افراسيانت - على بعد ثلاثة أميال من مرفأ ليبي صغير يدعى قرابولي، تكرر يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول 2014 المشهد المأساوي ذاته الذي اكتشفه العالم يوم 10 سبتمبر/أيلول من العام ذاته قبالة سواحل مالطا, مع بعض الاختلاف في التفاصيل وجنسيات الضحايا وأعدادهم: قارب متهالك ينقلب، فيتوزع ركابه الهاربون من جحيم الفقر والحروب، بين غريق، ومفقود، ومحظوظ التقطته أجهزة الإنقاذ في إحدى الدول القريبة، فنجا.
قبالة مالطا كان الضحايا - سوريون، وفلسطينيون، ومصريون، وسودانيون- وقد ناهز عددهم الـ500, لكن لم ينج منهم إلا 11 فقط. أما قبالة سواحل ليبيا، فتراوح عدد الركاب ما بين 170 و180، جميعهم من دول أفريقية تقع جنوبي الصحراء، وقد انتشلت البحرية الليبية جثث عشرة أشخاص، وأنقذت نحو تسعين آخرين، بينما اعتُبر الباقون في عداد المفقودين.
مآسي قوارب الموت في المتوسط تتوالى فصولا، دون أن تتضح لها نهاية. الرابحون فيها دائما هم مهربون محترفون يجنون الأموال الطائلة جراء هذه التجارة الرابحة. أما الخاسرون فهم دائما من يقامرون بآخر ما يملكون.. وحتى بحياتهم وأسرهم أحيانا، كي يصلوا إلى بر الأمان في دول أوروبا المختلفة، أملا في تحسين أوضاعهم المعيشية.
التغطية التالية تلقي الضوء على هذا الملف الشائك، عبر شهادات الناجين من حادثة السفينة التي أغرقها المهربون عمدا قبالة مالطا. كما تتناول قصة المهربين، ومرافئ التهريب، وأعداد الضحايا حسب إحصاءات المنظمة الدولية للهجرة، فضلا عن قراءة في المتابعات الأوروبية والتونسية لهذه القضية.
ناجون يروون حكاية سفينة الموت
لم يطلع العالم على ما جرى في البحر الأبيض المتوسط على بعد 300 ميل بحري (نحو 550 كيلومترا) إلى الجنوب من مالطا يوم الأربعاء 10 سبتمبر/أيلول الماضي, إلا بعد يوم ونصف اليوم من وقوعه.
يوم الخميس 11 سبتمبر/أيلول كانت باخرة شحن ترفع علم بنما تنقل -لسخرية الأقدار- 386 مهاجرا غير شرعي -أنقذوا من قارب متهالك- تمر في المكان عندما لاحظ ركابها رجلين في السابعة والعشرين والثالثة والثلاثين، يعومان منذ يوم ونصف اليوم وسط البحر، فأنقذتهما ونقلتهما إلى جزيرة صقلية.
وبعد وصول الناجيين أرض صقلية حضر محققون من المنظمة الدولية للهجرة ليكتشفوا من شهادة الناجيين أن نحو 500 لاجئ غير شرعي بينهم نحو مائة طفل دون العاشرة، أغرقوا على يد مهربين محترفين.
وتبين أيضا من معلومات خفر السواحل المالطية والإيطالية واليونانية أن هنالك تسعة ناجين آخرين فقط, وثلاث جثث، من أصل ذلك الحشد البشري المنكوب جرى نقلهم إلى جزيرتي كريت ومالطا القريبتين بعد أن عثر رجال إنقاذ مالطيين ويونانيين عليهم في ظروف مشابهة. وسرعان من تكشفت فصول تلك الواقعة ، فتحركت نيابة جزيرة صقلية بإيطاليا لفتح تحقيق فيها بعدما أبلغت من قبل الناجيين أن المهربين صدموا المركب عن عمد عندما رفض الركاب القفز إلى مركب أصغر.
وتكشف التفاصيل المنقولة عن ألسنة الناجين ليس فرادة الواقعة فحسب, بل تفاصيلها الصغيرة .خصوصا ما يثبت منها، سادية الفاعلين وهم يرسلون مئات الأبرياء إلى حتفهم.
