افراسيانت - بقلم: زياد جيوسي - شذرات.. هكذا اطلقت أ.د. ثريا وقاص على بوح روحها في كتابها الأدبي الأول " الدائرة في المنتصف"، وبمجرد اطلاعي على الكتاب كنت اهمس لنفسي: ثريا تتألق في نصوص عابرة للتجنيس، ولفت نظري العنوان الذي وضحته في الاهداء لروح والدها بأن روحها مستمرة بالدوران حول دائرة الغياب لولا وجود أمها "التي ما تنفك ترتب دقات القلب"، وحين قراءة الكتاب نجد ثريا تدور حول مجموعة من الدوائر، ففي دائرتها الأولى "دائرة القلب" التي وصفت بها الأحبة والأصدقاء بصناديق الذكريات فإن غابوا تبعثرت الذكريات ولكنها فعليا في دائرتها الأولى لم تخرج عن أسرتها: ذكرى الأب وروعة الأم واحتياج الأخت والأخ، وحين نغوص بهذه الشذرات نشعر أننا نستمع لترنيمات يتلوها القلب بخشوع وقدسية في محراب تعبد، ولعل الاعتراف بالعلاقة بالكتاب الذي كانت تكرهه بطفولتها لأنه يستلب اباها منها، لتتحدث باعتراف لماذا تقرأ وتقول أنها تقرأ من أجل استعادة احاسيس قديمة وضحكة أباها وبعض الطفولة، لدلالة على التحليق الأقرب للتعبد في شذراتها.
من الأسرة تنتقل إلى الصداقات التي افتقدتها في نفس دائرة القلب، فالصداقات كما الأسرة مزيج من مشاعر تجتاحنا وأحيانا لا نجد لها تفسيرا فهي ترى أنه بدون الصداقات لا تكون الحياة ممتعة، فنحن نحتاج إلى كتف صديق نضع رأسنا عليه لنرتاح قليلا، ولكنها تتألم أننا نفقد الكثير من هذه الصداقات فجأة، إما بالغياب أو أنها تضيع دون إدراك ولا انتباه كما طفل يفقد لعبته دون أن يشعر بذلك، ولكن في جانب آخر فهي انتقائية في مفهوم الأصدقاء فلا ترغب بكثرتهم فتقول: "الذين يملئون حياتهم أصدقاء خوف من الوحدة..ينتهون وحيدين"، وأحيانا تشعر بضعفها أمام صديقاتها اللواتي يغيرن برامجها بابتسامة لا تملك إلا أن تلبيها ولكنها بعد ذلك تشعر أن صديقاتها خطر عليها.
في 23 شذرة في دائرة القلب نرى أن الكاتبة مشدودة لروح الأب أولا وللأسرة ثانيا، ولكنها حين تنتقل للأصدقاء والصديقات تمر بحالة نفسية مختلفة بين ضرورة الأصدقاء والصديقات، وبين الانتقائية والرفض الداخلي في روحها، ولكنا في نفس الوقت تجد التلقائية في التعبير عن روحها وشذراتها، بينما حين ننتقل للدوائر الأخرى سنجد تعابير أخرى ففي الفصل الثاني من بوحها: (دوائر.. دوائر)، نجدها تعلو الكلمات بعبارة تقول فيها: "ما يقلق اليوم ليس أن نفقد بعض أوهامنا، ولكن أن لا نجد ما يعوضها"، وهذه العبارة دلالة على الخوف الكامن في الروح وحجم التشاؤم والذي سنراه جليا حين نجول دوائر.. دوائر، وفي 15 شذرة سنرى حجم الخوف الذي يسود روحها، فالقيم تتغير ومفهوم الوطن أصبح مخيفا، والخوف من الحرب يسود الحياة، والخوف من الغد لا يتوقف، والضمير أصبح مثقوبا قذرا، حتى أنها تشبه الناس في الأوطان كالغاضب وحده في السوق، لا يعرفه أحد ولا يهتم بغضبه أحد، وأصبح