افراسيانت - نزهة أبو غوش - رواية صدرت حديثًا 2016م للكاتب الفلسطيني، سليم دبور، عن دار الجندي للتّوزيع والنّشر، في 455 صفحة من الحجم المتوسّط.
الايقاع في رواية الهروب:
في روايته " الهروب" نهج الكاتب سليم دروب، أن يسرد روايته بإِيقاعات مختلفة:
الايقاع الزّماني:
ابتدأ الكاتب روايته بإِيقاع بطيء يسرد فيها أحداث شعب عانى ويعاني من سلطة الاحتلال، على لسان إِنسان قضى ستّ سنوات من عمره بمصحّة نفسيّة، ظلمًا.
بدأت الأحداث منذ ذلك الزّمان الّذي سكن فيه المستوطن الاسرائيليّ داخل القدس القديمة، قريبًا من الأقصى؛ حيث التجأ هاربًا من المصحّة إِلى أيّ بيت مقدسيّ، فوجيء بمستوطن يفتح له الباب، حينها كانت صدمته الكبرى.
تطوّرت الأحداث، حيث قُطعت رجل صابر، بسبب تعفّنها لكنّ إِيقاع الزّمن ظلّ غير بعيد.
كان الزّمان يعلو ويهبط في رواية الكاتب. نلحظ بأنّه كان يسير على الٌإِيقاع البطيء، وأحيانًا على الايقاع السّريع. من حيث تصوير الوضع في السّجن وفي المخيّمات، وعلى الحواجز؛ كانت تسير بشكل أبطأ، بينما يتطوّر الوصف وتتسلّق اللغة وتتدحرج بين السّطور لتعبّر عن المآسي المتعدّدة من زمن الانتفاضة الأولى، إِلى ما بعد سلام أوسلو.
امتدّ الزمن حتّى منتصف الرّواية تقريبًا حيث وجد صابر طفله المفقود.
أمّا الأحداث العالميّة، فنلحظ بأنّها جاءت بإِيقاع سريع جدًّا، واعتبرها الكاتب وكأنّها وسيلة تخدم الفكرة الأساسيّة، وهي القضيّة الفلسطينيّة المتشعبّة الخيوط؛ نحو أحداث المركز التّجاري العالمي في نيويورك. كذلك حرب بوش في أفغانستان، وحرب بوش الثّاني على العراق، وغيرها.
أمّا بالنّسبة لنقاط التّفتيش على الحواجز، فكانت تسير بإِيقاعات مختلفة، حيث تسهّل الأمور أحيانًا فيدخل صابر الحاجز دون سؤال، هذا لأنّه ركب في شاحنة الحمير. وأحيانًا كان يقف الزّمن لدرجة وصف الكاتب المسافة الجّغرافيّة من الحاجز حتّى رام الله، كأنّها المسافة من باريس لرام الله.
الايقاع في الرّواية قدّم لنا الصّورة الكئيبة الّتي حدّقت طويلًا بالانسان الفلسطيني المتأرجح ما بين الحواجز والمعابر والأسوار الاسمنتيّة العالية، والسّجون، ومنع التّجوال.
لم يتوقّف إيقاع الموت عند الكاتب دبور في روايته الهروب، إِذ نجد بأنّه قد امتدّ من أوّل الرّواية حتّى نهايتها بنفس الايقاع، متذبذبًا بين الأحداث القويّة فترة الانتفاضات: الأولى والثانية؛ وبين الأحداث اليوميّة والمواجهات مع العدوّ المحتلّ. على الحواجز وداخل المدن والقرى.ِ كان ايقاع الحزن والمرارة والألم مرتبطًا بإِيقاع الموت حاضرًا في كلّ زمان ومكان من الوطن.
إِيقاع حركة البطل صابر العبثيّة في الرّواية، تأرجحت ما بين حياته سجينًا: في المصحّة، وسجينًا بين الزّنازين الاسرائيليّة، وسجينًا في المجتمع، وسجينًا داخل نفسيّته حاصره الجتمع من كلّ جهة وعامله كإِنسان مجنون هارب من المصحّة، أو كانسان ضائع متشرّد، شحّاذ، يتلقّف اللقمة من هنا وهناك، يبحث عن ابنه الّذي فقده إِثر حبسه بالمصحّة.
