افراسيانت - جلست رادا على سريرها تتأمل غرفتها وتلك الصور المعلقة على جدرانها، وملصقات الورد التي كانت تضعها في كل مكان بلا تنسيق، كانت في أوقات ضيقها تمسك ملصقا لوردة، تقوم بإزالة ورقته الخارجية وتلصقه على أقرب مكان بجانبها، حتى امتلأت جدران غرفتها بالملصقات، والورود كل واحدة منها يعبر عن حدث ما أحزنها، الورد هو روحها التي لا تذبل بالجفاف.
الورد هو رد فعل للشوك الذي يحيطها، عندما رفض أخوها محمد أن ترافقه للسوق وضعت وردة، وفي المرة القادمة وافق أن ترافقه، وطول الطريق يتلصص على فتحة ثوبها؛ لكي لا ترتفع وتظهر كاحلها بحركتها، أمّا تلك الورود الكثيرة المتراكمة فوق بعضها البعض والملاصقة لزاوية السرير فهي كلما كان والدها ينظر اليها نظرة ريبة لا تعرف أسبابها.
كانت تشعر بالذنب وتبدأ بمراجعة نفسها، تلك النظرة التي تشعرها أنها متهمة بذنب ما، تبدأ بمراجعة نفسها، تلصق لنفسها تهماً لم تقم بها، قد تكون عن حسن نية أوقعتها بحبائل الريبة.
تراكم الملصقات جعلها قاتمة مبعثرة لا تُفسّر كنفسها، رواسب حياتها التي تشد سوادا كلما قارنت نفسها ببنات خالها وبالحرية والثقة الممنوحة لهن، هذه جعلتها تشعر أنها عنصر غير موغوب به في البيت، وأنها عبء عليهم، تشابه الحائط مع ذاتها، كلاهما يلصق به ما يشوّه بياضه.
أسمت عقدتها تلك متلازمة الأنوثة، أصبحت تمقت أنوثتها وتعتبرها سبب شقائها، قلدت اخوتها الذكور بالكثير من الصفات والسلوك، ورغم ذلك لا شيء ينفي كونها أنثى.
كانت تتساءل هل لو قتلت الأنثى بداخلها ستنال إعجاب أهلها ورضاهم؟ وهل ستكون سعيدة لو أنها عاشت عكس الطبيعة التي خلقت بها، صراع بداخلها شتتها، كوّن شخصية مقيدة مهزوزة، لكن كل ذلك لا يلغي أحلامها.
قطع تفكيرها صوت والدتها تناديها
ـ نعم أمي.
ـ استقبلي خالك على الباب.
ذهبت مسرعة تستقبل خالها، كان يحمل صندوقا صغيرا، وما أن اقتربت منه حتى قدم لها الصندوق المغلّف، أظهرت عيناها لهفتها وارتباكها الشديدين، وسألت:
ما هذا يا خالي؟.
ـ افتحيه لتعرفي، قالها مبتسماً مما بث الراحة بنفسها وزاد شوقها لمعرفة ما في داخل الصندوق.
أخدت تزيل عنه الغلاف وهي تتمتم: يا رب.
وما أن بدا لها ما بداخله حتى هجمت على خالها تعانقه وتقبله وتسأله وتعيد السؤال: هل حقا وافق والدي؟ كيف ذلك؟
ـ نعم يا صغيرتي.
تقدمت منها والدتها وسألتها: ماذا في الصندوق؟.
_ جواز سفري.
_مبروك ابنتي.
_ الله يبارك فيك، ثم أزاحت ناظريها عن والدتها وسألت خالها: لكن كيف أقنعته؟
_لا تهتمي، فقط جهزي نفسك للسفر والاشتراك بالمسابقة قريبا، وسأرافقك، سأل مازحا: ألا استحق فنجان قهوة بعد هذه البشرى؟
_ سأعده لك في الحال.
نظرت والدتها الى أخيها وقالت: وفاة سارة قلبت حياتنا، كانت صفعة جعلتنا نعيد ترتيب الأمور لكن بعد فوات الأوان.
_ إن فات الأوان مع سارة فرادا ما زالت هنا، تلك الفجوة بينكم وبين البنات ما جعلت سارة تكتم مرضها عنكم، الى أن رحلت - رحمها الله - كان الأجدر أن تفتحي حضنك لبناتكِ، وتقتربي منهن، مع أن رادا مختلفة لديها طموح بلا حدود، خُلقت بموهبة ترى أن الله وهبها إيّاها وميّزها عن باقي خلقه بها ومن الظلم قتلها.
_أخاف عليها من جموح طموحها.
_ ليس ذلك أن تقتليه.
_أخي هكذا تعلمنا وتربينا، وربيت بناتي كما نشأت، لكن موت سارة كسر ظهري.
_ خسرتِ سارة فاكسبي رادا.
_ ما زلت أتألم وأتساءل لماذا أخفت سارة مرضها عني؟.
_ لا أدري كيف لم تشعري بابنتكِ وهي تحتضر أمامك، ألهذا الحد كنتِ بعيدة عنها؟
تأتي "رادا" حاملة صينية القهوة، وتقترب من خالها، تقدم إليه القهوة مبتسمة، يأخذ خالها فنجان القهوة ويبادلها الابتسام، تتجه لوالدتها...ترى الدموع في عينيها، فتقول: سأعوضك يا غالية.
الوالدة: لم أكن أمّا قريبة لابنتيّ، ولم أكن محل ثقة سارة لتخبرني بأوجاعها، بل لجأت لصديقتها التي تعرفت إليها من عام فقط ، حين التحقت بالكلية.
رادا: حتى أنا أختها لم تخبرني.
الخال: لم تخبرك لأنكِ لا تستطيعين كتمان سر مرضها.
الوالدة: كانت بعيدة بتفكيرها عنا دائما، لها عالمها الخاص لوحدها، وزادها بعدا ذهابها للكلية وانتقالها للسكن مع صديقتها أمل في السكن الداخلي. حين شعرت بالدوار عدة مرات ذهبت للطبيب لوحدها لإجراء الفحوصات، راجعت الطبيب عدة مرات لوحدها، عرفت أنها مصابة بذلك المرض اللعين لوحدها، عرفت النتيجة في فترة امتحانات" الفاينال" فتراجعت دراسيا، ولم تقدم بعض الامتحانات، وكم لامها والدها واتهمها بالإهمال الذي بنظره له مبرر وحيد، وهددها بأن يجبرها على ترك الكلية إن استمرت بهذا الطريق، لم تخبر أمل إلا بعد أن انتهت امتحانات " الفاينال"، أثناء حفل أقامته صديقاتها بمناسبة انتهاء الفصل الجامعي، كانت تنظر لوجوه صديقاتها والفرح يملأ نظراتهن، رأت الحياة تشع من عيونهن، أمسكت يد أمل ونظرت إلى عينيها وقالت: عندي سرطان بالرأس.
وجمت أمل ولم تستطع أن تتحمل وقع الخبر، وكأنها أصيبت بغيبوبة للحظات، شعرت أن الموسيقى التي ترقص عليها صديقاتها في الصالة قد صمتت، وأن الأضواء التي تزينت بها الجدران والسقف قد أظلمت، فكيف للأحلام أن تبتر؟ لم تكن تتوقع هول المسؤولية التي أشركتها بها سارة حين قالت لها:
لن يعرف أحد غيرك.
