الشرق الاوسط ومثلث القوة: ماذا عن الشرق الاوسط الجديد؟

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 


افراسيانت - من المفيد الذكر هنا على ان امريكا واسرائيل واظبت منذ قيام الجمهورية الاسلامية في ايران الى التحريض ضدها والتهويل والقول بانها عدوة للعرب وهي تشكل تهديدا مباشرا لهم خاصة لدول الخليج . 


لكن المصالحة الايرانية السعودية جاءت لنفي هذا التحريض الامريكي الاسرائيلي كذلك العلاقات التي تطورت مع العديد من دول الخليج كعمان وقطر وغبرها ساهمت في محو الصورة التي ارادت امريكا واسرائيل تكريسها .


منذ أكثر من أربعة عقود، وتحديدًا بعد قيام "الجمهورية الإسلامية" في إيران بقيادة آية الله الخميني وانتهاء حكم الشاه، بدأت ملامح سياسة جديدة في التبلور. إذ سرعان ما أعلن الخميني، في أكثر من مناسبة، أن "إسرائيل" تُعدّ غدة سرطانية في قلب العالم الإسلامي، ولا بدّ من استئصالها. وكانت أولى خطوات تغيير السياسات هي تحويل السفارة الإسرائيلية في طهران إلى سفارة لفلسطين، وتسليمها إلى الراحل ياسر عرفات.


وهذا يشير، بعيدا عن أي تحليلات حول نوايا الجمهورية الإسلامية، إلى أنّ لفلسطين حضورًا قويًا في السياسة الإيرانية. ولم يتوقف الأمر لإثبات ذلك عند الشعارات، فقد شرعت الجمهورية الإسلامية منذ أواخر السبعينيات في بناء علاقات مع حركات التحرر الفلسطينية، بما في ذلك حركة فتح بقيادة ياسر عرفات. وقد شهدت شوارع طهران حينها أضخم التظاهرات المؤيدة لفلسطين خلال زيارة عرفات.


وتطوّرت شبكة العلاقات بين الجمهورية الإسلامية وحركات التحرر الفلسطينية تدريجيًا لتأخذ طابعًا مميزًا، ولا سيما مع حركتي حماس والجهاد الإسلامي. ولم يكن خافيًا أنّ الجمهورية الإسلامية أصبحت الداعم الرئيسي لحركات المقاومة في فلسطين، وخصوصًا هاتين الحركتين.


انطلاقًا من هذا المدخل، يمكن فهم أن علاقة الجمهورية الإيرانية بفلسطين، في عهد الخميني ومن بعده خامنئي، تختلف جذريًا عن علاقتها بفلسطين في عهد الشاه، حين كانت إيران من أبرز الحدائق الخلفية للموساد الإسرائيلي، وعملاء الولايات المتحدة الأميركية في الشرق الأوسط.


ويساعدنا هذا المدخل على فهم ما يجري اليوم، وربما ما سيجري مستقبلاً، بين الجمهورية الإسلامية ودولة إسرائيل، باعتبار الأخيرة دولة احتلال لفلسطين، التي تُعدّ أرضًا محتلة يجب تحريرها، حسب العقيدة الإيرانية الراسخة، ولا سيما لدى المرشد الأعلى والحرس الثوري في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.


لماذا الحرب على إيران الآن؟


فكرة مهاجمة الجمهورية الإسلامية ليست حديثة العهد. فنتنياهو لم يستيقظ فجأة على حلم قرر إثره مهاجمة إيران. بل إنّه كان يطرح هذه الفكرة منذ ما لا يقل عن خمسة عشر عامًا، محذرًا في كل محفل من أن "إيران قاب قوسين أو أدنى من امتلاك السلاح النووي"، وهو ما اعتُبر في العقل الإسرائيلي التهديد الأكبر لدولة إسرائيل. 


لكن التردد الإسرائيلي في الإقدام على هذا الهجوم كان نابعًا من القلق من ردّة فعل حلفاء الجمهورية الإسلامية في المنطقة، إذ كان من المحتمل، في حال نشوب حرب، أن تُفتح جبهات عديدة على امتداد ما يسمى بـ"محور المقاومة". فكان التريث، بانتظار الفرصة الأنسب للهجوم على إيران، هو سيدَ الموقف لدى إسرائيل دون أن تتخلى عن طموحاتها في التمدد الإقليمي.


