
افراسيانت - هاشم غرايبة - أنها مأساة فلسطين كامنة في صمت رجل كان شاهداً على عصره، إنها سيرة حسان الصرفندي، صرفند العمار وصرفند الخراب. صرفند المعتقل وصرفند المعسكر. صرفند المقاتلين الشجعان الذين واجهوا الاجتياح. صرفند الزعتر والبرتقال والقمح. صرفند الرغيف النظيف والمنشور السري والدماء الزكية والبندقية المقاومة.
عير بناء فني مشظى تشظي الذاكرة الفلسطينية يردنا زكريا شاهين عبر نشيج حزين إلى زمن المقاومة. زمن وضوح الرؤيا، زمن البساطة الصلبة، وكرامة الجراح النازفة.. ثم نرتحل إلى زمن بائع البرتقال الحزين نجوب معه طرقات بيروت، ونتابع تطورات أو انكسارات القضية الفلسطينية..
تبدأ سيرة (أو مسيرة) سليل البرتقال الحزين من الزمن الجميل، لما كانت تسمى الأشياء بمسمياتها، لما كانت الطيرة هي الطيرة وصرفند هي صرفند. لما كان البطل بطلا والشهيد شهيدا. لما كان الوطن وطناً وليس عقارا مطروحا بالمزاد..
وعندما تحتدم الأحداث الكبرى صعوداً أو انكسارا، وعندما يصير الحدث على مستوى كسب لقمة العيش فنتازياً ويتشظى الواقع المعيش للبطل يلجأ الكاتب إلى الأحلام والكوابيس لتصوير الحال الداخلية للشخصيات الرئيسية، ويستعين الكاتب بالحكايات الشعبية في إضاءة الحالة وسبر أغوارها.. حال حسان الصرفندي، وحال الرواة الذين يسردون الوقائع نيابة عنه فيذكرنا الرواة المتعددون بحزيران الذهول، وتشرين نصف الانتصار، وحزيران اجتياح بيروت، ومجازر صبرا وشتيلا.. وتنتهي الرواية بلوحة سوريالية لمخيم عين الحلوة عام 1982م وكأن الكاتب لا يعترف بمجريات الأحداث والاتفاقيات والمهازل التي جرت بعد هذا التاريخ..
ببساطة الحزن وعمق رنينه يعيدنا حسان الصرفندي إلى سلة الخبز في زمن الأحلام الكبرى في الوحدة والحرية والتحرر؛ حيث لم نكن نختلف على تحرير فلسطين، ولا نشك في حتمية الوحدة العربية، ولا نتناقش حول ضرورة طرد المستعمر.
نقرأ "الرجل الذي لم يكن هناك" في زمن صارت فيه المقاومة إرهاباً، وصارت فلسطين مزقاً على طاولة المفاوضات، وصرنا نتحسر على وحدة كل قطر عربي على حدة، ولا نحلم بوحدة الأمة. وصار المستعمر الذي يستنزف ثرواتنا، ويبلع خيراتنا، ويذبحنا في عقر دارنا شريكاً استراتيجياً لا غنى عنه.
خارج النص أتحدث عن الصديق العزيز الأستاذ عواد علي، أذكر دمعته على مدخل فندق مريديان فلسطين في بغداد عندما صادفنا فريقاً من فرق التفتيش التي كانت تتذرع بالبحث عن أسلحة الدمار الشامل المزعومة في العراق. كان مجرد وجود فرقة أجانب يجوبون أرض العراق غصة في الحلق لا نطيقها.. والآن نقعد أنا وإياه نتناقش ببرود علاوي أم المالكي؟!
ما علينا، نرجع لرواية الأستاذ زكريا شاهين لنقرأ المأساة الفلسطينية من خلال مواطن بسيط يعصر البرتقال والذاكرة المكتظة نزفاً يجبر أو يذهب بصاحبها إلى الصمت الدائم.. حتى ليبدو وكأنه "الرجل الذي لم يكن هناك!.. وينثر الروائي شظايا نصه في زمن تختلط فيه التواريخ، فيضطرب النسق السردي، وتتشعب الدروب. فنتجول في أماكن مختلفة، ونصغي إلى رواة كثيرين ينوبون عن بطل الرواية في سرد أحداث عامة مختلطة بالسيرة الذاتية لحسان الصرفندي، فنتجرع مرارة الهجرة والنزوح، ونعيش معه (معهم) في صرفند والطيرة.. وفي المخيم الفلسطيني "الحقل الذي تنبت فيه كل الاتجاهات الفكرية والحزبية والسياسية التي وجهتها فلسطين.."
لا يتضح المشهد الكلي لمأساة بائع البرتقال الحزين إلا بعد ختام الرواية، حيث تبدو الفصول كمنشآت نحتية تنهض كل واحدة بحكايتها الخاصة لتتجمع في المساحة المتربة بين المقبرة والمخيم حيث: "ما عادت الريح تداعب أغصان الشجر فقد تحول مرورها إلى همس خجول بين المخيم ومقبرة الشهداء.."