_ ستتعالجين وستشفين، أجابت أمل.
_ فات الأوان، وأنا سأرفض العلاج، شعري الذي أتغاوى به كل عمري لم أقصه، لن أقوى أن أراه يتساقط، إن موت أنوثتي أصعب من موتي، أريد أن أرحل وأنا بكامل جمالي.
_ أخبري أهلك قبل أن يلاحظوا تعبك.
_ لن أقوى على رؤية أمّي تتألم على فراقي، وتودعني بكل نظرة، سأرى موتي كل يوم بعينيها، عندما أقرأ بنعي أحدهم :"رحل بعد صراع مع المرض"، يؤلمني التسليم بالمرض، وكأن الموت أنهى عذابه وعذابهم، بينما موت الفجأة ينهي حياته وحياتهم، يأسهم من حياتي، وموتي على دفعات صعب أن أتحمله، لأموت مرة واحدة، ليكون موتي عظيما.
كانت تأتي لزيارتنا وتتظاهر أنها بخير.
- عاشت اللحظات الأخيرة في استسلام وسكينة، بعد أن تفشّى المرض، وكانت آخر زيارة لها قبل أسبوعين من موتها، أتت وعلامات المرض تظهر عليها، وعندما سألتها عن تعبها أجابت بأعذار واهية .
- لماذا لم تأخذيها للطبيب عندما شعرت أنها تعاني وصحتها ليست بخير.
- والدها يا أخي لا يعير اهتماما لأوجاعنا نحن الإناث.
- ألهذا الحدّ يا أختي ليس لكنّ قيمة! أنت أضعف من أن تكوني أمّا ترعى بناتها، تحافظ على كيانهن ومشاعرهن التي خلقن عليها، وخصها -الله سبحانه - عن الذكور.
- النظرة تختلف عمّا تراه خصائص، هي عيوب.
- جهلكم يراها عيوبا.
- لن تكون الأنثى كالذكر يوما، وحرصنا عليها ليس ذنبا.
- وأين كان حرصك عندما اختطفها الموت بصمت؟ لم تخبرك بأوجاعها، رحلت بسبب فجوة من الرهبة بينك وبينها بسبب هذا الحرص، وتفكيرك التابع لفكر والدها واخوتها الذكور، بنيتم جدارا صلبا من الحرص حجبكم انتم أيضاً عنهن، ممكن أن أتوقع أي شيء من والدها، أمّا أنت الأمّ وذات الروح فلا.
- قتلت روحي من زمن لأرضي زوجي، ودست على رغباتي الأنثوية التي لا ترضيه، وكنت مطيعة لأبني بيتا سعيدا.
- سيطرة الزوج على الزوجة لا تخلق بيتا سعيدا.
- تعلمنا يا أخي أن نرتّب رغباتنا حسب أهواء الرجل.
- تقصدين تقتلين رغباتك.
- أنت خلقتِ إنسانا كالرجل، وليس تابعا، لكِ صفاتك وله صفاته، ومن الظلم قتل ما خلقه الله فيكِ، وميّزكِ به عن الرجل.
- قتلت إنسانيّتي لأحافظ على بيتي، ولتستمر الحياة.
- بيدكِ هانت عليكِ نفسكِ، وكانت بناتك ضحية مثلك.
- كل امرأة مثلك، لَبِنَة صلبة تدعم العقلية الذكورية.
- ماذا لو ذهبت رادا وفشلت؟ ماذا لو استغلوا صورها لأمور لا ترضي والدها واخوتها؟. ماذا لو....؟
يقاطعها قائلا: يكفي دعمكم لتخوض تجربتها فقط.
- تُجرب وتقع بالخطأ، ومن يتحمل عواقب تلك الأخطاء غير المقصودة؟ هل سأخبر كل من يعلم بأن أخطاءها لم تكن مقصودة، وأنهم استغلوها، الناس يهمهم طرف خيط ليكملوا النسيج.
- هناك ضوابط، فقط امنحيها الثقة، رادا تربت على يديكِ، تعرف ما تريد.
- ليحمكِ الله يا ابنتي.
ينهض الخال عبد الرحمن ويغادر على أمل أن يعود قريبا، للاتفاق على الرحلة التي باتت قريبة.
رادا: لا حاجة بي للتدريب يا أمّي فلديّ الثقة لأخوض هذه المسابقة.
تجيب الأمّ: قال خالك منذ قليل أنّكِ تعرفين ما تريدين.
- هل تمنح الثقة؟ هناك فرق بين منح الثقة والتربية عليها منذ الصغر، الثقة تشكل بالنفس الجرأة والقوة، وأنا لا أملكهما، لكن ما يدفعني الآن حلمي وثقتي بموهبتي، ومع ذلك إنني متردّدة وخائفة.
- تربينا على كبت شخصية البنت كي لا تتمادى.
- الزمن اختلف سأحلق بلا حدود، وطموحي الجامح سيرفعني إلى مراتب الفوز.
نظرت إلى عيني والدتها المترددة وقالت: لا تخافي، سأنطلق وأعيش الأشياء من جديد، سأولد بتلك المسابقة وتولد هناك رادا الأنثى، أعدك بأنكِ ستفتخرين بي.
- سأرى فيكِ ما كتمته بنفسي عقودا من الزمن.
بعد بضعة أيام حان وقت السفر، اصطفّت العائلة لتودعها وهي تركب السيارة التي ستقلها هي والخال الى معبر الكرامة في أريحا، اقترب منها أخوها الأصغر علي قائلا:
سأشتاق لكِ، سيكون البيت فارغا بدونكِ، عانقها فدمعت عيناها.
آتى من خلفها أخوها حسن وقال وهو يبتسم:
من سيعد لي القهوة والفطور كل صباح؟
أمّا محمد الأخ الأكبر فقد ودّعها ببرود، لم يتكلم فهو غير راضٍ عن اشتراكها بالمسابقة وسفرها، اقتربت من والديها قبلت يد الوالدة وعانقتها وبكت، ثم قبلت يد الوالد وقال لها:
الله يرضى عليك يا ابنتي، تذكري أنّكِ تحملين سمعتنا أينما ذهبتِ.
- سأحافظ عليها يا والدي وستفتخر بي.
أمسك الخال يدها وقال: هيّا بنا.
رافقت خالها لداخل السيارة ثم قالت له:
أعلم أنه لا يهمّ والدي أن يفتخر بي، ولن يشكل نجاحي شيئا له.
- بدّي تبيضي وجهي، آمنتُ بكِ وخضتُ حربا لأجلكِ، يجب أن تفوزي.