وروى الناجي شكري العسولي (33) عاما القادم من بلدة خان يونس بقطاع غزة للجزيرة نت ما حدث من موقع إنقاذه في كريت. قال إن مجموعة تحركت يوم السبت الماضي 6/9/2014 إلى شاطئ رشيد ومن هناك تمّ نقل المجموعة ليلاً عبر مراكب صغيرة إلى سفينة صيد كبيرة. وقال أيضا إنه تم تبديل السفينة التي حملت المهاجرين أربع مرات.
ألفا دولار
وعن أعداد الركاب وجنسياتهم قال إنهم 400 شخص بما فيهم الأطفال وأغلبهم من الجنسيتين السورية والفلسطينية، كما كان هناك القليل من السودانيين وآخرون من جزر القمر إضافة إلى المهربين أنفسهم. وقال أيضا إن المهربين أخذوا من كل شخص مبلغ ألفي دولار أميركي لقاء عملية التهريب.
"قال الناجي محمد راضي إن أكثر ما أثر فيه هو منظر تلك الفتاة التي كانت تحتضن طفلين لأيام، وقد توفي أحدهما بعد وصول السفينة التي أنقذت الناجين، "
وعن معاملة المهربين للركاب قبل الرحلة وأثناءها قال ناج ثاني يدعى محمد راضي للجزيرة نت إنها كانت وحشية، حيث أجبروهم على الانتقال إلى عدة مراكب بعدما اتفقوا معهم على الهجرة في مركب واحد، وقد سلبوهم أغراضهم الشخصية وهواتفهم النقالة، كما اعتدوا على أشخاص بالضرب لأخذ تلك الهواتف.
وقال إن الأغراض والأطعمة فسدت بسبب دخول الماء إليها عند الانتقال من مركب إلى آخر، وكانت المراكب كلها متهالكة، كما كان الانتقال من مركب إلى آخر يتمّ بالضرب والتهديد والإهانات، وقد وقعت عدة إصابات خلال تلك العملية. وأضاف أن المهربين تركوا المركب الأخير في عهدة بعض صيادي الأسماك المهاجرين، مقابل إعفاء الأخيرين من تكاليف السفر وانسحبوا.
وتحدث راضي عن الظروف السيئة أثناء أيام السفر حيث الازدحام الشديد وعدم توفر المرافق الصحية. وقال إيضا إن الروائح الكريهة المنبعثة من الوقود وبقايا السمك تجعل الجلوس فيه أقرب إلى الجحيم، مضيفاً أن اليومين الأولين كانا صعبين للغاية، وكان المهاجرون يتقيؤون باستمرار.
وذكر العسولي في شهادته أن سفينته بقيت أربعة أيام في البحر وأنها اقتربت مما اعتقد أنها الشواطئ الإيطالية. بينما أفاد ناج فلسطيني آخر -من غزة أيضا يدعى حميد بربخ- بأن السفينة أبحرت لثلاثة أيام كان الركاب خلالها يلجؤون للنوم متكئين على بعضهم بسبب ازدحامها. وفي اليوم الرابع وقعت الحادثة.
القبطان يحذر
وقال بربخ (20 عاما) -في شهادة مكتوبة أرسلها للجزيرة نت- إن قبطان السفينة فوجئ بأوامر من مجموعة تهريب تدعوه لنقل اللاجئين إلى سفينة أصغر حجما فرفض وأخبرهم أن ذلك سيؤدي إلى غرقهم جميعا.
ويضيف بربخ أنه بعد أقل من ساعة فوجئ الجميع بسفينة أكبر توجه لهم إنذارا بالوقوف إجباريا، ثم بدأت بالاصطدام عمدا بالسفينة التي انقلبت -سفينتنا- وغرقت بمن فيها.
وعن السفينة القاتلة يقول العسولي إن السفينة مصرية وكتب عليها باللغة العربية "مركب الحاج رزق - دمياط" ويكرر ما قاله بربخ بأنها اقتربت من السفينة الكبرى وصدمتها دون سابق إنذار، وعلى إثر ذلك فقدت سفينة المهاجرين التوازن ودخلت مياه البحر. وعن الناجين الذين كان من ضمنهم, قال العسولي إنهم بقوا أربعة أيام طافين على سطح البحر، لكن بعضهم مات بسبب الجوع والعطش والآخر أغمي عليه أو رمته الأمواج على شواطئ قريبة وتمّ إنقاذه هناك.
