بين وهم السلام وحتمية المواجهة

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 


افراسيانت - عبد العزيز المصطفى - في زمن تُرفع فيه شعارات السلام الشامل والاستقرار الإقليمي، المدعوم بصفقات تجارية ورفاه اقتصادي سيعم المنطقة، يلوح في الأفق سؤال جوهري، لكل ذي عقل: هل السلام الذي يروج له في منطقتنا هو سلام حقيقي، قائم على العدالة، وإعادة الحقوق لأصحابها؟ أم إنه مجرد وهم يُروّج لفرض الأمر الواقع، وتمييع القضايا المصيرية، حتى يموت الكبار وينسى الصغار؟


لعله من المفيد للإجابة عما سبق، أن نستحضر شواهد التاريخ السياسي، فهي دليلنا ومرشدنا؛ فقد ورد أن رئيس وزراء بريطانيا "آرثر نيفيل تشامبرلين"، عندما شعر أن هتلر يفكر بغزو بريطانيا، حاول جاهدًا بشتى السبل ثنيه عن مخططاته، وسافر مرات عدةً إلى ألمانيا، وتوج زياراته المكوكية بتوقيع معاهدة "ميونخ" الشهيرة 1938، والتي تنازل من خلالها عن كثير من المصالح البريطانية؛ تفاديًا للغزو النازي!


لقد تحول "السلام" في بعض السياقات إلى أداة سياسية تُستخدم لكسب الوقت، أو تمرير مخططات كبرى تُفرغ الشعوب من كرامتها وحقوقها التاريخية، لا سيما في مأساة مثل القضية المركزية- ليس للعرب فحسب، بل للإنسانية جمعاء- قضية فلسطين النازفة منذ سبعة قرون.


عاد "تشامبرلين" كبطل سلام، يلوّح بأوراق المعاهدة أمام الصحفيين قائلًا بثقة: "سلام بشرف.. لقد جلبت السلام لعصرنا!". بيدَ أن الرياح سارت عكس توقعات السياسي الحالم بسلام ورخاء لدولته؛ فلم تمضِ سوى أشهر قليلة حتى اندلعت شرارة الحرب العالمية الثانية، وكانت تلك الوثيقة مجرد ورقة في مهب العاصفة النازية، ولم تساوِ ثمن الحبر الذي كتبت به.. لقد صدّق "تشامبرلين" وعود السلام، بينما كانت آلة الحرب الألمانية تسن سكاكينها خلف الابتسامات الدبلوماسية، ريثما تكتمل الخطط.


هذه الواقعة ليست مجرد درس من الماضي، بل مرآة تعكس واقعًا تعيشه منطقتنا اليوم؛ فكثيرون يتحدثون عن السلام، ولكنهم يتجاهلون أن السلام الحقيقي لا يُمنح، بل يُنتزع، فالسلام ليس صك استسلام، ولا ورقةً يوقعها الضعفاء طمعًا في رحمة الأقوياء، بل هو حالة من التوازن الذي يعيد الحقوق ويمنع المزيد من الحروب.


لقد أثبتت التجارب أن الاحتلال لا يفهم إلا لغة القوة، والمواجهة معه لا تعني بالضرورة حربًا دمويةً غير متكافئة، بل تقتضي- مع أضعف الإيمان- رفض الهيمنة، ودعوة لليقظة، وصرخة في وجه العجز الإقليمي، وتحذيرًا من تكرار أخطاء التسويات المذلة، ومقاومة التطبيع، والتشبث بالهوية، وبناء مشروع نهضوي قادر على تحقيق متطلبات الصمود؛ فكل تجارب التحرر في العالم، كانت ثمرة مواجهة طويلة مع المحتل أو المستبد، لا نتيجة تسويات مذلة.


وللأسف، لقد تحول "السلام" في بعض السياقات إلى أداة سياسية تُستخدم لكسب الوقت، أو تمرير مخططات كبرى تُفرغ الشعوب من كرامتها وحقوقها التاريخية، لا سيما في مأساة مثل القضية المركزية- ليس للعرب فحسب، بل للإنسانية جمعاء- قضية فلسطين النازفة منذ سبعة قرون.


فلقد أظهرت التجارب أن من يراهن على "وهم السلام"، دون أن يمتلك أوراق القوة، ينتهي به المطاف في دائرة التبعية؛ فالعدو لا يحترم الضعفاء، ولا يعطي الحقوق مجانًا، بل يقتنص الفرص، ويستغل الهوان السياسي والانهيار العسكري. أما من يعد العدة، ويبني إرادته على الصمود والكرامة، فهو وحده من يصنع مسارًا تفاوضيًّا حقيقيًّا، يفرض فيه شروطه من موقع القوي لا المستسلم.


ومن يراجع "مبادرات السلام" في العقدين الأخيرين، يدرك أنها غالبًا ما تنتهي إلى تطبيع العلاقات مع الكيان المعتدي، دون تقديم أي تنازل حقيقي من طرفه، وهنا تصبح المواجهة المدروسة هي الطريق الوحيد لإعادة التوازن.


لقد علمنا التاريخ أن الأمم التي تنحني تحت وهم السلام وحراب القوة تفقد بوصلتها وتضيع قضاياها؛ أما التي تختار المواجهة الواعية، فإنها تكتب التاريخ، وتصنع السلام، وتحقق الازدهار بشروطها.


نعم، شعوبنا تواقة للأمان، والسلام غاية سامية، لكنه لا يُبنى على أضغاث أحلام، أو على ركام المنازل، وقصف المدن!! السلام لا يتحقق مع من يحتقر وجودك، ويستهين بدمك! وإن الركون إلى سلام منقوص يجعلنا نتآكل من الداخل، ونربي أجيالًا خاضعةً، ونخسر آخر ما نملك من عزة وكبرياء.


وفي الختام: إن أمتنا ومنطقتنا اليوم أمام مفترق طرق: إما أن تتوحد مواقفها، وتستفيق من سباتها، وتدرك أن السلام لا يُشترى من أسواق السياسة، بل يُصنع بإرادة الأحرار، أو أن تظل تطارد سراب التسويات حتى تتلاشى في صحراء الحيل، ومكر الأعداء.


ويبقى الواقع كما قال "مالك بن نبي": "الاستعمار لا يغادر أرضًا إلا إذا شعر أن التربة لم تعد صالحةً لزرعه"… فلتكن تربتنا مقاومةً، وليكن وعينا سلاحنا الأول.

 

©2025 Afrasia Net - All Rights Reserved Developed by : SoftPages Technology