضاقت السبل تستطيع أن تنفذ مبادرة نقابة الموظفين وتشجع مبادرات مماثلة.
إن السلطة التي لا نعرف قرارها بخصوص هذه المبادرة، والتي لم تتبنَّ تغطية كل الخسائر الناجمة عن إجراءات الاحتلال وجرائمه ضد الشعب بحجة الانتفاضة، تخشى من غضب الاحتلال عليها إذا أقدمت على ذلك، علماً أنها تبالغ كثيرًا في هذا الأمر. فالسلطة قادت الانتفاضة الثانية المسلحة ولم تحلّها إسرائيل، لأن البديل عن السلطة سيئ جدًا، ولأنها كانت تراهن على إيجاد سلطة جديدة وكان لها ذلك بكل أسف. فالسلطة بعد الانتفاضة الثانية أسوأ مما كانت قبلها، لأنها، في البداية، كانت جزءًا من عملية سياسية كانت تأمل أن تنتهي بإنهاء الاحتلال وإقامة دولة، أما بعد انهيار قمة «كامب ديفيد» وإعادة احتلال الضفة فقد أصبحت السلطة غاية من دون أفق سياسي.
إذا كانت السلطة تخشى تبني إعادة بناء البيوت المهدمة وغير ذلك، فكيف ستقنعنا أنها ستنفذ قرارات المجلس المركزي بخصوص إعادة النظر في العلاقة مع الاحتلال، ووقف التنسيق الأمني، وفك التبعية للاقتصاد الفلسطيني؟
إن من لا يشارك في جنازات الشهداء وبيوت العزاء إلا بشكل محدود وليس على أعلى المستويات، ولم يبادر ولم يتبنَّ حملات التبرع لإعادة بناء بيوت الشهداء، لن يقدم على تغيير العلاقة مع الاحتلال من «شريك سلام» إلى عدو، إلا إذا أجبر على ذلك لسبب أو لآخر، أو كردة فعل على أحداث أو جرائم كبرى. يجب التنبه مبكرًا والعمل على عدم نجاح إسرائيل في توظيف ما يجري وتوظيف الانقسام والتيه الفلسطينيَّين لتطويع السلطة أكثر، خصوصًا بعد مرحلة أبو مازن.
تقول القيادة والسلطة إنهما تؤيدان انتفاضة شعبية سلمية، ولا ندري ما الذي يمنعهما من تنظيم ذلك، لأنهما لو فعلتا لن يكون لديهما ما تخشيانه من تحول الانتفاضة ضدهما، وحينها سيشعر الشعب أنهما معنيتان بمقاومة فعّالة حتى لو كانت سلمية، مع أن من حق الشعب الفلسطيني حتى وفق القانون الدولي ممارسة المقاومة بكل أشكالها، بما في ذلك المقاومة المسلحة، ما يعني ضرورة الاحتفاظ بهذا الحق واستخدامه عند الضرورة بقرار وطني، وضمن إستراتيجية وطنية، وفي مجال الدفاع عن النفس دائمًا، وفي كل زمان ومكان.
المقاومة السلمية التي تريدها السلطة تظاهرات داخل المدن بعيدًا عن الاحتكاك بقوات الاحتلال وقطعان المستوطنين، ومثل هذه «الانتفاضة» لا يمكن أن تستقطب الشعب، ويمكن أن يتعايش معها الاحتلال إلى الأبد.
تضم المقاومة السلمية بمعناها الواسع أكثر من مئتي شكل، فهي تشمل كل أعمال المقاومة اللاعنفية، بما فيها أعمال التخريب لكل المؤسسات الاحتلالية، وطرق سير المحتلين، والبنى التحتية، وتشمل تنظيم تظاهرات بالآلاف وعشرات الآلاف، بحيث تكون سلمية وتتوجه للمستوطنات والمستوطنين داخل القدس والخليل وفي كل مكان، ويكون على رأسها قادة الفصائل والسلطة والمنظمة.
كما يمكن أن تتبنى القيادة والسلطة حملة المقاطعة لإسرائيل، وإذا اكتفتا في البداية بمقاطعة المستوطنات عملًا وتعاملًا وتجارة، فلا يعقل أن يكون هناك استثمار فلسطيني في إسرائيل والمستوطنات، ولا يعقل أن تكون الأسواق الفلسطينية لا تزال، برغم إعلان المقاطعة مليئة بالبضائع الإسرائيلية، لا سيما في ظل أخبار متداولة مؤخرًا حول استعداد راعي الاستيطان رامي ليفي لإقامة مجمعات ضخمة بعمل مشترك مع رجال أعمال وشركات فلسطينية، يريد من خلالها، كما قال، العمل والعيش المشتركين بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بمن فيهم المستوطنون!