وأضاف أن سفينة تحمل العلم الفلبيني مرت فاستغاث هو ورفاقه بها، فما كان من طاقمها إلا أن توجه اليهم وأنقذهم وأجرى لهم الإسعافات الأولية ، وبعد عشر ساعات جاءت طوافة يونانية نقلتهم إلى جزيرة كريت اليونانية.
أشبه بمعجزة
أما راضي فقال إن أكثر ما أثر فيه هو منظر تلك الفتاة التي كانت تحتضن طفلين لأيام، وقد توفي أحدهما بعد وصول السفينة التي أنقذت الناجين، مضيفاً أن بقاء أطفال أحياء طيلة أربعة أيام في تلك الظروف هو أشبه بالمعجزة.
وقال العسولي -الذي فقد في الحادث زوجته هيام شلاش العقاد (24 عاما) وابنه يامن (9 أشهر) وابنته رتاج (4 سنوات)- إن الناجين في كريت هم ثلاثة أشخاص من غزة (بينهم محمد راضي) وشخص مصري وفتاة سورية في الثامنة عشرة من عمرها وطفلة سورية عمرها عامان فقد والداها في الحادث.
أما بربخ فيقول إنه محظوظ بأن شارك سبعة من الركاب طوق نجاة تمسكوا به، لكنهم انهاروا الواحد تلو الآخر بسبب الإعياء الشديد نتيجة برودة المياه وعدم القدرة على السباحة حتى غرقوا جميعا وبقي وحيدا يطفو لمدة يومين متواصلين إلى أن عثرت عليه سفينة، ووجد نفسه لاحقا في أحد المشافي الإيطالية.
أشباح تتاجر وتفتك ببعضها
سلط غرق مركب يقل نحو 500 لاجئ غير شرعي قرب سواحل مالطا أواسط سبتمبر/أيلول الضوء على المهربين وفظائعهم. وقد اعتبرت منظمة الهجرة الدولية الواقعة "جريمة قتل جماعي"، في حين عدّت سلطات إيطاليا -التي كان يقصدها اللاجئون- الحادثة "الأبشع خلال السنوات الماضية"، وفتحت تحقيقا في ملابساتها.
أما الفاعلون فبقوا حتى اللحظة مجموعة مهربين "صدموا مركبنا وانتظروا ليتأكدوا أننا نغرق فعليا قبل أن يغادروا وبعضهم كان يضحك ساخرا" حسبما أفاد أحد الناجين الأحد عشر من الحادث.
ورغم أن أسماء مرتكبي "جريمة المتوسط الأبشع" لم تعرف بعد, ويرجح ألا تعرف في وقت قريب, فإن الواقعة والاهتمام الإعلامي اللذين واكباها سلطا الضوء على معلومات وشهادات تفيد بأن تنظيم رحلات الهجرة غير الشرعية يتم عمليا عن طريق "أشباح" مجهولة الإقامة والعنوان, لكنها تجيد الاستفادة من يأس الشباب من أوطانهم جراء الأزمات المعيشية والحروب.
وتنقل وكالة الصحافة الفرنسية عن فلسطينيين نجيا من الغرق قولهما إن كل منهما دفع مبلغ ألفي دولار إلى "وكالة سفر" في غزة، وإن الوكالة هي من "الوسطاء" الذين يجرون الاتصالات لترتيب السفر. لكن من هو الطرف الذي يرسل إليه "الوسيط" الراغبين في الهجرة ومالهم؟يقول أسامة -وهو فلسطيني يعمل في الإمارات وفقد آثار شقيقه الشاب ياسر في الرحلة المشؤومة- للوكالة ذاتها "لا أحد يعرف لمن يذهب هذا المال. أخبرني ياسر أن هؤلاء يأخذون المال ويختفون. ثم يتصلون بعد أيام ويبلغون طالب الهجرة أن يلتقيهم في وقت ومكان محددين. من هناك يتم نقل المهاجرين إلى الإسكندرية حيث تكون الباخرة بانتظارهم".
