ضد جدار الصمت.. ثورة الفن والثقافة على هوس ألمانيا بالاحتلال الإسرائيلي

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 


افراسيانت - حسام فهمي - لم ينقطع الدعم الألماني عن الحكومة الإسرائيلية، حتى مع تزايد عدد الضحايا الضخم من المدنيين في غزة، فعشرات الآلاف قد قتلوا، وأغلبهم من النساء والأطفال، لكن الحكومة الألمانية قد زادت خلال فترة الحرب صادراتها من الأسلحة لإسرائيل لما يعادل عشرة أضعاف صادراتها في العام الماضي.


لم يكن دعم ألمانيا لإسرائيل فقط على مستوى الامتداد بالسلاح، بل إنه امتد لدعم سياسي ودبلوماسي، كان آخره تصويت مندوبة ألمانيا بمجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، ضد التوصية بإيقاف صادرات السلاح لتل ابيب.


استمر الدعم الألماني الأحادي على المستوى الفني والثقافي، وامتد حتى بلغ منع الأصوات الفلسطينية أو المدافعة عن فلسطين داخل ألمانيا، فقُيّد حق التعبير والإبداع خلال الشهور الستة الماضية بشكل لا مثيل له في ألمانيا منذ إعادة التوحيد بداية التسعينيات.


فأنى تستمر الحكومة الألمانية بخسارة رصيدها الدبلوماسي العالمي، بسبب دعمها الكامل للحكومة الإسرائيلية وتجاهلها دماء عشرات الآلاف من المدنيين وتجويع الأطفال؟ وكيف تحاول أصوات فنانين ومبدعين داخل ألمانيا الدفاع عن فلسطين، متحديةً الصعوبات والتهديدات؟


عُرض الفيلم الوثائقي “لا أرض أخرى” (No Other Land) ضمن فعاليات مهرجان برلين السينمائي الدولي “برلينالي” المُقام في فبراير/ شباط من العام الجاري، ويدور الفيلم حول تهجير أهل الضفة الغربية وتدمير قراهم بأيدي الجيش الإسرائيلي والمستوطنين الصهاينة.


وأثناء عرض الفيلم هتف بعض الحضور قائلين “الحرية لفلسطين”، فأدى هذا الهتاف لاتهام الفيلم والحاضرين بمعاداة السامية، وانطلقت حملة ضدهم في وسائل الإعلام الألمانية.


وقد استمرت الحملة واشتدت مع فوز الفيلم في حفل الختام بجائزة أفضل فيلم وثائقي في المهرجان، لا سيما بعد كلمة مخرجي الفيلم، وهما الفلسطيني “باسل عدرا” الذي طالب الحكومة الألمانية بوقف تصدير السلاح لإسرائيل، ثم الناشط والصحفي الإسرائيلي “يوفال أبراهام” الذي وصف إسرائيل بأنها دولة الفصل العنصري.


عقب الحفل انطلقت حملة شعواء للهجوم على صناع الفيلم ووصمهم بمعاداة السامية، وقد خرجت الحملة والتعليقات على لسان عمدة برلين “كاي فيغنر” و”كلوديا روث” المفوضة الفيدرالية للثقافة والإعلام، ونُشرت الاتهامات بشكل دعائي في الصحف والقنوات الألمانية.


وقد أدى ذلك في النهاية لتعرض مخرج الفيلم الإسرائيلي “يوفال أبراهام” وعائلته لتهديدات بالقتل من متطرفين يمينيين إسرائيليين، فدفع ذلك إدارة مهرجان برلين المستقلة عن الحكومة إلى إصدار بيان رسمي للدفاع عن اختياراتها في عرض الفيلم، وعن الفنانين الأجانب الذين عبروا عن رأيهم بالتضامن مع فلسطين على مسرح المهرجان.


لم يزل الهياج الألماني الرسمي على أشده، واتهامات معاداة السامية تُوزّع بشكل جماعي لأي نقد موجه لآلة الحرب الإسرائيلية، حتى ولو كان هذا النقد موجها من نشطاء يهود وإسرائيليين في بعض الأحيان.


قررت الحكومة الألمانية في ولاية زارلاند إلغاء معرض فني للفنانة اليهودية “كانديس برايتز”، بسبب تصريحات لها تدافع عن الفلسطينيين، وتنتقد حكومة “نتنياهو” اليمينية المتطرفة.


وقد نشرت “برايتز” بعد ذلك على حسابها الرسمي بمنصة “إنستغرام” جزءا من كلمة ألقتها في إحدى المظاهرات في شوارع برلين، جاء فيها: لقد تجمعنا اليوم للتظاهر ضد التآكل المستمر للمجال العام في ألمانيا، من خلال سلاح الاتهام بمعاداة السامية، فكثيرا ما استُخدم غلافا لتغطية الإسلاموفوبيا والعنصرية.


تصف كلمات “برايتز” بدقة ما يحدث في المجال العام الألماني حاليا، فبينما تعاني الدولة والمجتمع الألماني من إسلاموفوبيا كاسحة وعنصرية لا يمكن إنكارها، يغطي السياسيون والإعلام الرسمي ذلك باتهام المعارضين لهم من الأجانب والمدافعين عن حق الفلسطينيين في الحياة بمعاداة السامية، الأمر يشبه نكتة في الحالات الشبيهة بحالة “برايتز”، فقد أصرت امرأتان ألمانيتان -هما مديرة المتحف الألماني المسؤول عن المعرض، ووزيرة ثقافة حكومة زارالاند- أنهما مدافعتان عن اليهودية التي تمثلها إسرائيل في وجه فنانة يهودية.


