افراسيانت - منذ أكثر من مئة يوم يرتقي الشهداء الفلسطينيون واحداً تلو الاّخر في أرضنا المحتلة، هؤلاء المقاومون الذين يدكون أمن الكيان الصهيوني بكافة ما يصل لأيديهم من وسائل كالسكين والحجر والسيارات الداعسة! ولأننا في زمن الردّة الذي تتغول فيه المعلومات والرسائل المدعومة إمبريالياً وبترودولارياً من خلال وسائل إعلامها ذائعة الإنتشار، كثر الحديث عن فاعلية الهبة: لماذا تحصل؟ ماذا حصدت؟ لمَ تحاربوهم بدلاً من التعلم منهم؟ وقالوا: مع كل "اسرائيلي" يُقتل في عملية طعن أو دهس تسوّد وجوهنا أمام المجتمع الدولي، إلخ... وقد كثرت التفسيرات أيضاً فقيل عن هؤلاء الشباب أنهم "فاقدون للأمل"، ويتعرضون "للاستبداد والعنصرية"، وأن "الحكومة الإسرائيلية" هيجت مشاعر الشباب "المسلم" عندما حاولت تغيير "الوضع القائم" في الأقصى ... وغيرها من الترهات التي تمتلئ بها وسائل الإعلام لحرف انتباه المشاهد العربي، الشاب منه خصوصاً، عن جوهر الصراع العربي-الصهيوني، وهو وجود الكيان الصهيوني بأفراده ومؤسساته وثقافته ككيان سرطاني خبيث في قلب الأمة العربية.
يبدو للأسف أن المساعي الإمبريالية البترودولارية في تحريف توجهات الشباب العربي تجاه الاحتلال الصهيوني لفلسطين قد نجحت مع قطاعات كبيرة، فالشاب المغرم بالأفلام الهوليودية أو من يستقي معلوماته من الوكالات الإخبارية العالمية يخضع لتأثير متراكم يعزز فرديته ويبني نسقه المعرفي على أساس الخلاص الفردي المادي على الأغلب، وأن فلسطين- إن "تعاطف" معها بين الحين و الاّخر- سوف تُحرر بنفس الطريقة التي يواجه فيها البطل الخارق في كل الأفلام قوى الشر ويخوض معركة ضروس تخلص العالم من ماّسيه، أي أنه، وإن لم يقل ذلك، ينتطر سبايدرمان لتحرير فلسطين! وقد انتشرت هذه الرؤيا بين الكثير من شباب أمتنا العربية حتى أن بعضهم تبنى – عن وعي أو من دون وعي- الخطاب الصهيوني حرفياً، وقد انتشر هذا الخطاب في فلسطين وخارجها، وأصبحت أفكار بعض الشباب رافضةً للعمل العام المناوئ للإمبريالية، ولا تؤمن بالمقاومة ولا ترى جدوى من مقاطعة منتجات الكيان وتسمع كثيراً أن المقاومة بكل أشكالها، من عمل مسلح إلى مقاطعة للبضائع وصولاً إلى الاعتصامات والوقفات، ومن ضمنها جك، لا تسمن ولا تغني من جوع!
بيد أن هذه المساعي الإمبريالية البترودولارية لم تنجح بشكل كامل، فعندما حيدت فصائل المقاومة وأوقعتها في فخ التفاوض وأحلام الإمارات، وانغمست سلطة أوسلو بالتطبيع والتنسيق والتعاون لحد الإشباع، هبّ الشباب العربي سليم الفطرة ليدافع عن أرضه بما أوتي من قوة، وكانت ولا تزال هبّته جذرية، ترفض وجود المحتل وتفهم أن كل صهيوني يدب على أرض فلسطين هو جزء من المشروع الصهيوني.
لقد فهم هؤلاء الشباب أن الحل هو المقاومة، وفهموا أيضاً أن لهم دوراً في ذلك، فبدأت العمليات فردية إلى أن تحولت إلى هبّة شعبية، وهي في طريقها للتحول إلى انتفاضة شاملة، ونعرف تماما بأنها تعوز البرنامج السياسي والقيادة والتنظيم، ولكننا نعرف أيضا أنها قد أثكلت كاهل الكيان الصهيوني، وأن استمرارها والمحافظة على وجودها سيحقق عاجلا أو اّجلا انتصارات واضحة، وهو ما بدأ يحصل بالفعل من تحضير للحاضنة الشعبية للمقاومة. وما حالة التنظيم الأهلي والتعاضد الداعم لأسرة الشهيد ابراهيم عكاري في مخيم شعفاط مثلاً إلا دليلٌ واضحٌ على ذلك، فقد أعاد أهالي المخيم، بجهودٍ شخصية، إعادة بناء منزل الشهيد وتأثيثه بعد ساعات من تدميره من قبل الاحتلال الصهيوني.
هؤلاء الشباب هم طليعة التحرير في فلسطين، سواء شاء الصهاينة والمتصهينون ذلك أم أبوه، وأقل ما يمكن تقديمه لهم إظهار كل الدعم لفعلهم المقاوم الجذري، فهم فهموا حق الفهم أن ما أخذ بالقوة لا ولن يسترد إلا بالقوة، ولو كان ذلك يعني أن يستشهد شاب عربي كل مرة يفطس فيها صهيوني، فهم ليسوا فاقدي الأمل على الإطلاق. إنهم جلامدة صامدون ثابتون يعرفون الموت حق المعرفة ويسعون إليه في سبيل تحرر من سيحيا بعدهم، فتحية لهم ولصمودهم ولحبهم للحياة الحرة وإن كان ثمنها الموت!