أرقام مجهولة
غير أن ضوءا إضافيا على متعهدي رحلة الموت ألقاه شكري العسولي أحد الناجين العشرة من الغرق الذي عثر عليه مركب يرفع علم الفلبين ونقل بواسطة مروحية يونانية إلى جزيرة كريت. يقول العسولي للجزيرة نت إن المهربين ليسوا معروفين للمهاجرين، وإن الاتصال بهم كان يتم "عبر أرقام مجهولة ويستعملون ألقاباً للتمويه عن شخصياتهم (أبو حمادة- يحيى) لكنهم كانوا يتحدثون باللهجة المصرية".
بعد ركوب البحر, تتشابه مصائر بعض المقامرين بحياتهم وبآخر ما يملكون. فيصل القليل منهم إلى أقرب ساحل إيطالي أو إسباني إذا كان قادما من المغرب أو موريتانيا, في حين يخفق آخرون لأسباب متعددة. وتتعلق غالبية الأسباب هذه بمغامرة ركوب البحر بقوارب خشبية قديمة ومتهالكة وبلا وقود أو مؤن كافية. لكن القتل العمد قلما عرف بأنه بين أسباب مقتل مهاجرين إلا في القارب الذي انطلق من ميناء دمياط المصري يوم 6 سبتمبر/أيلول 2014 حاملا أكثر من 400 فلسطيني قادم من غزة ومصري وسوداني وعدد من مواطني جزر القمر، وفق ما ذكر للجزيرة نت العسولي.
الحاج رزق
يقول العسولي إن سفينة مكتوبا عليها باللغة العربية "مركب الحاج رزق- دمياط" صدمت سفينة اللاجئين "دون سابق إنذار ففقدت سفينة المهاجرين التوازن إثر ذلك ودخلتها مياه البحر وغرقت بمن فيها".
لكن المحير في شهادة العسولي قوله إنه والمهاجرين الآخرين لم يفهموا سبب صدم السفينة الأخرى لسفينتهم ولم يلاحظوا وجود أي خلافات بين المهربين. وأوضح أن المهربين الذين كانوا يقودون السفينة تعرضوا "كسائر المهاجرين" للغرق، وأن مصيرهم بدورهم ما زال مجهولا.
أوروبا تعيد النظر في حساباتها
شكل حادث قارب اللاجئين الإريتريين الذين غرق 366 منهم قبالة ساحل جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، علامة فارقة في وتيرة الهجرة غير الشرعية إلى القارة الأوروبية، وكذلك في سبل تعامل إيطاليا والاتحاد الأوروبي مع هذه الظاهرة.
ففي 3 أكتوبر/تشرين الثاني 2013 شب حريق في قارب صيد كان يقل نحو 500 مهاجر غير شرعي, مما أدى إلى غرق 366 منهم -بينهم نساء وأطفال- بعد أن علقوا داخل القارب.
وأسهم في تخليد ذلك الحدث أنه وقع على مقربة من الساحل. وتم انتشال جثث الضحايا، وسط تغطية وسائل الإعلام مما ترك أثره العميق على الناس. إضافة إلى ذلك، فقد روى عدد من الناجين لاحقا كيف تعرضوا لأعمال تعذيب واغتصاب قبل إبحارهم إلى أوروبا.
وكان من نتائج ذلك الحادث أن أطلقت الحكومة الإيطالية عملية إنسانية وعسكرية وبحرية واسعة باسم "ماري نوستروم" (بحرنا) سمحت بإغاثة 140 ألف شخص خلال عام، أي أكثر من 380 شخصا يوميا. بيد أن المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة أحصت عبور 165 ألف مهاجر سري لمياه البحر الأبيض المتوسط منذ يناير/كانون الثاني 2014، مقابل 60 ألفا في العام 2013، "مما يدل على درجة اليأس عند الأشخاص المعنيين" حسب بيان المفوضية.
غير أن هنالك أسبابا أخرى تحتسب ضمن انتعاش عمليات تهريب المهاجرين إلى أوروبا، فرغم بقاء الفقر والاضطهاد والحروب كدوافع دائمة للمهاجرين غير الشرعيين كي يغامروا بحياتهم بعبور البحر، فإن عملية "ماري نوستروم" حفزت بدورها عمل المهربين. فقد بات هؤلاء يراهنون على وجود فرص أعلى لوصول اللاجئين إلى مقصدهم, ما دام هناك من هو مستعد لإنقاذهم في البحر وإيوائهم.