أمّا السّجن النّفسي الّذي عاشه صابر، فهو أصعب بكثير من كلّ هذه السّجون، حيث قتلت زوجته على الحاجز أثناء المخاض؛ ممّا سبّب له ألمًا نفسيًّا عاش معه طوال حياته.
أمّا الايقاع السّياسي لأحداث الرّواية فقد تزامن من خلال لغة الكاتب بالأحداث المجتمعيّة: الأعراس، الأفراح والأتراح والمصائب، والموت و....غيرها، كان للإيقاع السّياسيّ تموّج واضح في رواية الهروب، الوضع السّياسي المفروص من قبل المحتل،: سيطرة وعربدة وعنجهيّة، وتخريب بيوت وتدميرها، وتدمير الشّجر والحجر، المدارس، المستشفيات.
الوضع السّياسيّ الّذي يحمل شكلًا آخر في الرّواية، هو الوضع السّياسي الفلسطيني، حيث وضعه الكاتب سليم دبور تحت المجهر، حلّله ونقده بقسوة: نقد المحسوبيّات، نقد عمليّة السّلام الفاشلة، نقد ضعف السّلطة، الاهمال والتّسيّب. نقد موقف الدّول العربيّة السّلبي تجاه ما يدور في فلسطين.
إِنّ استخدام الكاتب للّغة المنسابة العفويّة، ولغة السّخرية ساعدته على التّوازن في الايقاع الرّوائي بشكل عامّ.
نزهة الرملاوي: رواية "الهروب" ومعاناة الفلسطينيّين
"إلى قلوب لا زالت تنبض بالحب وضمائر حية لا زالت تقاوم" بهذه الكلمات التي أهداها الكاتب الروائي والسينمائي سليم دبّور في روايته الهروب الصادرة عام 2016 عن دار الجندي للنشر والتوزيع في القدس ، والتي تقع في 450 صفحة من الحجم المتوسط، ندرك أن هناك ما ينتظرنا بين دفتي الرواية.
ترى لم اختار الكاتب عنوان الهروب لروايته؟
هل كان هروبا من واقع سياسيّ غير عادل وغير متّزن يتمثّل بالمؤامرات والقتل والتّشريد والمعاهدات التي تحطّمت عليها آمال الشّعب؟
هل كان هروبا من واقع اجتماعيّ مؤلم يتمثّل بالبطالة والفقر والجريمة والاتّهامات والمحسوبيّات؟
هل كان هروبا من جيش الاحتلال الذي يطارده بعد مقاومته إلى الجبال؛ لتصبح أسود المقاومة أسرته الجديدة التي علّمها الصّبر وعلّمته الشّراسة والخشونة؟
هل كان هروبا من مصحّة عقليّة بعد أن اتهم بالجنون، ومكث في المصحّة ستّ سنوات... مع أنّه يدرك أنه أعقل العقلاء؟
لقد تميزت بداية الرّواية بالتّشويق، وبلغت ذروة تأزّمها حينما قرّر الرّاوي الهروب من المصحّة لأنّه يؤمن بعقلانيّته، ولقد بيّن الكاتب مواقف كثيرة أدّت بعقلاء في مصحّة للمجانين.
تميّز الخطاب بالمفردات السّياسيّة والاجتماعيّة، ولقد اختار الكاتب أباه ليوجّه خطابه أو استياءه أو تذمّره من الأمور السّياسيّة، أو الأحداث في كثير من المواقف في الرّواية.