التعامل مع الوطن كما التعامل مع الأشياء عديمة الفائدة، يتم رميه عند أول تأشيرة سفر أو تذكرة طائرة، وفي ظل هذه الصورة السوداوية التي تمر بها تظهر بارقة أمل واحدة وهي رغبتها أن يقول من تصفه الساهم الكئيب الذي يصغي كل يوم إلى كوارث العالم، رغبتها أن يقول لها كلمة أحبك لينتهي الحزن وتستحي الحرب وترحل وتعود العصافير للأشجار، ولكن في ظل هذا الكم الكبير من فقدان الأمل والتشاؤم الذي لا حدود له من الواقع المحيط، هل يمكن لهذه الكلمة أن تغير المسار المعتم؟
من التشاؤم المغرق في السوداوية تنتقل بنا الكاتبة إلى دائرة جميلة العنوان "دائرة الحب"، ولكنها تستبق شذراتها عن الحب بعبارة: الحب مكونة من حرفين ومجنونين، وهذه العبارة وحدها كافية لتحطيم كل ما يمكن تخيله بمشاعر الحب من سمو وإنسانية وتحليق روح، وفي 23 شذرة باحت بها روح الكاتبة نجد حجم التناقض في الإحساس بين شذرة وأخرى، وفي مفهوم الحب الذي نجده محلقا مرة وعابر سبيل في أيامنا هذه، تحلم بحب يكون عظيما حين يكون بدون مقابل، بينما في شذرة أخرى ترى أن الحب سباق شيق بين اثنين للوصول إلى الملل، والحب مسيرة نحو المتاعب تنجرف لها القلوب لتصل في النهاية الى فكرة أنه لا يوجد حب حار وحب فاتر، فقط هناك حب أو لاحب، وهذا يذكرني بقصيدة نزار قباني التي يقول فيها: "اختاري الحب أو اللاحب فجبن أن لا تختاري، لا توجد منطقة وسطى ما بين الجنة والنار"، وهذه المفاهيم المتناقضة في الحب حيرتني، فهل هي انعكاس لتجربة تركت أثرها وندباتها، أم هي رغبة بالحب يسودها الخوف الذي يلجم المشاعر؟
"استدارات لطيفة" هي الدائرة الأنثوية في الكتاب حيث تروسها بعبارة: "كل النساء جميلات دون أن يعلمن ذلك، وحدهم الرجال ينبهوهن أو ينسيهن ذلك إلى الأبد"، وفي هذه الدائرة المفتوحة نجد عبر 13 شذرة حكاية المرأة وكيف تفكر وكيف تصاب دوما بخيبة الأمل وصعوبة فهمها مهما اقترب منها الرجل، فقد شبهتها الكاتبة بالبيت بغرفه المتعددة وكل غرفة لها استخدام، الاولاد، المطبخ.. الخ، ولكن في كل بيت غرفة تحتوي على الركام والأشياء التي استهلكت، ومن يريد أن يفهم المرأة عليه أن يدخل إليها في هذه الغرفة، وبالتالي فكأن الكاتبة توحي لنا من خلال تناقض مفهوم المرأة وماذا تريد، أن لا إمكانية لفهم المرأة.
في "دوائر ناقصة" تبدأ الحديث للآخر بالقول: لماذا تصر هكذا على الغياب؟ اظهر قليلا.. إظهر كي أرى جيدا عيوبك.. وفي 13 شذرة تدور أفكار الكاتبة عن الغائب الذي رحل بدون أن ينظر للخلف، فتصف مشاعرها بألم شديد ولكن بأسلوب عاطفي جميل، فدوائرها ناقصة في ظل غياب الآخر وعدم اهتمامه بمن تركه، فهي ترى أنه حتى إن عاد سيكون شخصا آخر، وهي التي قدمت كل شيء وتركت كل ماضيها خلفها، وفي لحظة قرر الغياب فهي هنا تتمنى أن يظهر من جديد ليس لكي يعود الحب بل من أجل أن تكتشف عيوبه أكثر.