في عقلها الصغير دارت الكثير من الأفكار، شعرت بحنان والديها رغم قسوتهما المترسخة بخلدها، شعرت بالإشتياق لسارة، قالت لنفسها:
لقد فدتني بعمرها، سأعيش لأحقق أماني جمعتنا، في ليل أحزاننا الباردة، كنا نرسم القمر على ظلام نوافذنا، نصف بيدي ونصف بيدها، كنا نقتسم الأشياء، قسمتنا انتهت بوفاتها، وأصبحت آخذ الحصة كاملة، أقضمها بلا مشاركة؛ لتغدو بلا طعم، لماذا تركتني بصمت يا سارة؟ ليتكِ بقيتِ ومات حلمي.
يقطع تفكيرها خالها عبد الرحمن قائلا:
أخيرا عبرنا الحدود ووصلنا الأردن، سنذهب للمطار، ونستقلّ الطّائرة المتجهة الى لبنان، وهناك سيكون في استقبالنا مندوب من المسابقة، سأرافقكِ الى أن تصلي المبنى، وبعد ذلك سأذهب إلى الفندق، وفي كل حفلة ستجدينني أمامكِ.
وعندما أقلعت الطّائرة قالت رادا:
- إني خائفة يا خالي.
- عند ظهورك بالحفلة انظري إلى عينيّ، وجّهي أحاسيسكِ لي، وإذا سئلتِ فكوني صادقة.
ثم أضاف: استمتعي بالتجربة، فالخوف يضع غشاوة على عينيكِ، انظري للنافذة وشاهدي الفضاء، أنتِ الآن تحلقين عاليا.
- يا لهذا الجمال!
- نركب الألعاب الخطرة بمدينة الملاهي رغم خوفنا، إنها "الإثارة"، فلتثيري روحكِ، ولتلعبي على شفا المغامرة.
- نعم نعم . خالي انصحني نصيحة آخيرة.
- كوني مؤمنة إنهم لا يملكون أكثر ممّا لديكِ.
- أحبك خالي .
- فوزي لأجلنا.
بعد فترة من الزمن، سمعا المضيفة تخبر عن انتهاء الرحلة والوصول بالسلامة، استعدّا للنزول من الطائرة.
في قاعة القادمين كانت المدربة" شادن" في انتظارهما، ترتدي ملابس أنيقة، ترخي شعرها على كتفيها، استقبلتهما والبسمة على وجهها، عرفت رادا من صورتها التي معها، اقتربت منهما مرحبة وقالت:
أنا المدربة " شادن".
رادا: أهلا بكِ، بسرني معرفتكِ، وهذا خالي عبد الرحمن.
شادن: أهلا بك، يقولون:" ثلثين الولد لخاله"، هل ينطبق هذا عليكما؟
رد عبد الرحمن مبتسما:
نعم صحيح، سترين.
شادن: واثقة من ذلك.
كلامهما دعم رادا، وأشعرها أن الأمور بسيطة بلا تعقيد.
شادن: هل سترافق رادا طيلة مكوثها في لبنان؟
عبد الرحمن: نعم حجزت في فندق قريب.
شادن: هل زرت المدينة وتعرفها من قبل؟
عبد الرحمن: نعم كثيرا، جبت العالم، أنا طبيب درست الطب في روسيا، تزوجت ورزقت بابنتين، توفيت زوجتي -رحمها الله-.
- أنت طبيب وتترك عملك لترافق ابنة أختك؟
- الطبيب يحافظ على حياة الآخرين، وأنا هنا من أجل حياة رادا، يكفي أن هذا الأمر أتاح لي فرصة التعرف عليكِ.
ابتسمت شادن، وساد الصمت إلى أن وصلوا.
شادن: هيا بنا رادا.
اقتربت رادا من خالها تودعه فقال لها:
أنتِ الآن تحملين حلم كل فتيات البلدة، يجب أن تكوني لأجلهنّ.
ردت والدموع بعينيها: سأكون ما دمت بجانبي.
نظر عبد الرحمن لشادن وقال:
أني أتركها وديعة بين يديكِ.
شادن: لا أحتاج لتوصية، فأنا أقوم بواجبي .
دخلت رادا برفقة شادن إلى المبنى، أذهلتها الديكورات الضخمة، المساحات الواسعة، الرسوم على الجدران بألوان هادئة مريحة للنفس. قادتها شادن الى غرفتها وقالت:
ارتاحي الآن الى أن يحين وقت العشاء، وستلتقين باللجنة على مائدة العشاء.
دخلت الحمام، يا للروعة كل شيء معدّ لأقصى أسباب الرفاهية.
أخذت حمّاما سريعا، ارتدت ملابسها، توجهت إلى الشرفة التي تطل على الحديقة، كم هو مذهل هذا المشهد! لا مثيل لتناسق الأزهار ولترتيب المقاعد والجلسات التي تظهر فخامة المكان، مكان مناسب للإلهام ، شعرت بالبهجة والأمان.
سمعت طرقات على الباب، إنها "شادن" أتت لتصطحبها للذهاب للعشاء والتعرف على اللجنة، والمشتركات.
حان الموعد يا صديقتي، قالت شادن وهي تمد يدها لرادا، أمسكت رادا يدها قائلة: تذكرينني بخالي عبد الرحمن.
ردت شادن بابتسامة.
كان لرقة شادن الأثر الكبير في مدّ رادا بالثقة.
دخلت قاعة العشاء وجلست حسب ما وجهتها شادن، ألقت التحية على اللجنة، ردّت رئيسة اللجنة "سيدرا" ورحبت بهن وعرفتها على المتسابقات، ثم قالت:
أنتن إحدى عشرة متسابقة، اخترناكن لوجود قواسم مشتركة بينكن، وعشتن ظروفا متشابهة، إضافة إلى موهبتكن بالكتابة، وستفوز أفضلكن في مسابقة " القلم الذهبي"، في البداية ستخرج بالحفل الأول إحداكن حسب تصويت اللجنة، ثم " مرحلة روح الفريق"، سنقسمكن الى فريقين تتنافسان لإحراز النقاط، التصويت ينقذ إحداكن، واحدة تخرج؛ لأنها لم تشكل تميّزا لفرقتها، ولم تنسجم مع باقي الفريق، أنتم من تخترن الخاسرة، والخاسرة الأخرى تخرج؛ لأنها نالت أقل نسبة تصويت، بعد أن تحسمن أمر التي لا تنسجم وروح الفريق، وإذا كانت هي نفسها التي نالت أقل نسبة أصوات تصبحن أربعا في الفريق كاستثناء، وليس ثلاثا، في المرحلة الثانية من المسابقة " مرحلة الفداء" ستكنّ ثلاثة متسابقات في كل فرقة ستنجو إحداكن بتصويت الجمهور، ويكون لها الخيار بأن تفدي نفسها وتعطي مكانها لمتسابقة تراها أجدر منها باللقب، الخيار الآخر أن تخرج واحدة طواعية وتفدي الأخريات، تقف من فازت بتصويت الجمهور وتختار إمّا أن تفدي نفسها لأجل من هي أفضل منها، أو أن ترفض الفداء وترى نفسها الأجدر، فتترك ساحة الفداء للمتسابقتين الباقيتين بالفريق، هنا يحق لواحدة منهما أن تفدي الأخرى، وإن رفضن ثلاثتهن الفداء يخسرن معاـ ويخرجن ويبقى الفريق الآخر في المسابقةـ خروجهن مكسب وفداء للآخر، وفي المرحلة الأخيرة " تتويج القلم الذهبي" تبقى متسابقتان بكل فريق، تتدخل اللجنة لاختيار واحدة من كل فريق لخوض المرحلة، الفريق المتخلف عن الفداء يخرج ويستبدل بكامل الفريق الآخر، وتصويت الجمهور يحدد الفائزة حاملة لقلب "القلم الذهبي"، في المرحلة الأخيرة، أتمنى لكن التوفيق.
