افراسيانت - محمد جرادات - يراكم الإسرائيلي جرائمه في لبنان ضمن استراتيجية الدفاع العسكري لتوفير فرصة للحل الدبلوماسي لكفّ يد حزب الله، وتأتي تفجيرات أجهزة البيجر ربما كآخر هذه الضغوط.
يشتد الصراع في شمال فلسطين مع كل عدوان إسرائيلي جديد على لبنان ومقاومته، وما يعقبه تباعاً من زحف لحزام نار حزب الله في عمق الشمال، وهو زحف يقضم جذوع جبال الجليل باتجاه "حيفا" و"تل أبيب" رويداً رويداً، ويتسع قدماً ولا ينحسر بحال ضمن استراتيجية بعيدة المدى يتلألأ مداها منذ الثامن من أكتوبر، ويعصف صداها عقب كل نجاح إسرائيلي أمني بالاغتيالات والتفجيرات.
تأتي جريمة تفجيرات البيجر ضد شباب المقاومة وعوائلهم كعنوان جديد في سياق النجاح الأمني الإسرائيلي المفرغ من الأثر الاستراتيجي، في ظل قدرة المقاومة على احتواء الجريمة، ثم توسيع دائرة الهجوم نارياً وجغرافياً، مع اختيار وقت الرد النوعي ضمن متطلبات الميدان المشتعل بشكل يومي في طول الشمال وعرضه، ليشتد أوار السؤال الإسرائيلي الداخلي حول النازحين من سكان الشمال، بعد إدخال مستوطنات ومساحات جديدة في دائرة القصف اليومي، لتبدو معه خيارات عودتهم ضيقة، وهي بالأساس خيارات محدودة، فما أبرز هذه الخيارات؟
راهن الإسرائيلي على الخيار الدبلوماسي منذ بداية الإسناد اللبناني لغزة في مواجهة حرب الإبادة، في حرص غريب منه على حصر المواجهة في غزة، نظراً إلى هجوم السابع من أكتوبر، وهو الذي لطالما توعد بإعادة لبنان إلى العصر الحجري مع أول صاروخ ينطلق منه ضد الكيان، فيما يتكشّف المشهد بعد قرابة عام من المواجهة غير الشاملة عن شمال شبه فارغ من المستوطنين، ومن بقي منهم فهو يخاطر على حياته، وربما يخالف التعليمات.
حرص الإسرائيلي على الخيار الدبلوماسي على الطريقة الأميركية والفرنسية أمام تطورات واقع الشمال المزرية على الصعيد النفسي، فالإسرائيلي لأول مرة ينزح داخل البلد، ومن يصمد فهو لا يحظى برعاية أولوية من "جيش" الكيان ومؤسساته الأمنية والمدنية، ضمن فراغ اقتصادي أحرق الزرع والنسل، على الرغم من المحاولات الإسرائيلية الحثيثة لإخفاء خسائر الكيان البشرية، والتي تنقضها بيانات المستشفيات والمراكز الطبية في الشمال، والتي أكدت أنها عالجت أكثر من ألفي إسرائيلي خلال الشهور الماضية.
فشل الخيار الدبلوماسي بين الكيان ولبنان، تبعاً لفشل مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة، مع إصرار المقاومة المبدئي على ربط هجماتها اليومية المتصاعدة بوقف الحرب على غزة، وهو ما دفع الإسرائيلي إلى محاولة اللعب على وتر التصعيد العسكري المحدود والعمل الأمني النوعي، مع أولوية الخيار الدبلوماسي ضمن المساعي الغربية والعربية، وهو ما ظهر بتصعيد الاغتيالات، وكان ذروتها اغتيال القائد السيد محسن، وهو الاغتيال الذي سمح على الرغم من قسوته، بتحول هجمات حزب الله نحو نهاريا وصفد وطبريا وعكا، لتغدو كشأن روتيني لا يكسر حاجز التحول نحو حرب شاملة، وهو ما أفرغ الاغتيال حتى من محتواه الميداني فضلاً عن الاستراتيجي، وخصوصاً مع الرد النوعي عليه قرب "تل أبيب" ضد مقر الوحدة 8200، والذي ساهم بتكريس واقع "تل أبيب" كجزء من ساحة النزف الإسرائيلي، وخصوصاً مع وصول الصاروخ اليمني إلى ضواحيها.
