افراسيانت - كتب ابراهيم ملحم - حادث سير استهدف عمال "الخُبز الحاف" في إحدى صَباحات كانون من عام 87 من القَرن الماضي، أشعل نارا ارتفعت ألسِنتها، وتواصل لَهيبُها لسبع سنين، وكان لها أن تتواصل لسبع أخرى، لولا تَدَخُلِ "إطفائية أوسلو" بسلام ضائع منذ عشرين عاما في متاهات مفاوضات، من فوقها متاهات، من فوقها سُحُب اليأس والإحباط، من كآبة المنظر وسوء الُمنقَلَب!
من رَحْمِ انتفاضة الحجارة الاولى وُلدت "أوسلو"، ومن رَحْمِ الانتفاضة المُسلحة الثانية ولدت "أوسلو 2" على أنقاض "أوسلو 1"، بعد أن جاست جنازير الدبابات الديار عام 2002، وداست كل معلم من معالم أوسلو، وغيبت الى الأبد من حاول النزول من الحافلة قبل أن تدخل في الحائط بعد أن اكتشف "الخديعة".. الحافلة مُفخخة وأن ما يلوح أمامه على طول الطريق ليس سوى سراب!!
على عجل وتحت تأثير الصدمة من وجع الفقد، استقل الوريث الحافلة من جديد في رحلة البحث عن الماء في صحراء التيه مُعلِلًا النفس بالأمل ببلوغ تُخوم الحُلم وبناء المزرعة السعيدة ليكتشف بعد طول تطواف أنها موجودة فقط في العالم الافتراضي.
يستشعر الوريث ثقل المسؤولية وهو يرى الأرض غير الأرض، والسماء غير السماء ودخان الوعود الكاذبة يَسدُّ الآفاق، فيقف أمام الأمم يدق ناقوس الخطر ويواصل السير بحذر وسط الألغام، فينظر من شبابيك الحافلة ليرى شعوبا وقبائل تتلظى بنار براكين الفتنة المذهبية والطائفية والعرقية.. على حَواف البركان يقف الآن؛ فالعدو أمامه والبركان خلفه، وليس له إلا الصبر!
السؤال الذي يطرح نفسه اليوم؛ ما الذي ستأتي به "الانتفاضة الثالثة" إن وقعت في اجواء الإنقسام الوطني، والتشظي العربي، والاستخفاف الإسرائيلي، والعزوف العالمي؟!
سؤال، مجرد سؤال، لا يستبطن أية دعوة الى الاستكانة، ولا الى استمراء الذُل والمهانة، ولا مصادرة الحق في النضال.. النضال بكل أشكاله التي كفلها القانون الدولي للشعوب الواقعة تحت الاحتلال، ولكن بأداء يراعي "فروق التوقيت"، واختلاف مطالع الظروف المحلية والإقليمية والعالمية، حتى لا نجد أنفسنا في التيه أو أن تنزلق أقدامنا الى ما انزلقت اليه شعوب حولنا، بعد أن تسلل قراصِنة طارئون متعددو الجنسيات، والولاءات، والاجندات، والمذاهب، والتيارات، وأجهزة المخابرات، وسط الهتافات وطُهر الشعارات، فسطوا على الثورات السلمية وحولوها إلى نار تأكل بعضها، بعد أن لم تجد ما تأكله، وجعلوا شعوبها تركب البحر في رحلة البحث عن أوطان غير أوطانهم، فالهاربون من الاوطان لم يهربوا من استبداد النظام، بقدر هربهم من اصحاب الاجندات، والولاءات، ومن يدعون الملكية الفكرية للنصوص الدينية، وامتلاكهم "الوكالة الحصرية" للفتوى والتاويل والتشريع واقامة الحدود وازالة اخرى!
التصعيد الحاصل اليوم هو فعل إسرائيلي بامتياز، وما يجري من أشكال النضال ما هو الا رد فعل، وهو رد مشروع وبكل أشكاله، مع تغليب الأخلاق على مشاعر الانتقام، بتجنب الاطفال والمدنيين.
لا يزيد ولا ينقص توصيف ردود الفعل التي يقوم بها الشعب الفلسطيني اليوم ضد الاعتداءات الاسرائيلية على الانسان والارض والمقدسات بـ "الانتفاضة"، أو بـ"هبة مؤقتة"، فالشعب الفلسطيني في رباط دائم في الارض التي بارك الله فيها وحولها، وهو سِنانُ الرُمحِ، في معركة المصير المتواصلة ضد الاحتلال ومقارفاته.
فمن يتحكم بردود الفعل هو الفعل نفسه، وطالما أن الإحتلال قائم، فإن ردود الفعل لن تتوقف إن بـ"هبات دائمة" او "مؤقتة" فهي في الحالتين تأخذ صفة "انتفاضة الضحية على الجلاد، والسجين على السجان"، حتى ينتصر الحق على الباطل، والوطن على الاحتلال، والدم على السيف.. فالاحتلال طارئ والطارىء لا محالة زائل.