من ألم الغياب تعود الكاتبة في شذرات جديدة بلغت 11 شذرة إلى "دوران حول الطفولة والذكريات"، ولكنها مسبقا تطالب أن لا نحتفظ بكل الذكريات القديمة كي لا تعيق المسير للمحطة القادمة، فتستعيد ذكريات الطفولة وحكايات الأباء والأجداد والجدات، ولعلها تلخص كل ذلك بالقول أننا حين نكون أطفالا نحلم أن نكبر، وحين نكبر نحلم أن نعود أطفالا، لتنقلنا بعد جولة ذاكرة الطفولة إلى 15 شذرة من "حلقات الزمن المفرغة" حيث "تسير السنوات عمياء على رصيف العمر وقلوبنا عكازتها البيضاء"، فترى أن الزمان يمر بنا تاركا آثار حبه على أجسادنا كلما تقدم بنا العمر، "وكأن الوقت الذي يفترسنا بدون رحمة صديقنا الحميم" في فلسفة جميلة للتعايش مع الزمان والوقت والتقدم في العمر، وفي نفس الوقت ترى أن نعيش جمالية اللحظة فكل ما يمكن أن نلهث من أجل بناءه لن نتمتع به في المستقبل.
لعل ثريا وقاص في دوائرها تصر أن ترى الكثير من الألم والتشاؤم أكثر من رؤية الفرح والجمال ففي "تناقضات دائرية شبيهة بالحياة" تلخص الفكرة أعلى شذراتها بالقول: كم هي كثيرة أسباب الخير، كم هي وخيمة نتائج الشر، ونختار الشر لأننا لا نحب الخير لأحد"، تجول في هذه الفكرة في 23 شذرة ورغم كل ذلك نرى أنها ترى الخير موجود في بعض القلوب، "فالنور الذي وضعه الله في قلوبنا لا يمكن ان تطفئه كله أفعالنا"، وترى أن الكلمة الطيبة تعود كالصدى مهما كانت خافتة، ومن هنا ورغم التعميم في أعلى هذه الشذرات وحجم التشاؤم الا أن هناك بصيص من حب وجمال.
تختتم ثريا وقاص دوائرها في "الدائرة المفتوحة على الحلم" وفيها تبحث عن وجه آخر من الجمال في الحياة، وهذا نلمسه بالفكرة الموجودة في بداية هذه الدائرة قبل أن تنقلنا إلى شذراتها، حين تقول: "الكتب من الشجر الأخضر، ومنذ أن قللنا من شراءها نقص الهواء من بيوتنا"، وهذه مقدمة رائعة تلخص أن الكتاب هو الموجه وهو رفيق الحياة فكلما قرأنا كتابا شعرنا ان يدا تزيح ترابا تراكم على اكتافنا، فهي كأنثى ترى أن أجمل كتابة هي التي تكتب عن الحبيبة فتغار منها كل النساء، وأننا كي نجد أنفسنا علينا أن ننسلخ عن ذاتنا حين نكتب، وتجول معنا بنفحات روحها وشذراتها التي بلغت 14 شذرة في عالم الكتاب والشعر والكُتاب والشعراء بجمالية أقل ما يقال عنها: حلوة..
وبعد هذه الجولة في دوائر ثريا وقاص المعنونة الدائرة في المنتصف، نجد أسلوبا قريبا من الشعر والشاعرية في حروفها، وهي شذرات أو كما قلت في البداية ترنيمات أقل ما يقال بحقها أنها جميلة وتشد القارئ، ونرى أن الكاتبة في شذراتها الجميلة كانت تجول في النفس الإنسانية بتناقضاتها، ومن يريد أن يقرأ ثريا وقاص فعليه أن لا يقرأ الشذرات على عجل أو كما هي مرسومة بالكلمات، بل أن يقرأ الروح خلف الكلمات كي يخرج بمفاهيم جميلة للحياة، فرغم الإحساس الأولي بالكثير من الألم والتشاؤم والتناقض الذي يسود روح الكاتبة، إلا أن القراءة المتأنية تكشف حجم الفلسفة بالدوائر التي لم تكتمل، فالدائرة المكتملة للحياة والتي نعيش من خلالها هي التي في المنتصف، وفي هذه الدائرة التي تمثل الحياة بتناقضاتها كما رسمتها ثريا وقاص، سنجد أن الله وهو واحد أحد خلق الكون على مبدأ الثنائية، فمقابل الكره يوجد الحب ومقابل الصحة يوجد المرض، فلماذا لا نبحث عن الوجه الإيجابي في كل شيء؟