قالت رادا لنفسها: يعني أصعب مرحلة مرحلة الفداء.
تناولت الطعام وكان من غير اللائق أن تتحدث أو تنظر للمتسابقات أثناء الأكل، غادرت بعد أن انهت طعامها كما غادر الجميع، ولم تعرف عن المتسابقات سوى أسمائهن.
ذهبت لغرفتها ونامت بهدوء، في الصباح أتت شادن ومعها مصمّمة أزياء، تحملان عددا من الملابس الفاخرة، يا لتلك الألوان الزاهية المذهلة قالت رادا! وأضافت بإعجاب بالغ:
تصاميم آخّاذة.
ردت المصمّمة أحلام: درست شخصيتكِ واخترت لكِ بعناية هذه الموديلات، ظهورك للجمهور في أوّل لقاء مهم، أنتِ إنسانة منعزلة وغير واثقة، وبحاجة إلى محبّة الجمهور، يجب أن تظهري مطمئنة وكأنكِ بين أصدقائكِ، ملابسكِ في الظهور الأوّل لكِ، تعطي إنطباعا عنكِ ، وتقدّم رسالة تظهر شخصيتكِ وروحكِ.
رادا: لم يكن خياري الانعزال، وتربيت على الريبة التي مسحت ثقتي بذاتي.
أحلام: أعتذر، فلم أكن أقصد الإساءه لكِ، وقصدي هو لفت انتباهك لنقاط الضعف التي يجب علاجها قبل أن تستغل ضدكِ بالمسابقة.
تدخلت شادن قائلة: في النهاية ملابسك ستكون انطلاقة لشخصية رادا الجديدة، ولروحها المتّقدة، أنت من ستختارين زيّكِ الذي ستظهرين به في النهاية، ماذا تفضلين بالملابس رادا؟
رادا: أنا افضل الملابس الرقيقة التي يحركها النسيم، تثور لهبوبه، تتراقص على جسدي وأنا أمشي، واسعة الأكمام تمتد مع كفي ثناياها، عندما أمدّ ذراعي تمتدّ كمدّ موج البحر عندما يعانق الشاطيء، أريد زيّا فيه روح الطبيعة لأصالح الحياة وأغفر لها احتجازي داخل ذاتي ،هل هو موجود؟
أحلام: نعم ستنطلقين كفراشة، ستحلقين.
شادن: لا يفوتكِ يا أحلام أن رادا محجبة، ونريد أن نُظهر امكانيات ما قد تظهر به المحجبات، ضمن المتاح؛ لتفتخر كل محجبة بالتزامها.
أحلام: نعم، سأهتم بكل تلك الملاحظات، يبقى ما لون رادا المفضل؟
رادا: الأزرق.
: إنه لون الذكور.
: صمتت رادا وهي تتذكر اخوتها ورغبتها في التشبه بهم.
: إذن البنفسجي.
: لماذا اخترته، فرق كبير بين اللونين.
: البنفسجي مزيج من الأزرق الذي شكل جزءا من شخصيتي، والأحمر لون شقائق النعمان في وطني.
شادن: يناسبك البنفسجي فهو يشبهك، أنتِ شخصية خيالية تحلّق في عوالم آخرى، اللون البنفسجي مركب مثلك، لكنه زاهٍ ونقيّ.
أحلام: إضافة الى أنه لون العظمة والفخامة والتّميّز، نعم هو الأقرب لشخصيتكِ، أو لما نريد أن نظهركِ به .
ردّت شادن بنبرة قوية: بل شخصيتها .
أحلام: نعم في النهاية نحن نعمل كفريق، نجاح رادا نجاحنا، لهذا أهتم بأن تكون صلبة تتحمل الضغوطات.
رادا: لا عليكِ إنني أتعلم، وأثق برغبتكما لأكون الأفضل.
شادن: أنت متسابقة جيدة، لا يمكنكِ الخروج من غرفتكِ إلا بعد أوّل حفل، لتتعرفي على المتسابقات بشكل عامّ، هذا يؤثّر على ما يجب أن تعرفيه أولا عن المتنافسات.
رادا: حاضر، لذلك الحين ستكون هذه فرصة لأعتاد على أمر المسابقة وجوها.
في المساء عادت شادن تحمل ثوبا على ياقته وأكمامه تطريز فلسطيني هاديء، أكمامه واسعه من قماش الشيفون المبطن، حيث يوحي بالرقة والرّزانة، لونه بنفسجي مائل إلى الوردي، يعطي احساسا بالإبتهاج.
قالت شادن: مصممو المسابقة يهتمون بإبراز المتسابق بطابعه الخاص، والانطباع الأوّل في نفوس الجمهور يترك أثرا يحدد سير التصويت منذ البداية.
رادا: قبل أن يسمعوني؟
- نعم، عليكِ أن تبهري الأبصار في إطلالتكِ الأولى.
قالت رادا باستغراب: وأشعاري؟
ابتسمت شادن وقالت:
تلك قوانين مصمّمي المسابقة، ألم يبهركِ الفستان ويشوقكِ لترتديه؟
- بلى إنه أبعد من خيالي.
- جرّبيه.
ارتدته رادا فظهرت كفراشة الربيع، جميلة رقيقة، والشال الوردي على رأسها أظهر هدوء ملامحها.
- أنتِ فراشة الوطن.
- شكرا لكِ يا شادن ولتشكري أحلام على جهودها، رغم أنّها لم تحبني.
- كلنا هنا نتحدى أنفسنا لنظهر الأفضل، ونقدّم أقصى طاقاتنا، ولكن لكلٍّ منا شخصيته التي تتعامل مع التحدي بأسلوب مختلف.
- ماذا سأقدم بعد ظهوري أمام اللجنة والجمهور؟
- لقد أرسلتِ لنا عددا من القصائد، وستخبركِ اللجنة ماذا اختارت لكِ بالتنسيق مع باقي المتسابقات؛ لتكون مناسبة القصيدة واحدة للجميع، يعني تقدمن قصائدكنّ الوطنية مثلا في الحفل الأوّل عن الشهداء، وفي الحفل الثاني عن الأسرى، أو القدس وهكذا.... وقد تجري اللجنة تعديلا على بعض القصائد قبل بداية العرض.
- يعني لا ارتجال؟
- لا، كل شيء مخطط له مسبقا.
في اليوم التالي قبل موعد الحفل بساعات أتت شادن وبرفقتها طاقم عمل متعدد الوظائف، فهناك من يعتني بالمظهر الذي ستبدو عليه رادا، وآخر يدرّبها على أفضل لقاء بعد أن اختارت اللجنة قصيدة من قصائدها، الأمر الذي بث في نفسها الاطمئنان، فالكل مهتم بنجاحها ويساندها.
