افراسيانت - حسن قديم - منظر الأطفال في غزة وهم يصارعون الموت جوعا لا يُصدق، لولا أن الصور شاهدة عليه، والمجازر تملأ الشاشات يوما بعد آخر.. مئات الآلاف محاصرون بلا غذاء ولا ماء ولا دواء!
المجاعة تفترس الشيوخ والأطفال، والقتل لا يستثني امرأة ولا رضيعا. ورغم كل ذلك، فإن المشهد العربي يبدو ساكنا، بلا حراك يُذكر، إلا من بيانات إدانة لم تعد تقنع أحدا، ولا تغير من واقع الحال شيئا.
إذا كانت الأنظمة قد خذلت، فإن الشعوب ما زالت حية.. الملايين الذين يخرجون في الشوارع رغم القمع، والذين يقاطعون رغم الحملات، والذين يُربون أبناءهم على حب فلسطين رغم خذلان العالم، هؤلاء هم ما تبقى من نبض العروبة. لكن السؤال الكبير: إلى متى تبقى الشعوب وحدها؟
أمام ما يجري في غزة، يحق لنا أن نسأل بصراحة: هل ماتت النخوة العربية؟
ما زرعه الاستعمار من فرقة، منذ سايكس بيكو، سُقي لاحقا بماء الخنوع السياسي. أما اليوم، فها نحن نعيش حصاد هذا الانقسام، بعدما تحولت فلسطين من قضية مقدسة إلى "ملف مزعج" في عيون بعض الأنظمة.
ما كشفته الحرب على غزة، منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 ، تاريخ انطلاق الطوفان، وحتى اليوم، هو حجم الهشاشة السياسية والإنسانية في الموقف العربي! لم تعد فلسطين "القضية المركزية" كما يردد البعض، بل تحولت- في نظر كثير من الأنظمة- إلى ملف معقد يفضل تجنبه، أو- في أفضل الأحوال- أن يدار ضمن الحدود الدنيا، دون تجاوز "الخطوط الحمراء" التي ترسمها القوى الكبرى.
أميركا لا تخفي انحيازها، وإسرائيل تمارس الإبادة بلا خشية من عقاب. أما العرب، فإن مواقفهم تراوحت بين التنديد الخجول والصمت الكامل، وكأن الدم الفلسطيني لا يمتّ إليهم بصلة ولا تربطهم به رابطة الانتماء والعروبة، أو كأنهم فقدوا القدرة على الفعل، أو حتى الرغبة فيه.
ما نراه اليوم يؤكد ما حذر منه كثيرون سابقا فقد أصبحنا كغثاء السيل، لا وزن سياسيا، ولا تأثير دوليا، ولا هيبة تحفظ الحقوق أو تردع المعتدين. لا إسرائيل تحسب حسابا للغضب العربي، ولا أميركا تفكر مرتين قبل دعمها غير المشروط لآلة القتل.
ما زرعه الاستعمار من فرقة، منذ سايكس بيكو، سُقي لاحقا بماء الخنوع السياسي. أما اليوم، فها نحن نعيش حصاد هذا الانقسام، بعدما تحولت فلسطين من قضية مقدسة إلى "ملف مزعج" في عيون بعض الأنظمة. الانقسام، والتطبيع، والتذرع بـ"المصالح العليا"، كلها كانت تمهيدا لتجريدنا من القدرة على المواجهة، حتى بالكلمة.
خذلان الأنظمة هذه المرة ليس صمتا فقط، بل هو مشاركة غير مباشرة في الجريمة، تكون حين يتحول التواطؤ إلى سياسة، واللامبالاة إلى موقف.
ما من مشهد أكثر قسوة من غزة وهي تباد يوميا، بينما القمم العربية تنعقد وتنفض دون أن يتغير شيء على الأرض.. بيانات الإدانة لم تعد تقنع أحدا، والمبادرات لم تعد تتجاوز المراوغة اللغوية. صمتُ الأنظمة العربية -أو اكتفاؤها بالحد الأدنى من المواقف الرمزية- كشف عجزا لا يُغتفر، وتخلّيا لا يمكن تبريره.
هل بات الولاء للتحالفات الدولية أهم من الوفاء لقضية الأمة! بعض العواصم فتحت الأبواب للتطبيع، وبعضها الآخر اختبأ خلف "الواقعية السياسية" و"التعقيدات الإقليمية"، بينما أطفال غزة يُدفنون تحت الركام.