إسرائيل والطوفان وعنصر المباغتة!


لم يكن سرًا أن كتائب القسام أعلنت مرارًا امتلاكها معلومات استخباراتية، أقرّ بحقيقة مضمونها بعض القادة العسكريين والأمنيين في إسرائيل، تشير إلى أن الاحتلال كان يخطط لشنّ هجوم واسع ومباغت على حركات المقاومة، في محاولة لإضعاف النفوذ الإيراني، يبدأ من غزة، عبر استهداف حركتي حماس والجهاد، والقضاء على قياداتهما.


غير أن المقاومة، وخصوصًا حركة حماس، استبقت الهجوم بهجومٍ مفاجئ أسمته "الطوفان"، لا تزال تداعياته ممتدة إلى اليوم. ومع تصاعد الصدمة الإسرائيلية من هذه الضربة، بدأ المشروع الصهيوني يتكشّف علنًا، بإعلان نتنياهو المتكرّر أنه ماضٍ في "تغيير الشرق الأوسط" باتجاه "شرق أوسط جديد". وكان قد كشف ملامحه في كلمته أمام الأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول 2023، قبل "الطوفان" بأسابيع، متحدثًا عن "إسرائيل الكبرى الجديدة".


وكانت الولايات المتحدة تقف خلف هذا التوجه، مدعومة ببعض الحلفاء الفاعلين في الإقليم.


الشرق الأوسط الجديد!


فكرة "الشرق الأوسط الجديد" ليست جديدة. فقد تحدّث عنها شيمون بيريز، رئيس الوزراء السابق لدولة الاحتلال، في كتابه المعروف بهذا الاسم. وكان بيريز يرى أن تحقيق السلام والرخاء الاقتصادي مع الدول المجاورة، وبشكل عام في الإقليم، هو السبيل لتحقيق هذه الرؤية.


لكن هذه الفكرة تعثرت لأسباب عدّة، أهمها وجود حركات مقاومة، خصوصًا في فلسطين، التي تبنّت نهج "وحدة الساحات" كإستراتيجية في نضالها ضد الاحتلال. ومع مرور أكثر من قرن على اتفاقية سايكس بيكو، واهتراء أنظمة التجزئة في المنطقة، ظهرت رغبة إسرائيلية قوية في فرض "شرق أوسط جديد" يمنحها قرنًا آخر من السيطرة.


ومضى الأمر لتحقيق ذلك فيما يشبه توزيع الأدوار: أميركا تركز على جبهتي أوروبا وروسيا، وتراقب صعود الصين، بينما تتولى إسرائيل مهمة مواجهة حركات المقاومة في المنطقة.


لكن السؤال: هل سينجح مشروع الشرق الأوسط الجديد؟


لنجاح هذه الفكرة، لا بد من تحقق أربعة محددات أساسية:


وجود رغبة حقيقية لدى أميركا وإسرائيل. توافر أنظمة فاعلة لدعم وتحقيق الفكرة. القضاء على حركات المقاومة في الإقليم، إلى جانب مناصريها. غياب الوعي الشعبي العربي والإسلامي، إضافة إلى دعم الأحرار حول العالم.


وعند تأمل هذه المحددات، يتبين أن الأول منها فقط هو المتحقق، أما البقية، وخصوصًا القضاء على المقاومة، فهي مستبعدة. فالمقاومة، رغم كل ما تعرّضت له خلال العامين الماضيين، ما تزال حيّة، وتخوض حرب استنزاف تؤلم الاحتلال. فهل يعقل أن يعجز الاحتلال عن القضاء على مقاومة صغيرة في غزة، ثم ينجح في القضاء على دولة بحجم إيران؟


هل ستنتهي إيران الآن؟


الرئيس الأميركي دونالد ترامب لم يكن أبدًا بعيدًا عن مشروع "الشرق الأوسط الجديد" بشكل أو بآخر، فسياساته ساهمت في تشكيل مناخ وظروف المنطقة.. فقد اختار الانسحاب من الاتفاق النووي في ولايته الأولى، وكان أبرز الداعمين لإسرائيل، بنقل سفارة بلاده إلى القدس، والاعتراف بالجولان كجزء من إسرائيل. 


