افراسيانت - مهند الصباح - أطلّ علينا في 6 ديسمبر 2017 سيّد البيت الأبيض، ليعلن عن القدس عاصمة أبديّة لدولة إسرائيل، الأمر الذي أشعل الشارعين العربي والدولي لبضعة أيّام تخللها عقد لقاءات دوليّة سواء على المستوى العربي- الإسلامي، أو على مستوى الجمعيّة العموميّة للأمم المتّحدة، لتُسجّل بعض انتصارات سياسيّة نحو تثبيت حق الفلسطيني بدولة ذات سيادة على جزء من أرضه التاريخيّة، مدركين تماما بأنّ المعركة مع الاحتلال لا يمكن حسمها بالضّربة القاضيّة، وإنّما من خلال الإنجاز التراكميّ بشقيه، الأول وهو الشق السياسيّ، وهذا ما حدث في الأمم المتّحدة ومازال يحدث في المؤسسات الدوليّة، أمّا الشق الآخر وهو الميداني فما زال يجري على استحياء شديد، وبعد الأسبوع الأوّل للإعلان أقتصر الفعل الميداني على أيّام الجمعة تقريبا، عدا عن بعض البؤر المشتعلة بشكل يومي. حالة مغايرة تماما لما حدث في شهر تموز الماضي حين أقدمت شرطة الاحتلال على نصب بوابات إلكترونيّة على مداخل المسجد الأقصى، تلك الفترة شهدت تحركات ميدانيّة بشكل يومي على مدار أربعة عشر يوما، رافقها تحرّك سياسي مما أجبر الشرطة الاسرائيليّة على التراجع وخلع بواباتها الالكترونيّة؛ ليعود المسجد الأقصى كما كان قبل الإغلاق. هذا التكامل الميداني والسياسي صعّب المسألة على الشرطة الإسرائيليّة، فباتت تهاب إغلاق المسجد أيّام الجمعة، لأي سبب كان كما كانت تفعل. وبالرغم من تأزّم الشّارع نتيجة إعلان ترامب إلا أنّها لم تغلقه ليوم واحد، وما كان هذا ليحدث لولا ردّة الفعل الميدانيّة والسياسيّة على ما أقدمت عليه سابقا. فيما الآن نجد تراخيا بعض الشيء في نشاط الشّارع تجاه الإعلان الأخير، وكأنّ أيّام الحداد الثلاث قد انقضت. ربما تعود أسباب ذلك إلى:
أولا: الاختلاف في نوعيّة التحدّي، فإغلاق المسجد الأقصى كان بمثابة تحد شخصي لكل فلسطيني شعر بقرب انهيار الجدار الأخير لكرامته، وشعر ايضا بحجم المسؤوليّة الملقاة على كاهله، فأخذ زمام أمره بكلتا يديه، وباشر بالاعتصام والمواجهة بدون أي توجيه فصائلي، ولم ينتظر قرارا سياسيّا يطلب منه التصدّي والوقوف في وجه البوابات. بينما في الحالة الراهنة عزا المواطن الفلسطيني ما آلت إليه الحالة الفلسطينيّة وإعلان الرئيس الأمريكي لفشل الدبلوماسيّة الفلسطينيّة الرسميّة منذ إعلان الكونغرس الأمريكي لقرار نقل السفارة في العام 1995. ناهيك عن مماطلة القيادة الفلسطينيّة في الانضمام لكافّة المحافل الدوليّة وخاصة محكمة العدل الدوليّة، وإلغاء بعثة اليونسكو للقدس في وقت سابق مقابل وعود أمريكيّة لم ترَ النور إطلاقا، وهو الذي يشاهد كلّ يوم تضخم أعداد المستوطنين في حدود دولته المتناقصة التي وعده بها اتفاق أوسلو.