يتزايد هذا السعار في منع كل ما هو فلسطيني أو متضامن مع فلسطين، حتى ولو كان ذلك منذ سنين، وقد بلغ حد التفتيش فيما كتبه أو عبر عنه أو سانده بعض الفنانين خلال ماضيهم، ومثالا على ذلك ألغت الموسيقية الأمريكية الحائزة على جائزة الغرامي “لوري أندرسون” مشاركتها أستاذةً زائرة في جامعة فولكفانج بمدينة إيسن الألمانية، بسبب مساءلة إدارة الجامعة لها عن خطاب تأييد للفلسطينيين، كانت قد وقّعت عليه عام ٢٠٢١، وقد وجدت “أندرسون” المساءلة غرائبية، وقررت إلغاء الرحلة.


لم تتوقف معارك ألمانيا على منع المَعارض والندوات والتهديد بمنع الجوائز، بل إنها بلغت حد قطع التمويل الحكومي لبرامج ومشاريع فنية، كما حدث مع مركز “عيون” الثقافي والفني في حي نويكولن بالعاصمة برلين، فقد أوقف تمويله الحكومي لاستضافته فعاليةً لمنظمة “صوت يهودي من أجل السلام”، وهي منظمة مضادة للصهيونية، مدافعة عن حقوق الفلسطينيين.


ثم تلت ذلك حملات تشهير ضد المركز، تصدرتها جريدة “تاغس شبيغل” التي تعد أحد أشهر الصحف البرلينية، وهي دائما ما تصف بمعاداة السامية كل فعالية أو تصريح ينتقد آلة الحرب الإسرائيلية، لكن إدارة مركز “عيون” استطاعت نيل حكم قضائي ضد الجريدة، يجبرها على تعديل أو حذف ما بثته من تشهير واتهامات ضد المركز الثقافي.


على جانب آخر كانت معاناة منظمة “صوت يهودي من أجل السلام” أشد، لا سيما بعد وقف حسابها المصرفي الرئيسي بمصرف “سباركاسه” العام المملوك للدولة، وعدم قدرتها على التصرف بما فيه من أموال. وكانت هذه الجماعة اليهودية الألمانية المحبة للسلام تشارك تقريباً في كافة الفعاليات المدافعة عن حقوق الفلسطينيين في برلين، ويعرّض هذا أعضاءها للأذى اليومي على أيدي قوات الشرطة الألمانية.


تلك المصادرة الممنهجة لكافة الآراء الثقافية والفنية المدافعة عن فلسطين داخل ألمانيا، صاحبتها أيضا محاولات لتقنين هذا الوضع المكارثي (نسبة إلى جوزيف مكارثي)، فقد حاول وزير الثقافة في حكومة برلين “جوي كيالو” -وهو من الحزب المسيحي الديمقراطي- إصدار قانون منحه “عدم التمييز”، لكنه في الحقيقة يمنع أي مشروع ينتقد إسرائيل من نيل التمويل الحكومي.


وقد انطلقت عقب ذلك مظاهرات حاشدة من الفنانين والمثقفين في برلين، بعضها حاصر مكتب “كيالو” نفسه، وفي النهاية أكّد قانونيون له أن القرار غير دستوري، فقرر الوزير سحبه.


وفي وسط هذه الأجواء القاتمة والمكارثية أطلق عدد من الفنانين في برلين حملة “إضراب ألمانيا” (Strike Germany)، لمقاطعة كل الفعاليات والمشاريع الثقافية والفنية التي تديرها الحكومة الألمانية، مع وضع مطالب واضحة للتوقف عن ذلك.


وتتمثل المطالب في إطلاق حرية الإبداع، مع التركيز على محاربة معاداة السامية والعنصرية الممنهجة ضد العرب والفلسطينيين في نفس التوقيت، وقد وقّع على حملة الإضراب والمقاطعة ما يزيد عن ألف فنان ألماني وعالمي، لعل أبرزهم الكاتبة “أني أرنو” الحائزة على جائزة نوبل في الأدب عام ٢٠٢٢.


بعد شهرين من بداية الإبادة في غزة، نشرت الكاتبة اليهودية “ماشا جيسن” مقالا في جريدة “نيويوركر” الأمريكية، تقارن فيه ما فعله النازيون في الحرب العالمية الثانية، وما يفعله الجيش الإسرائيلي في غزة، وردًّا على ذلك انسحبت حكومة بريمن الألمانية من تكريم الكاتبة “جيسن” بجائزة “حنا أرندت”.


وبعد حملة كراهية وهجوم شديد تعرضت لها “جيسن” بسبب انتقادها لآلة الحرب الإسرائيلية، صرحت قائلة: لو كانت “حنا أرندت” نفسها في ألمانيا اليوم، لما ترشحت للجائزة التي تحمل اسمها.


هكذا يبدو وضع الحرية الثقافية والفنية في ألمانيا اليوم، فلا مجال لأطروحات فكرية أو فنية تعارض الصوت الرسمي المهلل لاستمرار القتل وتصدير السلاح للجيش الإسرائيلي، لكن الحراك الفني يحاول المقاومة بما فيه من نشطاء ذوي أعراق وخلفيات ثقافية مختلفة، حتى لا تصل ألمانيا لما كانت عليه قبل ٧٠ عاما.

©2024 Afrasia Net - All Rights Reserved Developed by : SoftPages Technology