ولكنه في ذات الوقت، رفع في الأشهر الأخيرة شعار الدبلوماسية والحوار مع الجمهورية الإسلامية ووضع سقفًا زمنيًا مدته شهران للوصول إلى اتفاق على المقاس والمعايير الأميركية.


وفيما خفي من الصورة، ظل التنسيق بين واشنطن وتل أبيب قائمًا بشأن مفاوضات إيران، التي اعتُقد أنها ستكون هدفًا سهلًا يمكن الانتهاء منه خلال أيام قلائل. لكن هذا التصور أغفل أن إيران، التي ترفع شعار تدمير إسرائيل منذ أكثر من أربعة عقود، لا يمكن أن تكون نائمة طوال تلك العقود لتصبح "لقمة سائغة".


ومع انقضاء المهلة التي منحها ترامب، وجّهت إسرائيل ضربة مباغتة ومكلفة لإيران، كشفت عن اختراق أمني خطير داخل الجمهورية الإسلامية. لكنها، رغم ذلك، استوعبت الضربة سريعًا وبدأت بالرد، فوجدت إسرائيل نفسها في مأزِق، طالبةً التدخل الأميركي.


ودخلت أميركا الحرب!


اندلعت الحرب، وبدأت جولات قتالية متعددة بين إسرائيل والجمهورية الإسلامية. لم تستطع إسرائيل تنفيذ ضربة فعّالة على المنشآت النووية الإيرانية دون دعم مباشر من الولايات المتحدة، التي لم تكن غائبة منذ البداية، بل شاركت سياسيًا، إعلاميًا، أمنيًا، ولوجيستيًا.


وتحقّق التدخل العسكري المباشر، الذي سبقته خدعة "مهلة الأسبوعين". فجاءت الضربة المفاجئة على مفاعلات فوردو ونطنز وأصفهان، والتي تنوّعت التقارير بشأن مدى الضرر الفعلي الذي أصابها.


ورد ترامب بالدعوة للسلام والعودة إلى طاولة المفاوضات، على طريقة: "السلام بالقوة". وردّت إيران بقصف محدود على قاعدة العديد في قطر، التي كانت قد أُخليت مسبقًا.


لكن إيران لم توسّع نطاق ردّها ضد أميركا، وركّزت في المقابل على مواصلة قصف إسرائيل، دون أن تلمّح إلى نية وقف الحرب. وهنا، أتصور أن هناك مجموعة من الأسباب جعلت الإيراني لا يتجه إلى توسيع مساحة الرد على القواعد الأميركية في المنطقة، وهذه الأسباب هي:


عدم رغبة إيران في الدخول في مواجهة مباشرة مع أميركا، لإدراكها حجم الرد المحتمل. عدم استعداد القوى الصديقة لإيران لخوض مواجهة مع أميركا، مما أضعف موقفها. تراجع قدرة بعض حلفاء إيران، الذين كانت تعوّل عليهم. اختراق أمني محتمل داخل إيران حال دون اتخاذ قرار بالمواجهة المفتوحة.


بعد ذلك أعلنت قطر عن وساطة بطلب أميركي، للضغط على إيران لوقف إطلاق النار مع إسرائيل.


وأظن هنا أن إسرائيل بحاجة أكبر من إيران لوقف إطلاق النار، لأسباب منها:


عجز إسرائيل عن تحمل خسائر الضربات الإيرانية المتكررة. عدم رغبتها في خوض حرب طويلة، بينما تقول إيران إنها مستعدة لها.


بقيت نقطة ما بعد وقف إطلاق النار، فهل سيذهب الإيرانيون للمفاوضات أم لا؟


من المرجّح أن إيران ستقبل الذهاب إلى المفاوضات، ولكن ليس بمنطق المستسلم كما أراد ترامب، بل كطرف يشعر بالنصر لصموده في وجه إسرائيل وأميركا معًا، وأفشل محاولة إسقاط النظام عبر خلايا داخلية دُرّبت لهذا الغرض.