تطرّقت الرّواية للحياة الاجتماعيّة والسّياسيّة في فلسطين تحت نير الاحتلال، وفي ظلّ السّلطة الفلسطينيّة. فترة الانتفاضة الثّانية، ما بعد معاهدة السّلام حيث انتقد اتّفاقات السّلام بين السّلطة وإسرائيل وانتقد المرحلة، لما لها من نتائج سلبيّة جدّا على الشّعب الفلسطينيّ، فقد ازدادت المجازر والاعتقالات وهدم المنازل وبناء المستوطنات، ولم يتطرق لبناء جدار الفصل ولم يستوقفه حاجز تفتيش أثناء دخوله القدس، ( أظن أنّ الجنود لم تفتش شاحنة الحمير التي أقلّت الرّاوي حينما اختبأ بها) لقد أجاد الكاتب الوصف في روايته، فقد اتّسمت لغة الكاتب بالبساطة والعذوبة في انتقاء المفردات، وتركيب الجمل التي تشدّ القارئ، فيتذوّق الرّقي والثّقافة في مضامينها ومقاصدها بذكاء وحنكة أثناء تسلسل أحداث الرّواية، أضف إلى ذلك السّلاسة في سرد الأحداث، وتمكّنه من إدارة الحوار بطريقة ملفتة ومتعمّقة في معانيها.
يلفت الكاتب انتباه قرائه (بعد كذبه) إلى عدم تصديق كلّ ما يقال........لأنّ ذلك مكّن عدوّنا منّا.
استخدم الكاتب في حواره ( المونولوج ) السّرد الدّاخلي والتّشبيهات والكنايات والأمثال، والحوار الهادف والجادّ والايحاء أثناء خطابه الموجّه لأبيه وشخوص الرّواية ...وضع الكاتب قارئ الرّواية بصور اجتماعيّة وسياسيّة حقيقيّة، فقد رسم الحواجز والجدران والجنود والقتل والمصحّة والاشخاص بدقّة، وتطرّق الى تفاصيل دقيقة أثناء سرد الأحداث حينما تمكّن من الهرب ووصل القدس؛ فرأى الجنود في كلّ مكان، وتمنّى أن لا يطلبوا هويّته التي لا يحملها..ثم طرق بابا مقدسيّا لعلمه بكرم المقدسيّين بعد هروبه، فكانت الفاجعة حينما خرج منه يهوديّ أراد قتله، فانتقل إلى بيت آخر، فوجد فيه ما أراد من كرم ومأوى ص ١٩
لم يصف الكاتب تفاصيل الأماكن بدقة.
القدس: وهنا برزت عبقرية الكاتب لأنّ الهارب لا يلتفت إلى جماليّة الأماكن .وفي حالته هو يبحث عن الأمن لا عن الجمال ...الا أنّ الأحداث كانت تحتوي على الكثير من التّفاصيل التي أسهب في طرحها، وعالجها بشفافية وطبع صورها بوضوح .
زخرت الرّواية بالمشاهد المؤثّرة والمؤلمة، وأظنّ أنّ رؤية الكاتب الفنّيبّة (كمخرج سينمائي) جعل من نصوص الرّواية فلما مشاهدا أمام عيني القارئ، وإن دلّ ذلك فإنّما يدلّ على نظرة الكاتب الثّاقبة لما يدور في أحاسيس القارئ وشعوره تجاه الأحداث السّياسيّة والاجتماعيّة...وقد طرح الكاتب مضامين وأفكار روايته بشكل يثري الرّواية الفلسطينيّة، حيث أظهر الكثير من الحقائق المجتمعيّة والسّياسيّة بذات سلبيّة مؤثّرة على الأفراد والقضيّة الفلسطينيّة، مع ابراز الكاتب لبعض القيم والاخلاق السّائدة في مجتمعنا، إضافة إلى اعترافه بالسّرقة ومعرفته بتحريمها حتّى يخبئ وجهه أثناء هروبه ص٢٧
أبرز الكاتب النّمو والعمران في مدينة رام الله، وصورها بلا جنود للاحتلال، وقد رفرفت الاعلام الفلسطينيّة فوق البنايات والشّوارع بعد استلام السّلطة للحكم، بعد أن كانت تلك الصّور غير مألوفة، وفي الوقت ذاته وصف حال الشّارع في رام الله، وتطرّق إلى نقد السّلطة والخوف من التّسلط التي تمارسه السّلطة مع الأفراد.
أثار الكاتب معاناة الشّعب في الطّرق المتعرّجة الموحلة، والالتفاف حول المناطق، من هنا نجد أنّ الرّواية قيمة فنيا، وتمتاز باستخدام صور حقيقيّة تتكرّر مشاهدها أمام عينيّ الفرد الفلسطينيّ صباح مساء، إذا صحّ التّعبير، فلقد أرخت الرّواية لفترة ما بعد الانتفاضة واتفاقات أوسلو، وحاكت ما نتج عنها .
