افراسيانت - د. عبير عبد الرحمن ثابت - تظهر سياسة الإدارة الأمريكية فى عهد الرئيس الحالى دونالد ترامب جانب مهم من طبيعة السياسة والعلاقات الدولية دون أى أقنعة دبلوماسية، فلم تشهد قاعة الجمعية العامة على مر تاريخها خطاب لرئيس أمريكى أو ربما لأى رئيس دولة عظمى بحجم هذا الوضوح الوقح والصادم فى الكثير من جوانبه؛ والفاقد كليا للحد الأدنى من الدبلوماسية والتى من الضرورى أن تتحلى بها مواقف الدول العظمى السياسية.
لقد استعرض ترامب بنرجسيته الساذجة ما أنجزه لبلاده على مدار عامين لتغرق القاعة خلال هذا الاستعراض بسيل من الضحكات الساخرة من قادة دول العالم؛ ضحكات ذات معانى عميقة وبعدها صمت الرجل لبرهة ومن المؤكد أنه لم يفهم تلك المعانى العميقة؛ ليرد بأنه لم يتوقع ردة الفعل تلك من مستمعيه فى القاعة الفاخرة وواصل الرجل خطابه الصادم ليعلن فى مجمل خطابه أن الولايات المتحدة من الآن فصاعدا لن تعطى بل ستأخذ من الجميع، وفى نهاية الخطاب كان واجبا على كل من ضحك سلفا أن يعيد النظر فيما سمع من ترامب، فالعالم اليوم أمام تحدى كبير بوجود تلك العقلية فى سدة اتخاذ القرار لأكبر دول العالم اقتصاديا وعسكريا. والإدارة الأمريكية اليوم تضع العالم أمام تحديات سياسية واقتصادية كبرى لا يستبعد أن تنزلق لاحقا إلى تحديات عسكرية، ولكن التحدى الأكبر للعالم الذى تفرضه الإدارة الأمريكية عليه هو تحدى أخلاقى عميق الدلالات لأن نجاح سياسات الادارة الأمريكية يعنى ببساطة انهيار تام لمنظومة التعاون والشراكة بين الأمم، وهو ما سيؤدى حتما لتقويض دعائم الاستقرار والسلم الدولى.
وهنا على العالم وبالأخص الاتحاد الأوروبى أن يدرك مدى العبث الاستراتيجى الذى اقترفه عندما وضع جل بيضه فى السلة الأمريكية قبل أكثر من سبع عقود اعتمادا على شبكة الروابط الاقتصادية والقيم المستركة على ضفتى الاطلنطى، والتى أصبحت ترى الادارة الامريكية بزعامة ترامب أنها روابط ضارة بالولايات المتحدة تأخذ منها أضعاف ما تعطيها.
والجميع اليوم أمام إدارة لا ترى أى بٌعد حضارى إنسانى أخلاقى لدور الولايات المتحدة كقوة عظمى إنما ترى فقط البعد الامبريالى القومى الفاشى لقوتها مستغلة حاجة العالم لها فى تمرير سياساتها الجديدة الموغلة فى القومية بعيدا عن كل قيم الشراكة والتعاون الدولى حتى مع أصدقائها قبل خصومها، ومن الواضح أن الكثير من شعوب العالم ستدفع ثمن تلك السياسات من اقتصاداتها خاصة فى العالم الثالث أو ما يعرف بالدول النامية، فعندما يصبح اقتصاد أكبر دولة فى العالم اقتصاد قومى لا يؤمن بشركة المصالح الاقتصادية فإن أى نسبة نمو لذلك الاقتصاد تعنى ببساطة خفض فى نسب النمو لاقتصاد ما فى هذا العالم، وكل نصر سياسى لتلك العقلية القومية هو بالتاكيد هزيمة لكل من يؤمن بقيم الشراكة الانسانية المتحضرة وانتكاسة لنهج التعاون الدولى وتقويض للسلم الدولى.