ستتفاوض إيران، لكنها ستُبقي طلقة رصاص جاهزة في مسدسها، تحسّبًا لأي تصعيد تقوم به دولة الاحتلال.


هذه جولة من جولات الصراع بين دولة الاحتلال والجمهورية الإسلامية، وهي ليست نهاية الحرب. بل سيتبعها جولات عديدة قادمة، لا أظن أن المسافات ستطول بينها. وهي جولات تهدف إلى مشاغلة العدو، والوقوف في وجه فكرة الشرق الأوسط الجديد. 


لثد مثلث القوة في الإقليم ثلاثة أضلاع، وهي إسرائيل ثم تركيا ثم إيران، أمريكا ترسم حدود كل منها، وتتولى ضبط التوازن بينها، فتضمن بذلك السيطرة على الإقليم، بما يفرض هيمنتها، ويحقق مصالحها ويكفل لها وضع القوة المنفردة التي لا تزاحمها قوة منافسة على الإقليم. يجمع القوى الثلاثة، أن أياً منها لم يكن يشكل التهديد الأكبر ولا الخطر الأول على وجود وأمن الأخريين، لم تكن إسرائيل في يوم من الأيام تمثل تهديداً وجودياً لأي من تركيا أو إيران، وكذلك لم تكن تركيا ولا إيران تمثل كل منهما تهديداً وجودياً ضد إسرائيل، ثم ليس من الوارد أن تتحالف اثنتان منهما ضد الثالثة، صعب أن تتحالف تركيا وإيران ضد إسرائيل، كما صعب أن تتحالف إسرائيل مع إيران أو تركيا ضد واحدة منهما، فبالجغرافيا فإن الدول الثلاث ليس بينها احتكاك مباشر، ورغم أن تركيا وإيران بينهما حدود جغرافية مشتركة، إلا أنها ذات طبيعة جبلية وعرة، تعزل بينهما وتفصل أكثر مما تربط وتصل. 


وبالتاريخ، فإن التنافس بين تركيا وإيران على قيادة الإقليم يتواصل من مطلع القرن السادس عشر حتى اليوم والغد، وكلتاهما مع إثيوبيا كانتا في التخطيط الصهيوني الباكر قوي جوار للعرب يمكن للصهيونية التودد إليهم لحصار العرب، وقد نجحت الصهيونية في علاقات متميزة مع تركيا تتواصل منذ تأسيس إسرائيل دون انقطاع حتى الآن، كما نجحت في شيء مثل ذلك مع إيران حتى قيام الثورة الإسلامية 1979. كانت إسرائيل موجودة وكانت إيران- قبل الثورة وبعدها- ترى الخطر الأول عليها هو العراق، حتى سقط تحت الغزو الأمريكي 2003، فانزاح الخطر وانطلقت إيران تبسط سلطانها على غرب آسيا حتى شرق المتوسط دون قيود، كذلك كانت إسرائيل موجودة، وكانت تركيا تعتبر الخطر الأول عليها هو العراق ثم سوريا ومن ورائهما الاتحاد السوفيتي حتى سقط، فبدأت تركيا تتنفس ثم سقط العراق،

فبدأت تركيا تولي وجهها بقوة شطر الشرق الأوسط، ثم سقطت سوريا، فأصبحت تركيا قوة عظمى حقيقية في الإقليم رأساً برأس مع إسرائيل وإيران، بينما سقط العرب جميعاً، سقطوا القوة تلو الأخرى، من مصر الناصرية، ثم العراق الصدامية، ثم سوريا الأسدية، فخرج العرب من قيادة الإقليم، وبات على دولة مهمة في وزن السعودية ومعها دول الخليج الصغيرة، أن تحفظ وجودها بتركيبة متوازنة من العلاقات مع أمريكا ثم إسرائيل ثم إيران ثم تركيا، وإلا صارت في مهب الريح، ولك أن تتذكر أنه عندما قررت السعودية والإمارات والبحرين حصار قطر، تحركت قوات تركية وتمركزت في قاعدة عسكرية فوق التراب القطري 2017، هذه سابقة مهمة، تكشف لك عدة حقائق: تمدد النفوذ التركي في الخليج، ثم هذا التمدد برضا أمريكي، وهو يشبه التمدد التركي في سوريا، وهو أيضاً برضا أمريكي وكلاهما- في قطر ثم سوريا- تصادف مع حكم الجمهوريين برئاسة ترامب، ثم هذا الحضور العسكري التركي في قطر، لم يكن لمواجهة خطر إيراني أو عراقي لكن في مواجهة خطر خليجي، هذه التجربة كانت تجربة صغيرة، لكن ناجحة للسماح الأمريكي بنفوذ تركي يتمدد في الشرق الأوسط كعنصر ضبط وسيطرة، يعمل بتنسيق مع المركز الإمبراطوري في واشنطن دون الحاجة لتورط أمريكا بقواتها وجنودها بصورة مباشرة.


