افراسيانت - زهير أندراوس - لنبدأ الحكاية من البداية: بريطانيا، هي أشّد الدول تآمرًا على الشعب الفلسطينيّ، هذه الدولة الاستعماريّة بامتياز هي التي منحت فلسطين على طبقٍ من ذهب للحركة الصهيونيّة لتُقيم عليها دولة الاحتلال، خانعةً وخاضعةً للمقولة الكاذبة: أرضٌ بلا شعبٍ، لشعبٍ بلا أرضٍ، أيْ أنّها خططّت ونفذّت أكبر جريمة في العصر الحديث، والتي أدّت إلى طرد وتهجير شعبٍ بسواده الأعظم، ومن الناحية الأخرى، تمّ استجلاب اليهود من جميع أصقاع الأرض لإقامة دولةٍ، ما زالت تتلقّى الدعم الماديّ والمعنويّ في المحافل الدوليّة وفي جميع المجالات من القارّة العجوز ومن راعية الإرهاب العالميّ، أمريكا. وفرنسا، التي قتلت مليون ونصف المليون جزائريّ، خلال الاستعمار، لا تقّل تواطئًا وتخاذلاً عن بريطانيا، فباعترافٍ رسميٍّ، قامت بتزويد إسرائيل بكلّ ما يلزم من أجل بناء الفرن الذريّ في ديمونا، أمّا ألمانيا، فمُستمرّة بدعم الاحتلال، وهي التي زودّت تل أبيب بالغواصّات التي بقدرتها حمل رؤوسٍ نوويّةٍ، هذا ناهيك عن المعونات الأخرى، والوقوف إلى جانب إسرائيل في كلّ شاردةٍ وواردةٍ.
***
ولا نُجافي الحقيقة بتاتًا إذا جزمنا بأنّ الاتحاد الأوروبيّ في الجوهر، تكتيكيًا وإستراتيجيًا، يدعم استمرار تفوّق إسرائيل على العرب، في جميع المجالات، أمّا تأييده للقضيّة الفلسطينيّة فلا يتعدّى الضريبة الكلاميّة التي لا تُسمن ولا تغني عن جوع، ناهيك عن أنّ القارّة العجوز، تابعة بالمُطلق لأمريكا، التي يُسيطر عليها اللوبي الصهيونيّ-اليهوديّ، ولا غضاضة في هذه العُجالة بالتذكير: في الثالث من شهر تشرين الأوّل (أكتوبر) من العام 2001، عندما كان أرئيل شارون، رئيسًا للوزراء، عقد المجلس الوزاريّ-الأمنيّ المُصغّر اجتماعًا لتدارس الدعوة الأمريكيّة لإسرائيل بوقف إطلاق النار في الضفّة الغربيّة. شيمعون بيريس، حذّر في الجلسة عينها من أنّ عدم موافقة إسرائيل على الطلب من شأنه أنْ يعود سلبًا على العلاقات مع واشنطن. شارون، ردّ: "نحن الشعب اليهوديّ نُسيطر على أمريكا، والأمريكيون يعرفون ذلك".
***
سُقنا هذه المُقدّمة لنطرح السؤال التالي: هل الصناديق الغربيّة، أيْ الأمريكيّة والأوروبيّة، التي تقوم بتمويل المنظمات غيرُ الحكوميّة (NGO) في فلسطين، يُمكن أنْ يُعوّل عليها؟ هل هذه المؤسسات يُمكن أنْ تخرج عن بيت الطاعة الغربيّ الرسميّ، الداعم لإسرائيل؟ ومن هذا السؤال يُمكن استنباط السؤال التالي: هل هذا الدعم يهدف إلى وضع سقفٍ أعلى لمطالب الفلسطينيين؟ ذلك أنّ الموقف الأوروبيّ الرسميّ والمُعلن هو إقامة دولةٍ فلسطينيّةٍ في الضفّة وقطاع غزّة، على أنْ تكون القدس الشرقيّة عاصمةً لها، ويتساوق هذا الموقف مع الموقف العربيّ، الذي تمّت المُوافقة عليه في قمّة بيروت عام 2002 والقاضي بتبنّي "مُبادرة السلام العربيّة"، (السعوديّة الأصل)، القاضية بالتطبيع الكامل والشامل مع إسرائيل، مُقابل انسحاب الأخيرة من الأراضي التي احتلتها في عدوان العام 1967، أمّا فيما يتعلّق بحقّ العودة، والعودة أهّم من الدولة، فإنّ أوروبا لا تختلف عن جامعة الدول العربيّة كثيرًا: القارّة العجوز تُعارض حتى عودة لاجئٍ واحدٍ إلى داخل الخّط الأخضر، فيما ترك العرب المسألة مفتوحةً زاعمين البحث عن "حلٍّ عادلٍ" لقضية اللاجئين!!.