الشركاء ممانعون
لكن كلفة "ماري نوستروم" التي تتراوح بين ستة وتسعة ملايين يورو شهريا دفعت الحكومة الإيطالية في المقابل إلى اتخاذ قرار بوقفها مع نهاية أكتوبر/تشرين الأول الجاري. والسبب هو عدم تجاوب شركاء إيطاليا الأوروبيين مع طلباتها بالاشتراك في التكاليف.
ويتوقع المراقبون أن تستبدل "ماري نوستروم" بإجراءات أقل صرامة تتولاها الوكالة الأوروبية لإدارة الحدود (فرونتكس)، يطلق عليها اسم "تريتون" اعتبارا من أول نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
غير أن مسؤولا في هيئة إغاثة إيطالية تنشط في البحر المتوسط منذ عام 2008 استبعد أن تحل "عملية تريتون مكان ماري نوستروم لأن فرونتكس ليست وكالة إغاثة".ورأى المدير الوطني لهيئة الإغاثة الإيطالية لفرسان مالطا ماورو كازنغيني أنه "بدلا من معالجة الحالات الطارئة يفضل التخطيط لكيفية الاستفادة -ربما- من دفعات المهاجرين على المدى الطويل، مع الأخذ بعين الاعتبار تزايد عدد السكان المسنين في أوروبا".
وفي موازاة ذلك قدم مسؤولون سياسيون وناشطون في جمعيات إيطالية هذا الأسبوع سلسلة "مقترحات عاجلة" لمواجهة هذه "الظاهرة البنيوية"، ومنها إمكانية تقديم طلب اللجوء "قبل الإبحار في المتوسط" وتفعيل "وكالة أوروبية للهجرة" كما قال النائب ماريو مرازيتي.
من جهتها أدانت المفوضة الأوروبية للشؤون الداخلية سيسيليا مالمستروم قوانين الهجرة المعمول بها في دول الاتحاد، مشيرة إلى "استحالة القدوم حاليا إلى أوروبا بطريقة آمنة وشرعية".
وقالت إنه عندما يتعلق الأمر باستقبال لاجئين "يصبح التضامن بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي غير موجود تقريبا.. إنه أمر معيب".
ولفتت مالمستروم إلى أنه لو تم أخذ طلبات اللجوء المقدمة إلى قنصليات الدول الأوروبية في الاعتبار لأمكن "تنظيم سفر منظم على سفن، وتكون كلفته أقل بكثير".
قلق دولي ومطالبات بحلول
أولت منظمة الهجرة الدولية اهتماما استثنائيا بواقعة إغراق مركب للمهاجرين غير الشرعيين في البحر الأبيض المتوسط يوم 11 سبتمبر/أيلول الماضي على بعد 555 كيلومترا جنوبي جزيرة مالطا، فنشرت على صفحتها الرئيسية خريطة توضح مكاني الغرق والعثور على الناجين القلائل, إضافة إلى المرافئ التي نقلتهم إليها أجهزة الإنقاذ الإيطالية والمالطية.
وبعد أسبوعين نشرت المنظمة الدولية نفسها تقريرا إحصائيا من 216 صفحة عنوانه "الرحلات القاتلة"، أفاد بأنه منذ العام 2000 قضى 40 ألف مهاجر غير شرعي. وبين هؤلاء قضى 22 ألفا أثناء عبور البحر المتوسط، مات 3072 منهم في الأشهر التسعة الماضية وحدها. وفي ختام المؤتمر الصحفي الذي أعلنت فيه الأرقام، دعا الأمين العام للمنظمة وليم لاسي سوينغ العالم "لوضع حد لهذه الحلقة "، وشدد على أن "المهاجرين الذين لا يحملون وثائق ليسوا مجرمين بل آدميين يحتاجون إلى الحماية والمساعدة ويستحقون الاحترام".
بالتوازي مع مناشدات سوينغ ظهرت مؤشرات تفيد بأن إيطاليا التي تمثل المقصد الأول للفارين من "الصراعات والملاحقات القضائية والفقر" -حسب التقرير- بدأت تحركا مختلفا للتعامل مع ظاهرة الهجرة غير الشرعية. فقد شكلت حكومتها وحدات "مير نوستروم- بحرنا" للبحث عن المهاجرين وإنقاذهم .