إسرائيل قلقة من السياسة الأمريكية تجاه تركيا وإيران، أمريكا مصالحها أوسع من أن ترتبط- فقط- بمصالح إسرائيل، أمريكا إمبراطورية يصعب أن تكون سياستها الخارجية في الشرق الأوسط من إملاءات إسرائيل بالكامل، بالقطع مصلحة إسرائيل أولوية لكافة الإدارات الأمريكية، لكن قبلها ومعها وبعدها أولويات كثيرة، تعني الإمبراطورية، ولو لم يعجب ذلك إسرائيل، هنا يلزم إيضاح عدة نقاط تاريخية مهمة لتوضيح صورة الأوضاع الراهنة واحتمالاتها المستقبلية.


1 – النقطة الأولى: علاقة أمريكا بإسرائيل لم تكن أبداً على النحو الذي نراه اليوم، حيث يتهيأ لنا أن إسرائيل تُملي على أمريكا- بقوة قاهرة- ما تقول وتفعل في الشرق الأوسط، وليس على أمريكا إلا أن تتقبل في إذعان وتسليم، الأمر لم يكن كذلك، فعند تأسيس إسرائيل اكتفت أمريكا بالاعتراف بها، مع وجود تأثير مهم لجماعات الضغط اليهودية، كما جماعات الضغط المسيحية البروتستانية الصهيونية، لكن بقيت مصالح أمريكا الاستراتيجية هي العنصر الحاكم والمهيمن في تخطيط وتنفيذ السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط، في تلك الأثناء كانت مصلحة أمريكا هي مواجهة النفوذ السوفيتي، ولهذا لم تكن إسرائيل هي المهمة، كانت الدولتان الأهم هما اليونان وتركيا، كما كانت أمريكا تسعى لكسب العرب بما في ذلك مصر بطبيعة الحال، وسعت أمريكا لتقديم عربون محبة غالي الثمن عالي القيمة لمصر والعرب، وذلك عندما تصدت وحدها لإجهاض وردع العدوان الثلاثي الإسرائيلي البريطاني الفرنسي على مصر، ولا مبالغة في القول، إن أمريكا أنابت نفسها إنابة كاملة عن مصر والعرب في هذه الحرب، أمريكا حاربت العدوان الثلاثي بالإنابة عن مصر والعرب، رغم ذلك فإن العرب اختاروا الانحياز للسوفييت، فعلت ذلك مصر من 1955، ثم العراق بعد سقوط الملكية الهاشمية في انقلاب 1958، ثم سوريا بعد انقلاب البعث 1963. كانت أمريكا تريد العرب، لكن كان العرب يريدون السوفييت، العرب اعتبروا أمريكا استعماراً جديداً أسوأ من الاستعمار الأوروبي، بينما رأو أن السوفييت قوة تحرر، فأدارت أمريكا ظهرها للعرب، وولت وجهها صوب إسرائيل.

في العشرين عاماً الأولى والأخطر من عمر إسرائيل، لم تكن أمريكا هي الراعية الأولى لها، كانت أمريكا تضع مسافات متوازنة في علاقاتها بالعرب وإسرائيل، كان الراعي الأول لإسرائيل- هو بريطانيا، ثم حلت محله فرنسا حتى أواخر عهد ديجول عند قرر الانسحاب من الجزائر، وإقامة علاقات متوازنة مع العرب وإسرائيل، ثم بعد فرنسا حلت أمريكا في مكان الراعي الأول لإسرائيل، وقد توافق ذلك مع النصر الإسرائيلي الكاسح ضد عموم العرب وانتهاء حقبة الزعامة الناصرية لتبدأ حقبة التأثير السعودي، وما عُرف باسم الصحوة الإسلامية. 