وبكل تأكيد نحن الفلسطينيون من أوائل أولئك الضحايا المرتقبين لإدارة ترامب، فهو عاقد العزم وجاد جدا على تصفية القضية الفلسطينية لأنه يدرك تماما حبة الكرز التى ستتوج كعكة سياساته هى إنهاء الصراع الفلسطينى الاسرائيلى؛ وأن خروجه من البيت الابيض قبل تحقيق هذا الانجاز سيعنى فشلا سياسيا كبيرا لإدارته، ومن هنا علينا أن نتخيل حجم الضغوط التى مورست وستمارس مستقبلا على الطرف الفلسطينى للقبول بالتسوية التى تعرف إعلاميا بصفقة القرن؛ والتى بدأت الإدارة الأمريكية فى تنفيذها واقع على الأرض منذ عام عبر الاعتراف بالقدس عاصمة لاسرائيل ونقل سفارتها إليها ووقف الدعم لوكالة الغوث وإغلاق مكتب منظمة التحرير فى واشنطن وصولا لوقف المساهمة فى موازنات مشافى القدس، ورغم كل تلك الضغوط لا زالت القيادة الفلسطبنية صامدة فى رفضها لسياسة إدارة ترامب ولا زال الرئيس الفلسطينى المدرك جيدا لأبعاد ما يجرى يقاوم بصلابة تستحق الاعجاب لكل الضغوط الأمريكية متمترسا خلف الشرعية الدولية ومتسلحا بها، وفى المقابل فإن تدعيم هذا الصمود ليستمر يتطلب لزاما ترتيب الفوضى فى الوضع الداخلى الفلسطينى المتمثلة بالانقسام الفلسطينى الذى يفتح الباب واسعا لتمر صفقة القرن بكل سلاسة، فإن مبررات الانقسام الفلسطينى السياسية قد انتهت اليوم بعدما أصبحت القيادة الفلسطينية على يمين حركة حماس فى مواقفها الرافضة للتسوية الأمريكية وبعدما عدلت الحركة ميثاقها واستبدلت المقاومة المسلحة بالسلمية عبر تظاهرات فك الحصار على الحدود الشرقية للقطاع، وبعدما اتخذ المجلس الوطنى والمركزى قرارات متقدمة بتعليق الاعتراف باسرائيل ووقف التنسيق الأمنى معها والتحلل من اتفاق باريس وهى قرارات تعنى فى مضمونها إنهاء اتفاق أوسلو اذا ماوضعت محل التنفيذ. ولم يعد ثمة اختلاف سياسى بين الطرفين، حتى قضية سلاح التنظيمات العسكرية ليست بالعقبة الواقعية التى تمنع تخطى مرحلة الانقسام إذا ما كان هذا السلاح بين أيادى وطنية تدرك حجم الخطر الداهم على مستقبل شعب يراد له أن يكون من تبقى منه فى فلسطين هنودا حمرا جدد للشرق الأوسط.
إن تضخيم العراقيل وافتعالها أمام إنهاء الانقسام هو جريمة بحق الفلسطينين وخاصة الأجيال القادمة، والوضع الذى آل له قطاع غزة اليوم هو بالدرجة الأولى مسؤولية أصحاب القرار فيه قبل أى أحد آخر وهم تحديدا ما عليهم اتخاذ القرار الرشيد للخروج من الأزمة التى أحدثتها قرارات خاطئة غير مسؤولة قبل وخلال عقد من الزمن دفع ولا زال يدفع كل سكان القطاع ثمنها، وقطاع غزة اليوم بمشكلاته المزمنة وبحالته الاشكالية الاقتصادية والسياسية أكبر من أن يتحمل مسؤوليته دول فكيف يمكن لحركة فعل ذلك؟
لا أحد بمقدوره تحمل عبئ غزة ولن يقبل أحد أن تلقى غزة فى حجره وهو ما يعنى ببساطة أن أى شئ لن يتغير فى غزة ما لم تكون تحت حكم السلطة الشرعية التى يعترف بها العالم، تلك حقيقة سينتهى الانقسام عندما يدركها أصحاب القرار فى غزة ولو أنهم أدركوها باكرا لما وصلنا إلى ما نحن فيه اليوم، ولا ما تجرئ الرئيس ترامب على أن يحلم مجرد الحلم بانهاء القضية الفلسطينية بصفقة كتلك التى ينفذها اليوم والتى يمثل الانقسام الفلسطينى حجر الزاوية فيها.
إن تقويض صفقة القرن هى بالأساس مهمة فلسطينية، ولكن على العالم أن يشارك الفلسطينين ويدعمهم إن أرادوا للأجيال القادمة فى العالم أن تعيش فى عالم متحضر تسود فيه قيم الشراكة والتعاون والحرية والعدالة والسلم والأمن الدوليين بحدودهم الدنيا، لأن تمرير صفقة القرن هو تقويض لكل تلك القيم التى هى فى الحقيقة باكورة التقدم الحضارى الانسانى للبشرية جمعاء .
أستاذ علوم سياسية وعلاقات دولية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
...