سخط
أتت تلك الخطوة بعد موجة السخط التي خلفها في أوروبا مقتل 366 لاجئا إرتيريا غير شرعي، بعد أن شب حريق في قاربهم ، قبالة ساحل جزيرة لامبيدوزا الإيطالية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وأثمرت تلك العملية إنقاذا لنحو 140 ألف شخص من غرق محدق.
وكانت لامبيدوزا بالذات أول محطة يقصدها البابا فرانسيس عقب توليه مهامه البابوية، إذ نثر الورود في البحر لإحياء ذكرى كل اللاجئين الذين هلكوا غرقاً في طريقهم من أفريقيا إلى أوروبا، واشتكى وقتها مما وصفها بـ"عولمة اللامبالاة".وعلى صعيد المفوضية الأوروبية أعلن رئيسها الجديد جان كلود جونكر في يوليو/تموز الماضي سعيه إلى تعيين مفوض أوروبي لشؤون الهجرة، مقترحا الفصل بين الهجرة والأمن، وهو ما يمثل قطيعة مع عهد سلفه جوزيه مانويل باروسو، حسب مدير مركز الدراسات السياسية لشؤون الهجرة في المعهد الأوروبي الجامعي فيليب فارغ.
أما خبراء الوكالة الأوروبية لحماية الحدود "فرونتيكس" فينظرون إلى الوضع من منظور مغاير. فهم يركزون اهتمامهم على المهربين وتجار البشر، الذين ينظمون طرقاً وسبلاً للهروب إلى أوروبا بشكل محترف يصل إلى المستوى الذي تدار به المؤسسات الصناعية، بدءاً من بيع "التذاكر" في "وكالات سفر" يملكونها، وصولاً إلى دفع رشى للموظفين العاملين في الموانئ بمصر وليبيا، اللتين تنطلق منهما أغلبية قوارب اللاجئين.
على صعيد الهيئات الدولية الأخرى تطرق المفوض الأممي لحقوق الإنسان زيد رعد الحسين للموضوع أواسط سبتمبر/ أيلول الماضي في معرض إدانته للمهربين الذين ترجح مسؤوليتهم عن غرق المهاجرين الخمسمائة قرب مالطا، فحذر من "السياسات المعادية للأجانب" التي تمنع الحكومات من "إيجاد حلول حقيقية لعدد متزايد من الأوضاع الميؤوس منها في عدد كبير من مناطق العالم".
تونس تضبط حدودها
تنفيذا لاتفاق وقع في مارس/آذار الماضي بين تونس والاتحاد الأوروبي يقضي بتشديد مراقبة السواحل مقابل تسهيل الهجرة الشرعية، تسلمت تونس في 3 أكتوبر/تشرين الأول 2014 هبة من إيطاليا تتمثل في سفينتي خفر بحريتين وذلك بحضور وزير الداخلية الإيطالي.
ستعزز السفينتان قدرات الحرس البحري التونسي لإحكام السيطرة على حركة العبور باتجاه الشواطئ الأوروبية، التي تزايد لجوء العرب والأفارقة إليها بشكل كبير بحثا عن الخلاص من الفقر ومن مناطق النزاعات والحروب.
يقول الناطق باسم وزارة الداخلية محمد علي العروي للجزيرة نت إنّ الهبة الإيطالية تأتي في إطار دعم التعاون الثنائي بين البلدين بهدف تكثيف المراقبة الأمنية على الشواطئ وإحباط محاولات التسلل خلسة نحو الشواطئ الإيطالية.
تفكيك شبكات
وبقطع النظر عن هذه الهبة يقول هذا المسؤول إن السلطات التونسية لعبت دورا كبيرا في إحباط محاولات الهجرة غير الشرعية، مؤكدا بأنّها فككت المئات من شبكات تنظيم الهجرة السرية وأحالت للقضاء المئات من الوسطاء في عملية الهجرة الجماعية.