2 – النقطة الثانية: الموقف الأخلاقي الأمريكي كان وما يزال مرتبكاً ومزعزع العقيدة والضمير والوجدان بين أمرين: حق إسرائيل في البقاء، ثم حق إسرائيل في العدوان، ويزداد الارتباك مع حقيقة أن أمريكا ذاتها معذبة الضمير، بينما كان يعتبر حقها في البقاء كأمة تأسست من مهاجرين، اغتصبوا أراضي غيرهم من الآمنين الودعاء المسالمين، ثم حقها في العدوان عليهم واستئصالهم من الوجود، بهذا المعنى فإن قصة إسرائيل هي قصة أمريكا مع فارق المزاعم الإسرائيلية في أرض المبعاد، وهي تجد قبولاً لدى البروتستانت الأمريكان الذين يعتقدون- دينياً- أن تجميع اليهود في الأرض المقدسة تمهيد لازم لعودة سيدنا المسيح عليه الصلاة والسلام.

لكن هذا الارتباك الأخلاقي الأمريكي تجاه إسرائيل خفف منه، حتى أزاله تماماً حقيقة أن حكام العرب- من تلقاء أنفسهم- يرتمون تحت جناح إسرائيل سراً ثم علناً، هم من تلقاء أنفسهم خرجوا من الصراع، ومن تلقاء أنفسهم ينشدون السلام مع إسرائيل، بما في ذلك القيادة الرسمية لمنظمة التحرير الفلسطينية التي هي- دون غيرها- معنية بتحرير فلسطين عبر النضال بكل الوسائل الممكنة ضد إسرائيل، لقد قال جورج فريدمان في كتابه الذي كتبه عام 2012 يضع فيه تصوراً وتخطيطاً، لما ينبغي أن تكون عليه سياسة أمريكا في العالم خلال السنوات العشر بعد تاريخ صدور الكتاب، كتب يقول إن العرب في وضع من الضعف وإسرائيل في وضع من القوة، بحيث باتت إسرائيل تتصرف بحرية دون أن تحسب أي حساب لردود أفعال العرب (ص 148 من الترجمة العربية للكتاب تحت عنوان الإمبراطورية والجمهورية في عالم متغير).