شكّل فشل خيار التوازي بين الدبلوماسية والتصعيد العسكري والأمني مناسبة إسرائيلية لمحاولة استعادة هيبة الردع التي تهاوت منذ السابع من أكتوبر وتبددت في رمال غزة واستعصاء شمال الضفة وضربات اليمن والعراق، والأهم هنا تصاعد وتيرة الإذلال في الشمال، والنازحون يصرخون متى يعودون، وباتوا يشككون في أن الدولة لم تعد سوى دولة غوش دان؛ تل أبيب ومحيطها.
يراكم الإسرائيلي جرائمه في لبنان ضمن استراتيجية الدفاع العسكري لتوفير فرصة للحل الدبلوماسي لكفّ يد حزب الله، وتأتي تفجيرات أجهزة البيجر ربما كآخر هذه الضغوط، وخصوصاً مع ما خلفته من عدد هائل من الجرحى أغرق المستشفيات اللبنانية، وخلق حالة من الهلع، نظراً إلى طبيعة التفجيرات، مع إصابة السفير الإيراني في بيروت، ولو كانت إصابة طفيفة من تفجير جهاز أحد حراسه، فهل وضعت هذه التفجيرات خيار إعادة مستوطني الشمال إلى بيوتهم على مفرق طرق؟
يدرك الإسرائيلي أن حسم خياراته نحو الحرب ضد لبنان، مع انسداد الأفق في غزة والضفة، خيار ثقيل يجعله بالفعل يخوض الحرب على 7 جبهات، وجبهة لبنان أخطرها، وخصوصاً إذا فتحت معها الجبهة السورية، ولكن الكيان الإسرائيلي يتحرك على وقع السابع من أكتوبر أسيراً لجرح عميق مع غرور مطلق، في ظل قيادة معزولة داخلياً وخارجياً، رغم تدفق التسليح الغربي بلا حدود، وهي قيادة متهورة على الرغم من ترددها مع لبنان، وإن حاولت تعويض هذا التردد ببعض النجاحات الأمنية، وآخرها تفجيرات البيجر، ولكن ذلك كله لا يعيد سكان الشمال، بل يضاعف عدد النازحين منهم، ويفاقم أزمتهم، ويعمق جغرافيا النزوح، وهو ما يجعل خيار الحرب حتمياً في ظل تكلس مفاوضات وقف النار في غزة، فهل يؤدي ذلك إلى زحزحة إسرائيلية في غزة مع انعدام الخيارات مع لبنان تجنباً لحتمية خيار الحرب ضده؟
يصعب تخيل رؤية تغييرات دراماتيكية في المشهد الإسرائيلي الداخلي بما تحوّل عقارب الساعة باتجاهات مختلفة، إلا إذا كان ما يتردد عن نية نتنياهو إقالة وزير الحرب غالانت وتعيين جدعون ساعر مكانه أمراً جديّاً، وهو ما يمكنه خلق فرصة تحول، ولكن ليس بالضرورة أن تؤدي إلى سقوط نتنياهو، وإن زعزعت مكانته داخل حزب الليكود الحاكم، ونتنياهو مصرّ على حرب غزة وعلى إعادة سكان الشمال، بل واعتبار قضية الشمال من أهداف الحرب كأولوية، ما يعزز احتمالات التصعيد بين لبنان والكيان ويفتح الباب على مصراعيه، مع بقاء مفتاح القضية في مفاوضات الدوحة، ليسقط هناك من يصرخ أولاً، والمقاومة ليس أمامها خيار كهذا، ما يجعل القضية برمتها منوطة باللحظة التاريخية التي يسقط فيها نتنياهو أو يتهور نحو حرب ليس بمقدوره ضبط إيقاعها، ما يبقي سكان الشمال، كما المنطقة برمتها، بانتظار تلك اللحظة.