تركتهم شادن بعد أن ألقت عليهم تعليماتها، وطلبت إدخال رادا لغرفة الانتظار قبل الظهور في الحفل واعتلاء منصة المسابقة.
مرحلة "1" تصويت اللجنة
بدأت الحفلة في الموعد المحدد بظهور لجنة التحكيم على المنصة، وقفت اللجنة وطلبت مقدمة الحفل أن يعزف النشيد الوطني الفلسطيني، على خلفية المنصة كانت تظهر المدن الفلسطينية والمخيمات التي أتت منها المتسابقات، هذا الموقف المهيب وكلمات النشيد على أرض لبنان وبحضور فلسطينيين من مختلف الأماكن أثار الشجن في النفوس.
بدأوا بالمناداة على المتسابقات واحدة تلو الآخرى، ظهرت رادا تسلب الأنظار بطلّتها الجميلة، وبإلقائها المتقن، ثم أخذت الرقم خمسة، وطُلب منها الجلوس، تفاءلت حيث أنها تحب الرقم خمسة، وترى بأنه يجلب الحظ، تعرفت على المتنافسات، وقد أعلن عن تقسيمهن إلى فريقين، رادا، حنين، عروبة، آية ومها الفريق الأول، والفريق الآخر: إيمان، سما، جيهان، ريم، غيداء وخلود .
قالت رادا لنفسها:
أحلامنا تقتل أحلام الآخرين، سأكون سعيدة لو استبعدوا غيري، لو اختاروني لأخرج سأنتهي وسيخيب ظن خالي بي، ولكانت الحرب التي خضناها سويا بلا قيمة.
ومع ذلك حلمي سيعيش على رفات حلم إحداهن، فليكن..لا يمكن أن أخسر؛ فأنا أكثر متسابقة بحاجة للفوز؛ لأثبت للآخرين قدراتي، لا أعتقد أن هناك متسابقة عاشت كما عشت، وعانت ما عانيت.
أوقف أفكار رادا صوت المقدمة تقول:
الآن من ستغادر؟ تصمت وتعيد الجملة...حسب تصويت اللجنة ستخرج الليلة متسابقة، سيبدأ تصويت الجمهور بعد انتهاء الحفل، دقائق ونعلن اسم المتسابقة التي ستغادرنا ويبدأ التصويت.أتى وقت التصفية النهائية وستخرج متسابقة، لحظات من التوتر، ثم نادوا على المتسابقة التي ستغادر، كانت (الكاميرات) تستعد لتكون مسلّطة على وجهها، ترصد ردّ فعلها في تلك اللحظات، تروّج لخسارتها، تعولّ على انكسار إحداهن؛ لتروّج لنجاح المسابقة، وكأن من تخوض المسابقة تخلق من جديد وخسارتها نهاية العالم، وبذلك تنجح المسابقة، بالقدر الذي ترصد به انفعال من ستغادر.
قالت رادا لنفسها: حلم إحدانا سيتحطم هذه الليلة قبل أن يبدأ، وسيكون لحطامه دويّا ترصده عيون "الكمرات".
نظرت لخالها لتطمئن، أشار لها بعلامة النصر وابتسم، مع أنه كان شديد القلق أن تضيع هذه الفرصة على رادا، وتذهب جهودة وإيمانه برادا أدراج الرياح، يا لهذا التوتر يحيل الثواني لساعات!
وأخيرا قالت المقدمة: من انتهت رحلتها معنا، ولم يحالفها الحظ وتحتاج لاجتهاد أكثر لتخوض المسابقة... هي.. هي ... إيمان.
تنفست رادا الصعداء وكذلك عبد الرحمن، ذهبت رادا لتودّعها وتتمنى لها حظأ أفضل، فهمست لها إيمان:
الكل خاسر.
أمّا شادن فكانت الأكثر ألقا، بجمالها الأخاذ وقوامها الجميل، ولباسها الأنيق، لم يصرف عبد الرحمن نظره عنها، وقعت في قلبه، كانت رادا فراشة الوطن، أمّا شادن فظهرت كحورية البحر، رغم أنها كانت أكبر من جميع المتسابقات إلا أنها كانت أجملهن، لم تستطيع تجاهل نظرات عبد الرحمن فذهبت لتسلم عليه، وأبدى إعجابه بها وأثنى على جمالها.
ردت عليه قائلة: أنت لا ترى إلا الشكل الخارجي.
ذهبت رادا لتعانق خالها بعد انتهاء الحفل، لحقتها شادن تهنّئها على أدائها الجميل بحفل الإفتتاح.
قال عبد الرحمن: لنحتفل برادا، هل تقبلي دعوتي يا شادن للاحتفال برادا؟
شادن: لكن لا يمكن لرادا أن ترافقنا.
عبد الرحمن: إذن لنحتفل سويّا بجهودنا معها.
ابتسمت شادن كجواب للدعوة، وغادرا سويّا، أمّا رادا فغادرت إلى غرفتها، بدلت ملابسها، استلقت على السرير، حاولت أن تنام، لكنّها كلما أغمضت عينيها كانت تتذكر وجه إيمان وهي تقول:
الكل خاسر.
سألت نفسها: هل قالت هذا إيمان كردّة فعل على استبعادها، أم أنّ هناك أمرا آخر مخفي عنا؟
جلس عبد الرحمن وشادن في مطعم قريب من المبنى، قال عبد الرحمن:
أنا سعيد لتلبيتكِ دعوتي.
ابتسمت شادن بخجل.
- مع أنّني قابلت الكثير من الجميلات وجلست معهن، إلا أن جمالكِ أربكني، لا أجدُ ما أقوله، لكن لديّ رغبة بالتعرف عليكِ أكثر.
- أنا لاجئة فلسطينية من قرية سيريس قضاء القدس، كانت القرية مبنية على شكل هلال يتناسب واستدارة الموقع، تحيط بالقرية الغابات، بيوتها حجرية، أنت تعرف من شروط المسابقة أن تكون فلسطينية خالصة، اللجنة والمتسابقون والمدربون، ولدتُ بمخيمات لبنان ولا أعرف عن فلسطين إلا حكايات جدّي ووالديّ، مطلقة بعد زواج استمر ثماني سنوات.
- ما سبب الطلاق؟
- نفاذ صبري.
- لا أتوقع من له زوجة مثلكِ يقدر على خسارتها.
- هذا ما كان، لم يكن يقبل خسارتي في أيّ حال من الأحوال، وحين فُرضت عليه خسارتي ظنّ أنه سيمتلكني للأبد إذا قام بتشويهي .
- كيف لم أفهم؟
- ألا تلاحظ أنني أضع دائما شالا على عنقي؟
- لا، أناقتكِ وجمالكِ الآخاذ سلب لبّي والشال على عنقكِ يليق بكِ، وهو جزء جميل يكمل أناقتكِ.
- كان يريد تشويه وجهي، لكنّني هربت فانسكبت المادة الحارقة على رقبتي وصدري.
