افراسيانت - نبيل الجبيلي - شكل قرار فرنسا الصادم، بمنح حصانة لرئيس حكومة اليمين المتطرف، الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، طعنة قاسية لفكرة العدالة، وفي الوقت عينه دلالة لا تقبل الشك على انتقائية وازدواجية المعايير الأوروبية، ونظيرتها الأميركية.
الأسوأ من ذلك أنّ الحصانة الباريسية لم تكن نابعة من قناعة، أو من فتوى أو اجتهاد قانوني، بل كانت عبارة عن "تنازل سياسي" من أجل دفع نتنياهو إلى القبول بعضوية فرنسا في لجنة مراقبة تطبيق القرار الدولي 1701 في لبنان، وضمان وقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حزب الله"، الذي يضمن لباريس حماية مصالحها الاقتصادية في لبنان وتوسيعها.. حتى ولو كان بالشراكة مع إيران وأذرعها.
إذا كانت العواصم الغربية المؤثرة قد تذرعت في حينه بالتبريرات والحجج التي وردت في متن القرار الصادر بحق بوتين من أجل تأييده، فإن نتنياهو يواصل مع حكومته وجيشه ارتكاب مذبحة بحق المدنيين في غزة منذ أكثر من سنة ناهيك عن الجرائم في لبنان . التي تُنقل مباشرة عبر قنوات التلفزيون ووسائط التواصل الاجتماعي، من دون أن تقوم أي دولة غربية من بين تلك التي تدّعي الحرص على مفاهيم العدالة وحقوق الإنسان، بممارسة أيّ ضغط جديّ على حكومة المتطرفين في إسرائيل من أجل إيقاف آلة الحرب والقتل، ناهيك عن استمرار تدفق الأسلحة والقنابل والصواريخ من العواصم الغربية إلى تل أبيب.
المراقب لهذا الفعل الفرنسي المستهجن لا يمكنه إلا أن يقارنه بالسلوك نفسه حيال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مع ما تمثله دولته من قوة عظمى، بوصفها واحدة من الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي؛ فبوتين لم يحصل على حصانة من هذا النوع من أي دولة أوروبية، بعدما أصدرت المحكمة نفسها قرارًا مشابهًا.. لا بل على العكس من ذلك، لقي قرار المحكمة الجنائية الدولية بحق بوتين آنذاك، دعمًا وترحيبًا هائلين أوروبيًا وأميركيًا.
السؤال المطروح اليوم هو حول جدوى استمرار التنظير في القوانين الدولية وحقوق الإنسان، بل جدوى تدريس القانون الدولي في الجامعات في ظل هذه الاستنسابية الفاقعة!
الموقف الأميركي الرافض لمذكرة التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو، ومن بعده الحصانة الباريسية، ثم تراجع أصوات أطراف غربية أخرى.. كل ذلك أحدث صدمة في الأوساط الحقوقية، وأعاد فتح النقاش حول إمكانية تجسيد وجود العدالة الدولية من عدمه، لا سيما أنّ ثمّة كثيرًا من المنظمات والجمعيات والشخصيات الأوروبية والأميركية قد بذلت جهودًا طويلة ومكثفة على مدار سنوات طويلة من أجل إقناع الشعوب في الدول النامية، ودول ما يعرف بالعالم الثالث بأهمية العدالة الدولية، باعتبار أنّها "الضمانة" التي تحميهم في وجه ممارسات الأنظمة القمعية والاستبدادية.
أكثر ما كان لافتًا كذلك، وقوف أميركا وشركائها البارزين في حلف شمال الأطلسي (الناتو) ضد مذكرة التوقيف بحق نتنياهو!. هذا الموقف دلّل على أن المحاكم الدولية على اختلاف أنواعها وتسمياتها، وفوقها القوانين الإنسانية وسواها من مشتقات العدالة الدولية، كلها ما هي إلا أدوات يستخدمها الغرب لإعادة إنتاج هيمنته على القرار العالمي، حيث يستخدمها تارة للضغط على الدول والحكومات لتقويض سيادتها، وتارة أخرى لتطويع القوانين بما يكفل استدامة مصالحها المالية والاقتصادية.. كما يبين أيضًا أنّ حدود استخدام هذه الأدوات مرتبط بالأهداف الجيوسياسية الغربية.
وبالتالي، فإنّ السؤال المطروح اليوم هو حول جدوى استمرار التنظير في القوانين الدولية وحقوق الإنسان، بل جدوى تدريس القانون الدولي في الجامعات في ظل هذه الاستنسابية الفاقعة!