من الملاحظ أنّ رواية الهروب جاءت كجزء ثانٍ لرواية صابر؛ لذا لم يشأ الكاتب إعادة بعض الأحداث في الرّواية السّابقة، كتذكير للقارئ إذا ما احتاج الحدث لذلك، كصابر الذي أصبح ثريّا فجأة، فلو اننا قرأنا رواية صابر أوّلا لفهمنا مصدر الأموال والثّراء المفاجئ لصابر..فكان من الأفضل لو أن الكاتب أرجع القارئ إلى روايته الأولى بايجاز، وأثار من جديد موضوع شقيق صابر الثّريّ الذي كان يعيش في امريكا ثم توفي، ليتّضح ثراء صابر الذي كان يعاني من الفقر كأهل المخيم.
لقد أمطرنا الكاتب بغزارة العمق في الأسئلة التي أثارها، ممّا جعلها تفتح أمامنا إجابات واقعيّة كقوله: مواطن بلا وطن..وزير بلا وزارة، سجين بلا تهمة من أنا يا أبي؟
وحينما أثار عدة أسئلة ( أين انتم يا شعوب العالم ؟ لا صوت لكم ..أيّ قادة ؟ ذات الشيء يحرمونه على العراق ويبيحونه لاسرائيل ...أسئلة تدور حول السّياسة والقادة والمصالح العالميّة وسخط الزّعماء على الشّعوب، أراد الكاتب أن ينمّي في النّاس روح التّحرّك، وأن لا يغطوا في سبات عميق، وأن لا ينتصروا لأحلام مدسوسة، وأن يحطمو تلك المرآة التي تزوّر الحقائق وتلغي وجودهم.
نهاية الرّواية كانت مؤلمة كألم هذا الشّعب، حشد من الجنود يقتحم المنازل وينزلون غضبهم على أهالي المطلوبين، ويحطّمون ممتلكاتهم، يشرّدونهم إلى الجبال حيث يتعانقون مع الأسود ليتعلموا فنون القتال والمهارات العسكريّة. وهنا يبرز الرّاوي تحدّيات الشّعب ومواجهاته للأحكام الجائرة، أمّا جرعوش فقد قبض عليه وسجن وعُذّب؛ لأنّه يوزع المؤونة على فقراء المخيّم.
اعترافات جرعوش على التّهم الخياليّة كانت ليتخلّص من التّعذيب الوحشيّ، الكاتب يتحدّى من جديد، ويعدنا أنّه سيخبرنا بأيّ جديد إذا أمطرت سماؤنا الجافّة بأيّ جديد. ولكن يعدنا أن يكون فرحا عوضا عن الأحزان، وعدلا عوضا عن الظّلم، وحرّيّة عوضا عن العبوديّة.
لقد غطّت صور المعاناة والألم التي تتجدّد في حياة الفسطينيّين معظم صفحات الرّواية، فلقد صوّر حال الهارب وحال المشرّد، وحال من تهدّم بيته، ولجأ الى الجبال، وحال المقاومين والسّجناء الذين لا ينحنون ولن يهزموا، بالرّغم من أمعائهم الخاوية وحلوقها التي تشتاق للماء النّقيّ الممنوع، وأجسادهم التي يحاصرها البرد وأحلامهم التي تتقطّع..وعن ذلك ردّ الكاتب باصرار أنّنا سنتعلّم ونعلّم الآخرين فنّ الممكن من المستحيل، ونعلّمهم كيف يُهزم الظلم أمام الحق.ص٤٥١
لا شكّ أنّ رواية الهروب تضيف إلى الرواية الفلسطينيّة بعدا تاريخيّا وسياسيّا متمثّلا في المجتمع الفلسطينيّ القابض على جمر التّرحال والاغتراب والمقاومة، لذا من الممكن اعتبار رواية الهروب كمصدر أدبيّ يعالج فترة مهمّة من أدب المقاومة الفلسطينيّ.