- أي وحش هذا؟
- بل أيّ محبّ هذا؟ فكرة أن أكون لغيره تقتله، ومع ذلك قتلني عندما كان مع غيري، إنها العقلية الذكورية حيث تجد المبررات والأعذار لأفعالها، وتستدرج الأنثى بمسمّى النصيب والقدر لقبول الأعذار.
- كيف كان ذلك؟
- كنت أدرس أنا ووسيم في الجامعة، ونشأت بيننا علاقة حبّ، تقدم لخطبتي، وتزوجنا يوم تخرجنا من كلية الأعلام، عشنا كأسعد زوجين لمدة خمسة أعوام، كانت حالته المادية ميسورة، وهو وحيد أهله، والمدلل لدى والدته بشكل خاص، وأنا أيضا شملني لأجله الحب والدلال.
مرّت أوّل ثلاث أعوام على زواجنا ولم نلق بالا لعدم تمكننا من الإنجاب، بعد ذلك كثرت تسؤلات الأهل ممّا أجبرنا على مراجعة الطبيب، ظهر لديّ عدد من المشاكل ورغم العلاج والتقيح الصناعي لم يتحقق المراد.
- ليس ذنبكِ، هو قدر الله سبحانه.
- قدر الله يؤمنون به حين ينصب على الذّكر لا الأنثى، للذكر دائما خيارات، وللأنثى الإستسلام للأقدار.
- كيف؟
- قدر الله أن لا أنجب، وقدره بنظرهم أن أتقبل أن ينجب من امرأة أخرى.
- لماذا قبلتِ، لماذ لم تتطلقي في حينها؟
- لم يقبل أن يطلقني، ذهبت لأهلي حين تزوج وطلبت الطلاق، كان يأتي لأهلي كل ليلة، حتى ليلة زواجه ترك عروسه وآتى ليثبت تمسكه بي، في النهاية قبل شروط أهلي جميعها، وسكنت أنا وهو في بيت مستقل بعيدا عن زوجته الثانية، كان يقول دائما:
- شادن لي وهي حبي الحقيقي.
- كان يجب أن يعيش معكِ ويتقبلكِ كما أنتِ، لو أحبكِ بصدق لاستغنى عن رغبته بطفل لن تنجبيه.
- من أعذاره أنه الإبن الوحيد ويريد ابنا يحمل اسم العائلة.
عدتُ إليه، فكرهت أن حبيبي لم يعد كاملا لي، جعلته بنظري نصف رجل، انكسرت صورته أمامي فهو لم يحمني من مشاعر الغيرة التي تفتك بقلبي، كلما تركني ليذهب إليها، ثم لعبت زوجته الثانية لعبة دنيئة لتستحوذ به، كانت تثير غيرة زوجي عليّ، وتثير الشكوك من حولي، وخلقت قصّة سمّمت عقله بها، وحين وجدت نفسي محل اتهام بالخيانة تمسكت بالطلاق، لا أدري كيف يصدق أنني ممكن أن أخونه، وأنا تحملت الكثير لنبقى معا؟
أصرّ أهلي هذه المرّة على طلاقي، ومع هذا الإصرار تمكنت من عقله الظنون، وفكر أنني ساتركه لأتزوج عشيقا من صنع خيال زوجته، التي دعمت قصتها بأوهام عقله العقيم، فما كان منه إلا أن أتى بثورة غضب وجلب معه مادة حارقة وألقاها على وجهي؛ كي لا أصلح لغيره، هربت منه فانسكبت المادة الحارقة على رقبتي وصدري، ولم تظفر بوجهي، عشت شهور ألم فظيع، مكثت في المستشفى أسابيع، ثم خرجت من هذه التجربة بكره شديد له، تجربة كانت كفيلة بأن تأتي على ما تبقى من حب له، كم تحملت من أجله! وما هي الخيانة؟
أنا خنته بأوهام زوجته، أمّا هو فخان حبّي له أمام ناظري، تحملت الحقيقة ولم يتحمل الأوهام.
- لماذا لم تجري عمليّة تجميل؟
- الندوب لا توجع، ما يوجع سنوات عمري التي ضاعت، ما يوجع الحب الذي قدمته لمن لم يصنه، ما يوجع العذاب الذي تحملته ولم يكن مجديا، حبي البكر ارتطم بألف جدار وتركني وحيدة، تطلقت.. سوء على سوء خرجت من زواجي بسمعة سيئة وجسد محروق، وقلب جريح.
- منْ يراكِ يشاهد الأنوثة والرقة، ويرى بسمتك الجذابة لا يتخيل أن أحدا يمكن أن يرميكِ بوردة.
- لهذا قلت لكَ أنت تنظر إلى الشكل الخارجي فقط.
- مصرةٌ أن لا تجري عملية تجميل؟ استطيع أن أساعدكِ، فأنا طبيب.
- لم يبرأ جرح قلبي بعد، عندما يشفى قد أفكر بالأمر.
- أعدكِ ستفكرين.
- هذا أنا فماذا عنكَ.
- ابنتي الكبرى بعمر رادا، تعرفت على كاترين عندما كنت أدرس الطب، كاترين من أصول بوسنيّة مسلمة، آمنت أنا وكاترين بدين الرحمة ورأيناه. رأيت رحمة الله تسكن عيون أمّي فتتوقف دموعها وهي تودّعني وتودعني لله، كلما يحين موعد سفري، رأيت الله يسهر فوق رأس طفلتي حين تعرضت لحادث سير ونجت منه بمعجزة، رأيت وأرى الله مع كل شروق وغروب يوزّع رحماته ويبشّر بالحياة ويهب الأرض الأمل، ويتقبّل من يعصيه عليها، لا يسأل.
لم أطلب يوما من زوجتي أو بناتي أن يرتدين الحجاب، ولم أقيدهن بأفكار القرية، ولا بكلمات خطب من على المنابر، علمتهن أن الله بداخل الإنسان قبل أن يكون حوله، يظهر بقلبه وينعكس على تصرفاته لا مظهره، البنت ليست نكرة ما دام نور الله يسطع من داخلها، وخلقها سبحانه لتكون شيئا في هذا الكون، أنهيت دراستي وعدنا للوطن، رزقني الله بأمل وسعاد، وأعتبر رادا ابنتي الثالثة، فرق كبير بين تربية رادا وتربية ابنتي، هي مقيدة لولا أنّني خضت معركة لفكّ قيدها وجلبها إلى هنا، أمّا باقي ظروف رادا فأنت تعرفينها، توفيت كاترين -رحمها الله- منذ عاميين.
- لماذا لم تتزوج بعدها؟
- تخيلي وأنا في بيت العزاء أبكي ألم الفراق، كان المعزّون يرشحون لي فتيات للزواج، بعضهن كانت أعمارهن قريبة من عمر بناتي، بحجة أنّي طبيب يمكنني الاختيار بغض النظر عن العمر.
- وكيف رفضت كل تلك العروض؟
- كنت أردّ عليهم ستأتي لوحدها، وهاي هي أتت.
ظهرت علامات الحياء الممزوج بالفرح على شادن، احمرّت وجنتاها، شردت نظراتها كي لا تلتقي بنظرات عبد الرحمن، مما زادها جمالا.
- أتستحين؟
- الحياء فطريّ في البشر.
- مرّ زمن طويل.
