افراسيانت - رفيف إسليم - هل تذكرون قصة بائعة الكبريت عندما ختمت الحكاية بــــ "ماتت وهي متجمدة من البرد"؟ عائلات فلسطينية تموت اليوم متجمدة في الخيام. الصغار يرتجفون خوفاً وبرداً.
في واحد من ليالي شهر تموز/يوليو المظملة، وفي تمام الساعة الــ 11 والنصف قبل منتصف الليل، اخترق نافذة الغرفة ضوء برتقالي مرفقف بصوت يصم الأذان. حاولت التغاضي عن الأمر، لأني صرت أهرب من أهوال الأيام والليالي في غزة إلى النوم. لكن هذه الحيلة لم تنطل هذه المرة. إذ تعالت أصوات الانفجارات من جديد 5 أو 6 مرات على التوالي مخترقة قلبي.
أدركت لحظتها خطورة الاقتراب من النافذة، لكني كنت بحاجة لأن أفهم ما الذي يحدث، وعندما هممت بجذب طرف الستارة أطلقت طائرة مسيّرة ناحيتي طلقات عدة أخطأتني جميعها. بعد دقاق سمعت عائلات تصرخ في الشارع وهي تركض فيما المسيّرة اللعينة تقنصهم كأنهم عصافير يحلقون أمام صياد شره.
في تمام الساعة الرابعة فجراً، حسم الأمر مع أصوات هطول القذائف. حينها فهمت أن قوات الاحتلال على مسافة أمتار عدة من البيت الذي نزحت إليه، فدلفت إلى غرفة الجلوس وحددت موقفي. سأغادر البيت بمجرد أن تكف الطائرات المسيرة عن قنص البشر كأنهم فئران. بالمناسبة، هكذا يرانا جنود جيش الاحتلال وربما أقل من ذلك بكثير.
المياه مقطوعة منذ 3 أيام ومياه الشرب على وشك النفاد والحطب كذلك. البقاء يعني المخاطرة بالموت جوعاً وعطشاً إذا ما طالت مدة الحصار. المغادرة خطر كذلك. فكل من يخرج من بيته مستهدف والشارع مليء بالجثث التي تعبث بها الكلاب. لكن مع بزوغ الفجر اتضحت الرؤية. فتحت النافذة وشاهدت مقر الصناعة محاط بالدبابات الإسرائيلية. أيقنت عندها أنني لا أملك سوى دقائق للهروب.
فتحت الباب. أطلق جنود الاحتلال الرصاص علينا كأنهم يقولون لنا "موتوا في أماكنكم". لكن بعد 10 دقائق أخرجت رأسي من الباب ولم أر ذلك الاختراع اللعين المسمى "كواد كابتر". مشيت في الشارع. شاهدت الدبابة خلفي مباشرة، لكنها لم تطلق صوبي قذيفة. تركتني أمر وركضت أنا بأقصى سرعة ممكنة إلى أن وصلت منطقة بعيدة. حينها افترشت الأرض وبقيت أبكي عوضاً عن القوة التي كنت أتسلح بها طوال طريق الهروب.
أستعيد ذكريات الهروب من "مسافة صفر". أنا التي أسكن في حي تل الهوى غربي قطاع غزة. أحد الأحياء المحببة إلى قلبي في مدينة غزة ليس لكونه المكان الذي كبرت فيه، بل لأنه جار البحر. البحر الذي لم أره منذ أكثر من عام. في بداية العدوان كان تل الهوى ملعب القوات الإسرائيلية وأولى الأحياء التي تم إفراغها لكني لم أخرج منها إلا بعد حزام ناري أتلف نصف منزلي وكاد يودي بحياتي وعائلتي.
عندما نزحت إلى وسط المدينة استهدف الاحتلال العمارة السكنية التي لجأت إليها وراح ضحيتها أخي ابن الــ 14 عاماً شهيداً. غادرت المنطقة قبل أن تجتاحها قوات الاحتلال بيوم واحد. وحتى عندما نزحت إلى منطقة عسقولة لحقتنا الدبابات إلى هناك. طرق بابنا شاب يصرخ "المختار بحكيلكم ما حدا يضل هنا. الجيش بلغ والقذائف كلها بتجي بالعمارة الي ورانا".
كنا نركض ونحن نحمل أمتعة أثقل من أوزاننا. نجري وتمطرنا الطائرات المسيرة بالرصاص ومن يسقط كان يُترك في مكانه لأن لا وقت لدينا لانتشاله أو للحزن عليه. كل ما كان علنا فعله هو الركض للابتعاد عن المكان. هكذا استقر بنا الحال نازحين في مدرسة بمنطقة الزيتون شرقي القطاع، حيث عانيت ما عانيته من الجوع ونقص المياه، قبل أن تصبح باحة المدرسة، بعد أيام قليلة من نزوحي، ساحة للقذائف. جاءت "ساعة الصفر" واستكملت وعائلتي رحلة الهروب إلى مكان آخر تأملنا أن يكون أكثر أماناً.
لكن، والحق يقال، وبعد أن نزحنا إلى منطقة الصحابة وسط القطاع، أتت "ساعة الصفر" متأخرة. إذ لعبت الهدنة وصفقة تبادل الأسرى دوراً في ذلك، فنعمنا ب 15 يوم بلا نزوح. لكن في اليوم الأخير خرق الاحتلال الهدنة صباحاً، وجاءت "البشائر" عبر أصوات القذائف التي سبق وحدثتكم عنها. تلك التي تبعد تسقط بعيدة عنك بمسافة بسيطة جداً. تبدأ بصفير وتنتهي بانفجار يصحبه تحطم حجارة الباطون.
حينها كان عدد النازحين في العمارة كبير جداً. نحو 100 شخص كانوا يجادلون في الهروب أو انتظار قوات الاحتلال لتخرجنا عنوة. لكن لا أحد كان على استعداد التضحية بفلذة كبده. فالمعادلة محسومة. جميع الشبان أسرى، وجميع حقائب الأمتعة سيجبروننا على تركها. فضلنا الهروب تحت نار القذائف على التضحية بما تبقى معنا من الملابس.
لا تستغربوا الأمر. يقولون في المثل الشعبي "المال معادل الروح"، وأنا أقول إن قطعة ملابس تحت وطأة برد الشتاء تعادل الروح. هل تذكرون قصة بائعة الكبريت عندما ختمت الحكاية بــــ "ماتت وهي متجمدة من البرد"؟ عائلات فلسطينية تموت اليوم متجمدة في الخيام. الصغار يرتجفون خوفاً وبرداً.
حقيقة لا أتذكر عدد المرات التي ارتجفت فيها من شدة البرد لأني لم أجد قطعة ملابس ثقيلة واحدة أرتديها، ولا عدد المرات التي نزحت فيها. ربما هي 10 مرات أو أكثر، لكنني دائماً كنت آخر من يخرج ويغادر الحي في كل مرة. أخوض معركتي مع الخوف فيغلبني ويأمرني بالرحيل وترك المكان مستسلمة لــ "ساعة الصفر" والويلات التي ستقابلني بعدها، ولا أدري إن كنت سأخرج بالفعل في المرة المقبلة أم ستأتي "ساعة الصفر" الخاصة بي.
- صحافية من غزة