ما دام وضع العرب هكذا، فماذا يضغط على أمريكا أو غير أمريكا لتلزم نفسها بسياسة متوازنة بين العرب وإسرائيل، هذه معادلة انتهت، انتهى الصراع بين العرب واسرائيل، لم تعد دولة عربية واحدة تُسِر أو تُعلِن، أنها في صراع مع إسرائيل بما في ذلك السلطة الوطنية الفلسطينية، لهذا فإن جورج فريدمان يخصص الفصل السادس من الكتاب ليدعو الإمبراطورية الأمريكية، أن تنأى بنفسها عن إسرائيل، وذلك لا يعني أن تتخلى عنها، ولكن يعني أن ترسم أمريكا سياستها في الشرق الأوسط من منظور مصالحها كإمبراطورية، وليس من منظور المصالح الإسرائيلية، فإسرائيل أصبحت من القوة، كما العرب أصبحوا من الضعف، بحيث لا خوف عليها من أي تهديد عربي، ويضرب مثالاً بأقوى دولة عربية، وهي مصر ، فسلام مصر مع إسرائيل هو أكبر شهادة ضمان لأمن وبقاء إسرائيل، إذ مصر بين العرب هي من كانت تملك تهديد إسرائيل، ثم زال هذا التهديد باتفاق كامب ديفيد 1978، وليس في الأفق أي رجوع مصري محتمل عن الالتزام الشديد به، وبين هذا النموذج ظهرت دول الخليج العربي التي ترى في التحالف مع إسرائيل يخدم عدة أهداف: باب واسع إلى أمريكا وقوى الضغط اليهودي بها، ثم حليف ضد إيران، ثم ضمان أمان ضد المخاطر المباغتة، مثل، بغتة الغزو العراقي للكويت وبغتة الحصار الخليجي لقطر، ثم قوة تملأ الفراغ الذي تركته مصر ثم العراق ثم سوريا. في مثل هذه الأوضاع العربية لم تعد إسرائيل في حاجة ماسة لمن يرعاها ويكفل بقاءها، ويضمن وجودها ويصد عنها الأخطار، فلديها من القوة ومن الانتصارات، ما يكفي للاطمئنان كما لدى العرب من الضعف والانقسام وضياع الهيبة وفقدان الهوية، ما يجعلها في أمان مطلق. وفيما يخص الحق الفلسطيني، فإن الفلسطينيين أنفسهم منقسمون، وكل المطلوب هو تغذية هذا الانقسام، ثم شراء الوقت، ثم تؤول القضية الفلسطينية من تلقاء ذاتها إلى زوايا التهميش، يخدم ذلك أن عموم الحكام العرب مخاوفهم- بالدرجة الأولى- ليست من إسرائيل لكن من شعوبهم ومن تململ الأجيال الجديدة، ومن دعوات التغيير ومن مطالب الديمقراطية، بقاء الديكتاتوريات في الحكم هو أولوية الحكام العرب، وليس مواجهة إسرائيل ولا أمريكا. لكل ذلك، يدعو جورج فريدمان للاطمئنان على إسرائيل، ويدعو للنأي عنها بمعنى تخطيط وتنفيذ سياسة خارجية، تتقيد بمصالح الإمبراطورية الأمريكية، وليست مصالح دويلة صغيرة متفوقة ومتقدمة ومنتصرة وذات سيادة في الإقليم مثل إسرائيل.


3 – النقطة الثالثة: هذا النأي عن إسرائيل يسميه جورج فريدمان بناء توازنات قوى إقليمية، تحفظ مصالح أمريكا وتضبط الإيقاع، وتحفظ استقرار الشرق الأوسط عبر توظيف قواه المحلية بعضها في موازنة بعضها الآخر دون الحاجة لتكرار التدخل الأمريكي المباشر بالقوات والجنود على الأرض، العرب ليسوا مذكورين من هذه القوى الإقليمية، فليسوا مطروحين في خريطة التوازنات، المهم هو ألا تتعرض أي دولة بترولية للاحتلال، هذا هو بيت القصيد، بعد ذلك، فلا مانع أن تكون دول الخليج تحت ضغوط عصبية سواء من داخلها كخوف قطر والكويت والإمارات من الخطر السعودي، أو من خارجها مثل التنافس الإيراني- التركي على النفوذ فيها، لا مانع أن توضع دولة مثل السعودية تحت ضغط عصبي من تمدد إيراني أو تفوق تركي. القوتان المذكورتان في بناء توازن إقليمي بعيداً عن إملاءات إسرائيل على أمريكا هما: تركيا وإيران في الشرق الأوسط، ومثلهما روسيا وأوروبا في أوراسيا، ومثلهما الهند والباكستان في الشرق الأقصى. نركز اليوم على إيران وتركيا.


