افراسيانت - تتجاوز خطورة شركات الإنترنت الاستحواذ على الإعلانات الرقمية والمحتوى الإعلامي إلى مدى أكثر خطورة، يتجلى في التلاعب بعقول المستخدمين والسيطرة على حرية التفكير، الأمر الذي تقف القوانين الأميركية عاجزة أمامه أو متواطئة، فيما أخذ الاتحاد ألأوروبي على عاتقه مهمة التصدي لهذه الشركات.
في السياق , أفاد الملياردير الأميركي جورج سوروس بأن مواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت تتسبب في الإدمان شأنها شأن المسببات العادية للإدمان، متهما إياها بالتلاعب بعقول البشر وبرمجة خدماتها على أن يستخدمها الكثيرون باستمرار، ويرى أن الاتحاد الأوروبي قادر على كسر هيمنة شركتي فيسبوك وغوغل لأنهما تسببتا في الإدمان للبشر.
وذكر سوروس، في مقال بصحيفة الغارديان البريطانية، أن شركتي فيسبوك وغوغل، لعبتا دورا إبداعيا في الماضي، ولكنهما الآن تشكلان عائقا أمام الإبداع، فهما تتربحان من إدمان المستخدمين على مواقعهما لفترات طويلة.
ولأن شركات التواصل الاجتماعي هي عبارة عن شبكات بطبيعتها، فإنها تتمتع بارتفاع في معدلات العائدات الهامشية، والتي تستخدمها من أجل خدمة نموها الهائل. وعلى الرغم من أن تأثير هذه الشبكات فعلي ومؤكد ويكون له أثر تحويلي في حياة البشر، إلا أنه قد يكون غير مستدام على الجانب الآخر. حيث استغرق الأمر لشركة فيسبوك ثمانية أعوام ونصف العام كي تصل إلى مليار مستخدم، ونصف ذلك الوقت لتصل إلى المليار الثاني.
وتسيطر كلا الشركتين، فيسبوك وغوغل، على أكثر من نصف عائدات الإعلانات الرقمية. وللحفاظ على هذه السيطرة، تحتاج هاتان الشركتان إلى توسيع شبكاتهما وزيادة حصتهما من المستخدمين، وهو ما تفعلانه حاليا، من خلال تزويد المستخدمين بجميع الإمكانيات التي يحتاجونها في المنصة.
وعلى الجانب الآخر، لا يمكن لمقدمي المحتوى أو المستخدمين، تجنب استخدام تلك المنصات، ويصل الأمر إلى أنهم مستعدون لقبول أي شروط تفرض عليهم، وبذلك يُسهمون بشكل فعال في أرباح شركات وسائل التواصل الاجتماعي.
وتقول كل من غوغل وفيسبوك، إنهما فقط توفران معلومات للمستخدمين، وأنهما تحاولان بشكل مستمر مكافحة البيانات الزائفة والمضللة. وتدعي هاتان الشركتان أن كل ما تقومان به هو مجرد توزيع للمعلومات. رغم حقيقة أن كونهما شبه محتكرين لهذا المجال يجعلهما قادرتين على فرض القواعد الصارمة التي تتراءى لهم والتي تهدف في النهاية إلى الحفاظ على المنافسة وسياسة الاستخدام العادلة المفتوحة.
وتعتمد شركات التواصل الاجتماعي، على زبائنها الحقيقيين من أجل استغلالهم في الإعلان عن خدماتهم. ولكن هناك نموذجاً جديداً آخذ في الظهور، لا يعتمد فقط على الدعاية ولكن أيضاً على بيع المنتجات والخدمات مباشرة للمستخدمين.
وتستغل الشركات حجم البيانات التي تسيطر عليها، وتقوم بعمل حزم للخدمات التي تقدمها وتستخدم سياسة التمييز في وضع خطط الأسعار الخاصة بها من أجل الحفاظ على المزيد من الفوائد التي تتقاسمها مع المستخدمين، مما يعزز من ربحيتها. بيد أن نظام حزم الخدمات واتباع سياسة التمييز في وضع الأسعار يقوض من كفاءة اقتصاد السوق.
وتواصل شركات التواصل الاجتماعي خداع مستخدميها من خلال التلاعب باهتماماتهم واستخدامها لصالح أغراضهم التجارية الخاصة، وجعلهم يدمنون على استخدام الخدمات التي تقدمها. وهذا يمكن أن يكون ضاراً جداً، ولا سيما بالنسبة للمراهقين. فهناك تشابه كبير بين منصات الإنترنت وشركات المقامرة. فقد وضعت الكازينوهات تقنيات جديدة لجذب الزبائن إلى درجة تجعلهم يقامرون بكل ما يمتلكون من أموال، فيما تعمل شركات الإنترنت على إغواء المستخدمين بطريقة تجعلهم يستسلمون في النهاية ويتخلون عن استقلالية تفكيرهم.