وبحسب وزارة الداخلية التونسية تمكنت قوات خفر السواحل خلال النصف الأول من العام الحالي من إحباط 580 محاولة هجرة غير شرعية بواسطة قوارب صيد وإحباط 264 محاولة عن طريق التخفي في بواخر تجارية و98 محاولة هجرة عبر الشريط الساحلي. وتنطلق أغلب رحلات الهجرة السرية من موانئ بالجنوب التونسي مثل ميناء جرجيس والشابة وصفاقس.
ويقول محمد علي العروي إنّ السلطات التونسية نجحت منذ سنة 2012 في استعادة قدرتها على حراسة الحدود ومنع تدفق المهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا على عكس ما حصل عقب اندلاع الثورة قبل نحو أربعة أعوام.
فبعد سقوط النظام السابق عام 2011 شهدت السواحل الإيطالية التي لا تبعد كثيرا عن تونس أكبر موجة هجرة سرية بواسطة قوارب صيد تدفق عليها أكثر من 20 ألف مهاجر تونسي انتهى مصير جزء منهم بالموت غرقا.
ومنذ ذلك الوقت تطالب مئات العائلات التونسية بالكشف عن مصير أبناءها الذين انقطعت أخبارهم بعد ركوبهم البحر باتجاه السواحل الإيطالية، ورغم جهود المجتمع المدني لا يُعلم إن كان هؤلاء المفقودين موقوفون لدى السلطات الإيطالية أم موتى.
الحكومة تماطل
وتواجه الحكومة التونسية انتقادات من قبل منظمات تهتم بملف الهجرة غير الشرعية، ويقول مسعود الرمضاني عضو المنتدى التونسي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية إن الحكومة "تماطل" في فتح تحقيق حول مصير المفقودين.
ويضيف للجزيرة.نت أنّ الحكومة التونسية تحوّلت إلى "حارس حدود فقط" للاتحاد الأوروبي شريكها الاقتصادي الأول، مذكرا أنّها وقعت اتفاقية في مارس/آذار الماضي لتشديد الرقابة على السواحل مقابل مساعدات.
وكشف بأنّ الاتحاد الأوروبي تعهد في إطار تلك الاتفاقية بتسهيل إجراءات منح التأشيرة ومنح بعض المساعدات مقابل تعزيز قدرات تونس على مراقبة سواحلها واستقبال تونسيين يعيشون في إيطاليا بطريقة غير شرعية.
وكشف وزير الداخلية التونسي لطفي بن جدو بأنّ إيطاليا رحلت منذ شهر أبريل/نيسان الماضي أكثر من 7 آلاف تونسي مقيم بطريقة غير قانونية وذلك وفقا لاتفاقيات مشتركة بين البلدين في إطار مكافحة تسلل المهاجرين.
ويقبع الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين في مراكز إيقاف في إيطاليا أبرزها مركز الإيواء بجزيرة لامبادوازا، ضمنهم تونسيون وأفارقة من دول مختلفة وعرب من سوريا وفلسطين ومصر يطلبون حق اللجوء. ويقول مسعود الرمضاني عضو المنتدى التونسي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية: إن وضعية هؤلاء "صعبة للغاية" في ظل القيود التي تفرضها إيطاليا ومن وراءها الاتحاد الأوروبي في تمكينهم من حقهم في اللجوء.
وتنص معاهدة اللجوء عام 1951 ثم برتوكول عام 1967 على فتح الباب لكل سكان العالم للجوء إلى الدول الموقعة على الاتفاقية، لكن الاتحاد الأوروبي فرض إجراءات مشددة تجاه اللاجئين الذين تضاعفت أعدادهم لاسيما في السنوات الأخيرة.
لن تتوقف
ويقول الرمضاني: إن رحلات قوارب الموت لن تتوقف رغم أنها محفوفة بالمخاطر وستظل الطريق الوحيد للاجئين الذين يحلمون بحياة أفضل في دول الاتحاد الأوربي في ظل تنامي النزاعات والحروب وانتشار الفقر والتهميش في بلدانهم الأصلية.
ويضيف: إنّ دراسة قام بها المنتدى التونسي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية عام 2012 كشفت عن تحوّل في شريحة المهاجرين غير الشرعيين، مشيرا إلى أنّ هناك إقبالا متزايد على الهجرة من قبل التلاميذ والطلبة.
ضحايا اللجوء بالمتوسط والعالم
اللاجئون وأبرز حوادث الغرق
الجزيرة