4 – النقطة الرابعة: فيما يخص إيران، فإن مصلحة إسرائيل هي ضرب قدرات إيران النووية ضرباً حاسماً، تخرج به من المسار النووي تماماً، تحاول إسرائيل أن تجر أمريكا لهذا، وأمريكا تتفادى لأن لها تقدير مختلف للعلاقة مع إيران، أمريكا لا تريد إيران قوة نووية، لكن لا تمانع فيما دون ذلك، لا تمانع في بقاء نظام الجمهورية الإسلامية، لا تمانع في التمدد الشيعي، لا تمانع في نفوذ إيراني قوي في الخليج، تتفهم مطلبين مهمين لإيران: ألا يكون العراق- من جديد- مصدر تهديد لأمن إيران، ثم لا يكون لأمريكا على أي من حدود إيران، الشيء الوحيد الذي تمانع فيه أمريكا- بعد النووي وقبل النووي- هو أن تغامر إيران باحتلال دولة خليجية في ساعة أو بعض ساعة كما فعل العراق من قبل، وكما من الوارد أن تفعل السعودية من بعد. غير ذلك، دور إيران مطلوب من زاوية المصالح الأمريكية، فهي عنصر توازن كابح لعرب الخليج، وعنصر توازن ضابط مع النفوذ التركي الصاعد، كما هي عنصر قلق مع قوة جامحة بغير لجام ولا زمام مثل إسرائيل، ثم هي- قوة شيعية- وازنة مع الأصوليات الإسلامية السنية المتطرفة والنازعة للإرهاب. إيران مصلحة أمريكية مهمة فقط بشرطين: بدون سلاح نووي، بدون احتلال دولة خليجية أو أكثر. غير هذا كل الأمور العالقة من الممكن تسويتها بين البلدين. على هذا الأساس يدعو جورج فريدمان إلى اتفاق مع إيران، وبالفعل تم الاتفاق في عهد أوباما، ثم ألغاه ترامب في ولايته الأولى، ثم يبادر ترامب بالعودة للتفاوض حتى يمكن الوصول إلى اتفاق، واضح أن المبادرة الأمريكية لا تروق لإسرائيل، وواضح أن أمريكا لا يعنيها أن توافق أو تعترض إسرائيل، فهذه مصلحة الإمبراطورية بالدرجة الأولى، لن تستجيب أمريكا لرغبة إسرائيل في ضرب قدرات إيران النووية؛ فترد إيران بتلغيم ثم إغلاق مضيق هرمز، فتتوقف ملاحة بحرية تنقل أكثر من 40 % من الصادرات البترولية المشحونة بحراً. 


5 – النقطة الخامسة: النفوذ التركي في الشرق الأوسط مصلحة أمريكية، كانت كذلك في زمن الحرب الباردة والمواجهة الأمريكية مع الاتحاد السوفيتي حتى مطلع تسعينيات القرن العشرين، ثم باتت كذلك مع بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وظهور ما سمي بالخطر الإسلامي حتى أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، ثم تضاعفت أهمية تركيا في ميزان المصالح الأمريكية بعد ذلك التاريخ، تم إفساح الطريق لمجيء أردوغان، ثم إفساح المجال لصعوده، وقد نجح في إعادة هندسة السياسة الداخلية في تركيا، ثم نجح في الذهاب بالنفوذ التركي إلى كل شبر في الشرق الأوسط، في كل محطة كانت إيران تتمدد من الشرق، كانت تركيا أردوغان تتمدد من كل الاتجاهات، حتى باتت تحزم الشرق الأوسط بحزام كامل غير منقطع ولا منفصل، ولم يصدر عن تركيا أردوغان 2002 – 2025، ما يخل بالتوافق بينه وبين الأمريكان، أو ما يخرج عن حدود الدور المسموح به، إلا ما كان يتعلق بإخراج المسائل بصورة تحفظ كرامته الشخصية، وتتسق مع صورته العامة كقائد إسلامي لبلد علماني من الوجهة الرسمية، وينسجم مع واقع تركيا كأقوى جيش ثم أقوى اقتصاد في الإقليم، نجح أردوغان في أكثر من عشرين عاماً، أن يدخل بتركيا إلى كل بيت في الشرق الأوسط، وليس فقط إلى سياسات الشرق الأوسط، وجد فراغاً، فمدد رجليه فيه براحة وأمان. وسواء بقي أردوغان في موقعه أو تغير، وسواء كان من في الحكم علماني أو إسلامي، فسوف تظل تركيا قوة صاعدة لعقود مقبلة.
……………………………..
هذا هو مثلث القوة في الشرق الأوسط الوشيك تشكيله، إسرائيل، إيران، تركيا، ليس منه العرب لسبب بسيط، وهو أنهم اختاروا السلام الذي هو بمعنى التسليم والراحة والإذعان في إقليم يعيش فيه الأقوياء منذ الأزل تحت ظلال السيوف، هكذا كان، وهكذا سوف يبقى، بؤرة صراع إلى الأبد. 

 

©2025 Afrasia Net - All Rights Reserved Developed by : SoftPages Technology