وتتركز هذه القوة، القادرة على تشكيل طريقة تفكير المستخدمين، في أيدي عدد قليل من الشركات، وهو ما سيتطلب جهداً كبيراً، كما قال الفيلسوف البريطاني جون ستيوارت ميل، من أجل الدفاع عن حرية التفكير، التي إذا ضاعت، ربما لن تستطيع هذه الأجيال التي تعيش العصر الرقمي أن تستعيدها مرة أخرى.
وستكون لذلك تداعيات سياسية بعيدة المدى. فالناس من دون حرية عقل أو تفكير، يمكن التلاعب بهم بمنتهى السهولة. وهذا الخطر لا يلوح فقط في المستقبل، ولكنه لعب دوراً هاماً في انتخابات الرئاسة الأميركية عام 2016.
لكن تبعيات الموضوع الأكثر خطراً بدأت تلوح أيضاً في الأفق من خلال التحالف الناشئ بين الحكومات الاستبدادية والشركات الغنية والمحتكرة للبيانات، ليولّد في الأخير نظاماً تشرف عليه الدولة من أجل مراقبة الشركات. وهذا من شأنه أن يشكل شبكة كبيرة من السيطرة الاستبدادية التي لم يكن من الممكن حتى على جورج أورويل أن يتصورها.
ومن تلك الدول التي من المحتمل أن تحدث فيها هذه الزيجات “غير الشرعية” هي روسيا والصين. حيث تمتلك الصين شركات تكنولوجيا تضاهي تماماً تلك المنصات الموجودة في الولايات المتحدة من حيث القوة. أما الشركات المحتكرة للتكنولوجيا في الولايات المتحدة فإنها تميل إلى التنازل قليلاً من أجل الوصول إلى هذه الأسواق الشاسعة والسريعة النمو. وقد يكون القادة الدكتاتوريون في هذه الدول سعداء جداً بالتعاون معهم، من أجل تحسين أساليبهم في السيطرة على شعوبهم وتوسيع قوتهم ونفوذهم في الولايات المتحدة وبقية العالم.
لا تمتلك الحكومة أو الهيئات التنظيمية في الولايات المتحدة القدرة الكافية لمواجهة التأثير السياسي لهذه الشركات والمنصات
وهناك أيضا اعتراف متزايد بالصلة بين هيمنة شركات المنصات وتزايد سياسة “عدم المساواة”. فقدرة تلك الشركات على احتكار السوق تجعلهم يتنافسون أيضاً في ما بينهم، حتى يكبر نفوذهم بشكل يجعلهم قادرين على ابتلاع الشركات الناشئة التي يمكن أن تتطور إلى منافسين.
أما شركات التكنولوجيا العملاقة فهي لا تمتلك الإرادة أو حتى الميل إلى حماية المجتمع من عواقب أفعالها. وهذا يحولها إلى خطر كبير يهدد المجتمع، ومسؤولية ذلك تقع حتماً على عاتق الحكومة من أجل حماية المجتمع.
ولا تمتلك الحكومة أو الهيئات التنظيمية في الولايات المتحدة القدرة الكافية لمواجهة التأثير السياسي لهذه الشركات والمنصات العملاقة. ولكن نجد على العكس أن الاتحاد الأوروبي يتمتع بوضع أفضل.
ويستخدم الاتحاد الأوروبي تعريفاً مختلفاً لسياسة الاحتكار عن الولايات المتحدة. ففي حين يتناول القانون الأميركي في المقام الأول سياسة الاحتكار على أنها ناشئة عن الاستحواذ، يحظر قانون الاتحاد الأوروبي إساءة استخدام القوة الاحتكارية بغض النظر عما حققته من إنجازات. فأوروبا بشكل عام تمتلك قوانين خصوصية ولحماية للبيانات أقوى بكثير من الولايات المتحدة.
يضاف إلى ذلك أن القانون الأميركي اعتمد عقيدة غريبة تقيس الضرر بمقدار زيادة الأسعار التي يدفعها الزبائن مقابل الخدمات التي يتلقونها. وهذا من المستحيل إثباته، بالنظر إلى أن معظم منصات الإنترنت العملاقة توفر غالبية خدماتها مجاناً لزبائنها. بالإضافة إلى أن هذا المعتقد يتجاهل النظر في قيمة البيانات التي تقوم هذه المنصات بجمعها من مستخدميها.
وكانت مارغريث فيستاجر، مفوضة المنافسة في الاتحاد الأوروبي، هي بطلة مبادرة الاتحاد الأوروبي لتغريم غوغل، والتي استغرقت من الوقت حوالي 7 سنوات. وبالنظر إلى النجاح الذي حققته تلك المبادرة، تم وضع لوائح وضوابط صارمة. وبفضل جهودها، بدأ النهج الأوروبي في التأثير على الممارسات التي تحدث في الولايات المتحدة.
إنها ليست سوى مسألة وقت قبل أن يتم كسر الهيمنة العالمية لمنصات الإنترنت العملاقة في الولايات المتحدة، والتي ستلعب فيها اللوائح وسياسة فرض الضرائب التي تقودها فيستاجر، دوراً كبيراً في تحقيق هذا التراجع.