- مرّ عليّ أيضا.
- تأخرّ الوقت، شكرا على السهرة الجميلة.
- سعدت لأنكِ فتحت قلبك لي، وشكوتِ همومكِ، مع أن سهرتنا لم تكن خالصة لنا، كنا سنبدأ بالتو.
- في مرة قادمة.
- كأن بداخلنا شيئا يفسد لحظات سعادتنا ويستكثرها علينا.
- صحيح أمر صعب، أحيانا يصعب علينا أن نفهم أنفسنا.
- قد يكون توالي الألم والحزن طبع بداخلنا سمات تستبعد أضدادها.
- تقصد ترفض أن يتمكن الفرح مكانها.
- لكنني سأفرض السعادة عنوة، لن يستوطن قلبك غير الفرح؛ لأنكِ تستحقينه.
- كلامك كالحلم.
- سأجتهد ليتحقق ، كانت تجربتكِ مريرة مع الحب، اتركيه ليزهر بداخلكِ من جديد.
- سعيدة جدا بهذه السهرة شكرا على الدعوة.
ابتسمت فأمسك بيدها قائلا: دعوتكِ لقلبي.
شعرت أنه يمسك روحها لا يدها، نظرت لعينيه، عيناه تراها من الداخل. افترقا وقد تمكن كل منهما من قلب الآخر، على أمل لقاء قريب.
كانت رادا جالسة في حديقة المبنى، اقتربت منها حنين وعروبة وأبدتا رغبة بالتعرف عليها.
قالت حنين: تعرفنا بشكل عام في الحفل هل تذكريننا؟
رادا: نعم أنتِ حنين فلسطينية تعيش في الأردن، وعروبة فلسطينية تعيش في الداخل الفلسطيني.
عروبة: نعم أنا من "أمّ النّور"، وحنين تسكن عمّان أصولها من طولكرم.
رادا: أهلا بكما سعيدة بالتعرف عليكماـ وكأننا هنا في مؤتمر فلسطيني مصغّر.
حنين: نعم اجتمعنا لأنّنا نتشابه كفلسطينيات بظروف حياتنا وبذات المعاناة، رغم اختلاف سكننا، كلّ منا تشكل قصّة فلسطينية، يكللها الألم، وإن اختلف السرد.
رادا: لا أظن أحدا منكن تشبهني.
عروبة: جميعنا نعرف قصّتكِ،، فلجنة التحكيم منحت قصّتكِ التّميّز وقدمتها كمنوذج للمتسابقات.
رادا: عانيت الكثير.
حنين: لكلّ فلسطيني معاناته الخاصّة، وأنتما في الوطن، أمّا أنا فلا أعرفه، ومهما عشنا لا كرامة لنا إلا في وطننا، البعض ينظر لنا على أنّنا دخلاء مهما اجتهدنا وعملنا بجدّ، لا يتقبّلنا ويبقى يصنّفنا على أننا غرباء.
عروبة: إنّنا بالداخل المحتل نصارع لنبقى، ولنحافظ على هويتنا ونعمّق انتماءنا،
قد تكونين -بعيدا عن ظروف حياتكِ يا رادا- أكثرنا حظّا، فأنتِ على أرضكِ ولست لاجئة، لكِ اسم واحد، لم تجرّبي معاملة المغترب أو الفلسطيني في الدّاخل المحتل، لكِ ثقافة كلّ من حولكِ يدركها، نحن نحتاج دائما؛ لنشرح أنفسنا أمام الآخرين لنعرّف على أنفسنا.
رادا: معكما حق، لا أمان في وطني، لكن الحياة على أرضه مختلفة، لكني لم أملك حظا في يوم من الأيام، باجتهادي سأحصل على ما يحصل عليه الآخرون.
عروبة: معنى ذلك ستبذلين أقصى ما تستطيعين للفوز.
رادا: بالتّأكيد، سأناضل لأفوز.
حنين: أنتِ تتوقعين أن يخدمكِ التّصويت.
رادا: التصويت حظ لا أعتمد عليه.
عروبة: إذن لتحاربي ضمن الفريق لتبقي.
رادا: نعم، سأحاول أن أكون الأفضل بالفريق لأفوز.
حنين: مصممو المسابقة قاموا بتقسيمنا إلى فريقين لنتحالف مع بعضنا البعض.
عروبة: وهذا يعني أن نستبعد إحدانا.
رادا: ماذا يعني ذلك؟
ـ نتّفق فيما بيننا ونتفق على منّ سنبعدها.
ـ الأضعف تستبعد.
ـ ليس شرطا، نحن من نحدّد من ستكون الأفضل، التي تشكّل تهديدا علينا، نتحالف ضدّها، هي حيلتنا لنبقى.
رادا تتساءل مستغربة:
نستبعد الأفضل؟
ـ نعم الأفضل، نبعدها عن طريقنا.
ـ ما معنى ذلك؟
ـ فكرت أنا وحنين أن نتحالف ضدّ آية، ما رأيك؟ أنت معنا؟
ـ معنى ذلك قد تتفقون في الأسبوع القادم وتستبعداني أنا بعد آية.
ـ لا نعدكِ بذلك، فقد نجري قرعة بعد ذلك، لكن آية خصم قوي، يكفي جمالها لتفوز.
ـ القرعة حظ، ليس لصالحي أبدا، لا تقتلاني، أنا هنا لأفوز بقدراتي، على الأقل وصولي للنّهائي، يجب أن أثبت وجودي، ليس لديّ خيار آخر.
ـ إذن لنتفق أن لا تكوني ضدنا كوني معنا.
ـ إنّنا بهذا نظلم آية.
ـ هي قوانين المسابقة.
ـ يا للقسوة!
ـ ماذا تتوقعين؟ هذه مسابقة وعلينا أن نلعبها باتقان.
- كنت أظن أنّ الموهبة الحقيقية تفرض نفسها.
- نظرتكِ سطحية، يبدو أنّك لا تعرفين ما يحصل خلف الكواليس، هي تجربة لتتعلمي ولتحاربي من أجل هدفكِ بالحياة.
- وماذا لو فازت آية بتصويت الجمهور؟
- لا أعتقد، لاجئة فلسطينية عاشت في مخيم لبناني، لجوء خلف لجوء، من سيهتم بدعمها؟
- وماذا لو استبعدت أنا بالتصويت؟
- سنتخلص منك.
قالت عروبة ضاحكة: يبقى الأمر لعبة، وعلينا أن نجتهد بما نستطيع.
غادرت رادا عائدة لغرفتها وكلمات عروبة " سنتخلص منكِ" تصفع سمعها مرارا، استلقت على سريرها ثم نظرت إلى الأعلى، شعرت أن الأمور أصعب ممّا تحتمل، اتّصلت بشادن وأخبرتها عن خطّة الفريق.
ردت شادن: لا تثقي بأحد، من يتآمر معكِ سيتآمر يوما ما ضدكِ.
