افراسيانت - الكاتب: هناء عبد الله طلوزي - تركت أمي تروي عني، تبكي بحرقة وفخر. كانت تعلم أنني اخترت هذا الطريق بإرادتي، أنني قرأت كثيراً، وفكرت، وقررت أن المقاومة لا تكون إلا بالفعل. ربتت صورتي وقالت: "لم يكن يخشى الموت، بل احتضنه كما يحتضن العاشق قصيدته الأخيرة".
"تحية العروبة والوطن والتحرير، أما بعد…
إن كنت تقرأ هذا ، فهذا يعني أنني قد مت، وقد صعدت الروح إلى خالقها، وأدعو الله أن ألاقيه بقلبٍ سليم مقبل غير مدبر، بإخلاص بلا ذرة رياء. لكم من الصعب أن تكتب وصيتك، ومنذ سنين انقضت وأنا أتأمل كل وصايا الشهداء التي كتبوها، لطالما حيّرتني تلك الوصايا مختصرة، سريعة، مختزلة، فاقدة للبلاغة ولا تشفي غليلنا في البحث عن أسئلة. وأنا الآن أسير نحو حتفي راضياً مقتنعاً وجدتُ أجوبتي. يا ويلي ما أحمقني، وهل هناك أبلغ أو أفصح من فعل الشهيد. كان من المفروض أن أكتب هذا قبل شهور طويلة إلا أن ما أقعدني عن هذا هو أن هذا سؤالكم أنتم الأحياء، فلماذا أجيب أنا عنكم؟ فلتبحثوا أنتم، أما نحن أهل القبور، فلا نبحث إلا عن رحمة الله".
في صباح يوم 27 كانون الثاني/يناير 1984، وُلدت، أنا باسل الأعرج، في قرية الولجة قرب بيت لحم، وجئت إلى هذه الدنيا محمولاً بدعوات أمٍّ صابرة، أن أحمل همّ الوطن وأمضي في درب المقاومة. منذ طفولتي، كنت شغوفاً بالحكايات التاريخية، عاشقاً للكتب، وكانت مخيلتي تمتلئ بساحات القتال، أتصوّر نفسي قائداً يواجه الغزاة، كما واجه قطز التتار. كنت شقيّاً، أرفض التقليد، كثير الأسئلة، أكره السكون وأعشق الفعل.
أنهيت دراستي الثانوية بتفوق في الفرع العلمي، وسافرت إلى القاهرة لدراسة الصيدلة. لكنّ قلبي كان متعلقاً بفلسطين، كنت أقرأ عن الأرض، عن الجغرافيا الممزقة، عن التاريخ المقاوم، عن وجوه الشهداء التي لا تموت. عدت إلى فلسطين بعد عامين، سكنت في مخيم شعفاط، ثم في رام الله، حيث عملت في صيدلية ثم في "المتحف الفلسطيني" باحثاً في تاريخ المقاومة. لم يكن هناك نشاط وطني إلا وكنت حاضراً فيه، بالكلمة، بالشارع، بالحجارة، وبما هو أبعد من ذلك.
في العام 2012، كتبت مقالاً بعنوان "لا تكن مع الاحتلال ضدهن"، مدافعاً فيه عن المناضلات الفلسطينيات في وجه من يسخر من نضالهن، مؤمناً بأن الشراسة حين تتجسد في المرأة، فإنها تفرض الاحترام على الأعداء. لم أكن ممن يكتبون عن المقاومة فقط، بل كنت أعيشها، أنسجها من تفاصيل الحياة، أرى في كل لحظة فرصة للرفض، وفي كل شارع إمكانية للثورة.
في الأول من نيسان/أبريل عام 2016، اضطررت إلى الاختفاء أنا ورفيقيّ محمد وهيثم، بعد مطاردة أجهزة السلطة الفلسطينية لنا. بعد أسبوعين، أعلنت عن اعتقالنا كـ"خلية إرهابية". قضيت شهراً في الزنازين، ثم خضنا إضراباً عن الطعام احتجاجاً على اعتقالنا السياسي، وتم الإفراج عني في أيلول/سبتمبر، لكنني كنت أعلم أن الاحتلال بانتظاري، فاختفيت مجدداً.
مكثت شهوراً متخفياً، أتنقل بين البيوت، أعيش في الظلال، أراقب وأخطط، أكتب وأُعدّ لما هو قادم. وفي فجر أحد الأيام، حاصرت قوات الاحتلال المنزل. داهموا المكان في الثانية عشرة بعد منتصف الليل. اشتبكت معهم لأكثر من ساعة، حتى نفدت ذخيرتي. أُصبت بــ 22 رصاصة في صدري تلقيتها مقبلاً غير مدبر، وقُصفت الغرفة بقذيفة لتتأكد قوات الاحتلال من قتلي. أما روحي، فقد ارتفعت حرّة، كما تمنّيت.
تركت أمي تروي عني، تبكي بحرقة وفخر. كانت تعلم أنني اخترت هذا الطريق بإرادتي، أنني قرأت كثيراً، وفكرت، وقررت أن المقاومة لا تكون إلا بالفعل. ربتت صورتي وقالت: "لم يكن يخشى الموت، بل احتضنه كما يحتضن العاشق قصيدته الأخيرة".
لم أكن أبحث عن البطولة، بل عن المعنى في زمنٍ كثرت فيه الوجوه المتشابهة، اخترت أن أكون مختلفاً، أن أكتب دمي في شوارع رام الله، وأترك لأمي ولأحبتي وصية أخيرة: "لا تبحثوا عني في القبور، إبحثوا عني في الكتب، في الحارات، في صدى الرصاص، وفي ارتجافة النشيد حين يُرفع علم البلاد".