لم يُطلب من الأنظمة العربية أن تعلن الحرب، لكن ما يُطلب هو موقف شريف، شجاع، يتناسب مع فداحة المشهد؛ فلا يعقل أن تستباح مدينة عربية بهذا الشكل، دون أن يكون للعرب وزن سياسي أو تحرك يجبر المعتدي على التوقف.
الخذلان هذه المرة ليس صمتا فقط، بل هو مشاركة غير مباشرة في الجريمة، تكون حين يتحول التواطؤ إلى سياسة، واللامبالاة إلى موقف. هذا الغياب العربي الرسمي لم يكن فقط فاضحا، بل مفضوحا، والتاريخ سيكتب هذا الفصل من الخذلان بحبر لا يجف.
النخوة العربية، أو ما تبقى منها، تموت كل يوم يُقتل فيه طفل فلسطيني دون رد، تموت كل مرة يُمنع فيها شريان الحياة عن غزة ويقابَل ذلك بتقاعس عربي رسمي، تموت حين يُترك الفلسطيني الأعزل يواجه آلة القتل وحده.
يبدو أن ما نشهده اليوم هو امتداد طبيعي لمرحلة بدأت منذ عقود؛ فمنذ نكبة 1948، والعرب يتحدثون عن "الحق الفلسطيني"، لكن معظمهم لم يتجاوز الشعارات. تغيرت الأنظمة، وتبدلت الخطابات، لكن التراجع ظل ثابتا، بل تصاعديا.
أنظمتنا، حين فشلت في ردع الاحتلال، بدأت في ترويض شعوبها على قبول الأمر الواقع. أما اليوم، فقد بلغنا مرحلة جديدة: مرحلة التعامل مع فلسطين كملف محرِج، لا كقضية مقدسة… أصبح الفلسطيني يحمل وحده عبء مقاومة آلة عسكرية مدعومة دوليا، بينما تكتفي الأنظمة بالمراقبة، أو التبرير، أو ما هو أسوأ: التنسيق الأمني والسياسي خلف الكواليس.
الأكثر إيلاما من كل ما سبق هو الإحساس العام، الذي ترسخ في وجدان شعوبنا العربية، بأن الدم العربي لم يعد يُقلق أحدا، وأن الإنسان العربي هو الأرخص في بورصة السياسات الدولية… لا أحد يغضب لمجزرة، ولا يرتعش ضمير العالم لطفل يموت جوعا في غزة، أو تحت أنقاض بيت في رفح، أو في خيمة باردة في خان يونس.
بل إن السؤال الأخطر الذي يفرض نفسه: هل فقدنا إحساسنا بالكرامة؟ لقد صارت العروبة شعارات جوفاء، بعدما كانت تعني يوما الانتصار للمظلوم، والدفاع عن الأرض والعِرض، ولو على حساب المصالح.
من لم تهزه مجاعة غزة، ودماء أطفالها، ودموع أمهاتها، فليراجع إنسانيته أولا، وعروبته ثانيا.
النخوة العربية، أو ما تبقى منها، تموت كل يوم يُقتل فيه طفل فلسطيني دون رد، تموت كل مرة يُمنع فيها شريان الحياة عن غزة ويقابَل ذلك بتقاعس عربي رسمي، تموت حين يُترك الفلسطيني الأعزل يواجه آلة القتل وحده، بينما تُفتح العواصم للمهرجانات والاحتفالات وكأنه لا شيء يحدث.
لقد تغير الكثير في وجدان هذه الأمة، لكن ما لا يجب أن يتغير هو إدراكنا بأن ما يجري في فلسطين ليس "أزمة إنسانية" فحسب، بل هو اختبار أخلاقي ووجودي للعرب جميعا: أن نكون أو لا نكون.. إما أن نستعيد معنى الكرامة، أو نسلم بأننا شعوب بلا قضية، بلا صوت، بلا تأثير.
لم يُكتب بعد الفصل الأخير من هذه الحرب.. لا يزال في الميدان رجال ونساء وأطفال يواجهون الجوع بالصمود، والموت بالأمل، والخذلان بالإيمان! لكن هؤلاء لا يستحقون فقط التعاطف، بل الفعل، يحتاجون أكثر من التغريدات والتصريحات، يحتاجون موقفا يعيد للعروبة معناها، وللنخوة وزنها.
فمن لم تهزه مجاعة غزة، ودماء أطفالها، ودموع أمهاتها، فليراجع إنسانيته أولا، وعروبته ثانيا.