***
بناءً على ما تقدّم، فإنّ أيّ عربيّ-فلسطينيّ يُطالب بحلٍّ آخر لقضيته، يتحوّل بقدرة غيرُ قادرٍ إلى خارجٍ عن الصّف، أيْ أنّ المُطالبة بالمٌقاومة على جميع أشكالها وأنواعها، بما في ذلك المقاومة السلميّة الشعبيّة، تجعله "خصمًا" بنظر أولئك، الذين يعتمدون على الأموال القادمة من الغرب، ومن أجل ذلك، يجب التساؤل بشفافيّةٍ وبصراحةٍ متناهيتين: هل الغرب بات عربيًا أكثر من العرب، وفلسطينيًا أكثر من الفلسطينيين؟ لماذا هذا الدعم؟ سؤال وجيه في زمنٍ رديء. فمن نوافل القول إنّ كلّ صندوقٍ داعمٍ للجمعيات غير الحكوميّة يضع شروطًا للتمويل، وهذه الشروط برأينا المُتواضع، تهدف إلى ترويض الفلسطينيّ، وإلزامه بقبول الحلّ الذي يتماشى مع الموقف الأوروبيّ الرسميّ، ولا ضير في هذا السياق من اللجوء إلى الطوباوية والسؤال وبالفم الملآن: أوروبا التي أقامت إسرائيل على أرض فلسطين قبل أكثر من سبعين عامًا، لو أرادت، فعلاً وليس قولاً، الضغط على إسرائيل لإقامة دولةٍ فلسطينيّةٍ في الضفّة والقطاع، هل كانت ستنجح؟ نترك الإجابة مفتوحةً.
***
النقد البنّاء، دون توجيه الاتهامات لهذا أوْ تلك، هو من أهّم الأمور في كلّ مُجتمعٍ، فما بالكم إذا دار الحديث عن مُجتمعٍ في مرحلة تحرّرٍ وطنيٍّ، فإسرائيل، التي تسير بخطىً حثيثةٍ من العنصريّة إلى الفاشيّة، والتي لا تتورّع عن ارتكاب المجازر بحقّ الفلسطينيين على مرأى من العالم، الذي يكتفي بالتنديد وبشكلٍ خافتٍ، إسرائيل، لو شعرت بأنّ أموال الدعم الغربيّة التي تصل إلى فلسطين بصورةٍ منتظمةٍ وعلنيّةٍ، تُشكّل عليها خطرًا، لما كانت سمحت لها بالعبور من الغرب إلى البلاد، وهذه الحقيقة، على الرغم من بشاعتها، تُحتّم علينا إعادة تقييم مسألة الدعم للجمعيات غيرُ الحكوميّة، ومرّةً أخرى، لا نزعم، لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ، بأنّ الحصول على الأموال الغربيّة هو خيانة أوْ تآمر، ولكن على المُستوى البعيد، نعتقد أنّ هذه الأموال ستكون بمثابة كيدٍ مُرتدٍّ علينا، وحبذّا لو بحثنا عن طرقٍ أخرى لتمويل نضالنا من أجل حقوق شعبنا بدون أوصياء استعماريين، كانوا وما زالوا أحد الأسباب الرئيسيّة في نكبتنا المُستمرّة.
***
خلاصة الكلام: شخصيًا، أُعارض وبشدّةٍ تلقّى المال من المُجرمين، الذين كانوا سببًا في نكبة شعبي، والذين يُواصلون عدوانهم على الأمّة العربيّة، من العراق إلى ليبيا فاليمن، وسوريّة، قلب العروبة النابض، أكبر مثال على النفاق والتآمر الأوروبيين، ذلك أنّ هدفهم المفصليّ كان وما زال وسيبقى: الحفاظ على الحبيبة-الربيبة إسرائيل.