ثانيا: العقد الاجتماعي، أثناء معركة البوابات حدث شيء لا بد من الوقوف عنده مطولا، وهو تغيّر طبيعة العقد الاجتماعي – ولو لفترة وجيزة- حين أوكل الفلسطيني إدارة معركته للمرجعيّات الدينيّة لإدارة دفّة المواجهة، وساندها ميدانيا بشكل قوي وملفت ونجح بفرض أجندته، مما أدّى بالمرجعيات الدينيّة للتشبث بمطلبها وعدم التراجع عنه، حتى نجحت ونجح معها الفلسطيني بعد أربعة عشر يوما، ودخلت الجماهير باب حطّة والمرجعيّات الدينيّة محمولة على الأكتاف. أمّا في الحالة الراهنة فالعقد الاجتماعي مخلخل أساسا، ويحتاج إلى ترميم جسور الثقة بين الفلسطيني وقيادته السياسيّة والفصائليّة، هذا الخلل مردّه إلى فقدان الثّقة بين عامّة الشّعب وقيادته، ممّا أدّى إلى حدوث كسل في المواجهة الجماهيرية السلميّة، وعاد الفلسطيني العاميّ يطرح سؤاله المتجدد في كل مواجهة حول مدى تأثيره المستقبلي أو الآنيّ في تصويب البوصلة الوطنيّة نحو نيل حقوقه المشروعة. مما جعل الدبلوماسيّة الفلسطينيّة كطائر يطير بجناحه الأيمن مصابا. تراخي الحراك الجماهيري الفلسطيني انعكس سلبا على تحركات الجماهير العالميّة المساندة للحق الفلسطيني إلا من بعض شوارع الدول المجاورة، وخاصّة الشّارع الأردني الملتهب غضبا مؤكدا بذلك على وحدة الدم والمصير مع الفلسطيني.
كان من الأجدر دراسة الحراك الشّعبي في شهر تموز الماضي؛ لاستخلاص العبر والبناء عليها من أجل إعادة التلاحم بين الجماهير وقيادتها السياسيّة والفصائليّة، وإعادة قراءة لطبيعة العقد الاجتماعي الحاصل في ذاك الشهر أسوة بكل المجتمعات المتقدّمة، التي تستفيد من تجاربها، وتعدّل من برامجها بناء على المتغيّرات الحاصلة.
ثالثا: قدرة التأثير، أثناء الدفاع عن المسجد الأقصى انتاب الفلسطيني ثقة قلّ نظيرها في الماضي القريب، وتعززت لديه قناعته بمقدرته على التأثير وتغيير الواقع المُعاش، ممّا زاد اصراره على الثبات حتّى النهايّة ونيل المراد. ونجح في فرض قواعد اللعبة مع شرطة الاحتلال والمبنيّة على مبدأ واحد ألا وهو " إمّا إزالة البوابات وإمّا البقاء في الشارع معتصمين ". بينما في الحالة الراهنة يشعر معظم عامة الناس بعدم مقدرتهم على التغيير أو التأثير طالما بقيت القيادة متمسكة باتفاق جلب الويلات، وكان سببا لتردّي القضيّة الفلسطينيّة وتعريضها لحالة التبّخّر الإقليمي والدّولي بما بات يعرف " بصفقة القرن." لم تعر القيادة ولا كبرى الفصائل الشّارع أيّة أهميّة لرغبته في انهاء الانقسام بينهما، مما ولّد لديه فقدان الأمل في دوره كموجّه للسياسات وراسم لها، وأنّه كحاضن للثّورة أصبح حراكه مستغلا سياسيّا، ولكن ليس مستثمرا بالشكل الصحيح. ومع ذلك، لا زالت الفرصة ماثلة أمام صنّاع القرار فيما لو اتخذوا قرارا استراتيجيّا بذلك في جلسة المجلس المركزي المزمع عقدها في الأيّام المقبلة تحت عنوان " شركاء في الوطن، شركاء في النضال".
31-12-2017