تدور الكثير من الأمور في رأس رادا، مصممو المسابقة يثقلون على المتسابق بحيث تغدو كلعبة، أكثر من كونها مسابقة، ومن يجيد حبك خيوطها سيفوز، هناك عقل مدبر، وهناك تحالف وهناك حظ، فما دور الموهبة؟
وماذا لو تحالفن ضدّي من البداية؛ لأنّني لم أجاريهنّ؟ في كل الأحوال هناك مؤامرة حاصلة، وإن لم أكن طرفا فيها سأستبعد إن لم أتعاون.
سأدافع عن موهبتي لن أسقط الراية مبكرا، ستنقذني موهبتي، يجب أن أثق بنفسي وقدراتي، وثقة الناس بي، معنى ذلك أنّي لن أعمل بروح الفريق وسأستبعد، سأعيد الأمور لنصابها، وفي المساء حين اجتمعن على العشاء قالت رادا:
ماذا لو أنقذ التّصويت آية؟
أجابت عروبة مازحة:
نختاركِ أنتِ، سبق وقلت لك هذا.
دب الرعب مجددا في أوصالها، من الممكن أنّ تلميحات عروبة حقيقية وتقصد ما تقول، ارتعشت من وقع الكلام وتغيّر لونها.
ردّت حنين بعد أن لاحظت قلقها:
أنت طيبة جدا يا رادا، بالنسبة لي لن أصوت ضدكِ، فقد جلبت لقلبي الحنين للوطن باطلالتك الأولى، بثوبكِ المطرز، وقصيدتك التي ألقيْتها، أنتِ حقا فراشة الحقول التي ذكرتنا بالأرض المجبولة بثراها براءتكِ، أحببتكِ ولن أصوّت يوما ما ضدّكِ.
رادا: منذ وفاة أختي لم أشعر أنّي أملك صديقة، الآن محبتكِ دعمتني.
حنين: وأنا؟
رادا:يبقى يجمعنا وطن يوحّد قلوبنا، ويجمع أرواحنا عرق محبة يسري بجسد شتاتنا.
عروبة: معنى ذلك الفوز والخسارة سيّان في كل الأحوال الفائزة فلسطينية ومن بيننا.
حنين: هناك نجاح للوطن، واحدة من بيننا سترفع اسم فلسطين، لو خضنا معركتنا بشكل صحيح، وهناك نجاح آخر شخصي تسعى له كلّ منا لتحقق ذاتها.
رادا: ما زلت في متاهة، والضغط يزداد مع كلّ يوم نقترب للحفلة وتحديد المغادرة بيننا.
حنين: لا تصعّبي الأمور.
رادا: أنا تحمّلت الكثير، انظرا إلى نفسيكما أنتما الاثنتان- وكل متسابقة سواي- أنتنّ متحرّرات لم تلبسا ثوب الرّجل؛ ليقبلكما المجتمع، ولتتجنبا نقدهم للأنثى بذاتك.
حنين: خلقتِ أنثى فلماذا تعاكسي طبيعتكِ؟
رادا: لأنّ الأنثى مكروهة.
عروبة: أتشبّهتِ بالرجال؟
رادا: لا كنتُ كما يفكرون لإرضائهم، هناك أمور تجد الأنثى متعتها بها، وهي ليست حرام، لكن الرّجل يعتبرها أمورا تافهة، تنتقص نظرته للمرأة بسببها، مثلا رغبتها في إقامة حفلات ومشاركتها لصديقاتها بالرّقص، واللبس المكشوف الذي يظهر جمالها أمام صديقاتها فقط، والذّهاب للتّسوّق، والتّزيّن داخل البيت، والضّحك بصوت عال، وإبداء الرّأي، وإظهار المشاعر الرّقيقة، روضّت كلّ مشاعري ورغباتي تلك؛ لكي لا يستهجنوا تفكيري، ومع الأيّام وجدت نفسي أشبههم.
حنين: لكنّ ربنا سبحانه خلقكِ مختلفة، تنشأ الأنثى تحبّ الحلية وتتزين وتستهويها تلك الأمور، هي سعادتها البسيطة التي تميزها.
رادا: هذا هو التّميّز الذي يبغضونه، يجب أن أمشي كما يفكّرون.
حنين: عليكِ أن تستمتعي بهذه المسابقة وبكلّ تفاصيلها.
رادا: أشعر بمخاض تلك الأنثى التي تولد وتطلّ على الكون من جديد.
عروبة ضاحكة: إذن هذا الضغط هو آلام المخاض.
ردّ رادا بجلافة: من يملك الحرية لا يشعر بالاستعباد.
حنين: عروبة لا تقصد، لديها روح فكاهة وتريد أن تخفف من الضّغط الذي تضعين نفسك فيه.
عروبة: نعم أمزح معكما فقط، الأمر سيّان اخترتِ التّحالف أم لا، بالنسبة لنا التّحالف قائم بكِ أو بدونكِ.
حنين: كلّ واحدة منّا لها قصّتها، لهذا اجتمعنا، لقد عانيتِ من عقدة الذّكورية ووفاة أختكِ، أمّا أنا فأرى أنّني أستحق الفوز؛ لأعوّض أهلي بنجاح ضئيل أهديه لقلب أمّي المكلوم، وأرفع علم فلسطين كما أراد أخي سليم - رحمه الله- ولو كان في مجال لا يشكل رافعة للوطن كما كان يجتهد ليرفعه أخي سليم.
رادا: رحمه الله، كيف توفّي أخاكِ؟
حنين: درس سليم الكيمياء ثم تخصّص في علم الكيمياء الدّوائيّة، وتوصّل
لتعديل مركبات دواء عانى المرضى من مضاعفاته الجانبيّة، نجح في الحدّ من أثاره الجانبيّة، وعندما عمّ الخبر في وسائل الإعلام حورب أخي حربا شرسة، من إدارة المعمل، ومن المعامل المنافسة، لم تشفع له الأرباح التي جناها المعمل والشّهرة التي اكتسبها، فقد تجاوز الإدارة وسلط الأضواء عليه وحده، مدير المعمل كان حريصا على مكانته ومنصبه والصورة التي تدار بها الأمور، لم يكن يخافه بقدر خوفه من الشّركات المنافسة التي تربطه بها مصالح شخصيّة، وكذلك وكالات الأدوية الأجنبية التي تضررت لمنافسة منتج محلي رخيص الثمن منافس لمنتجها، الأمر الذي حدّ من تجاربه في المعمل وضيق عليه الخناق، وفجأة وجد نفسه متّهما بقضيّة أخلاقيّة ملفقة محبوكة جيّدا، تناقلتها وسائل الإعلام، فقلت مصداقيّته وتشتّت الناس بين مصدّق لإنجازاته وبين مقلّل لمكانته بسبب سوء أخلاقه، وغطّى خبر فضيحته الأخلاقيّة على خبر اكتشافه للعقار الجديد.
حورب من المجتمع ومن العمل، ولم يأبه أحد يإثبات براءته، لم يسلط عليها الضوء إعلاميا كما كانت ضجة فضيحته.
إلى أن قدّمت له شركة أدوية عريقة خارج الوطن عرضا للعمل براتب كبير ومركز مرموق، لم يكن يغريه المال أو المركز بقدر حاجته لتكملة أبحاثة التي تخدم المرضى وتخفّف معاناتهم.
وجد في عمله الجديد كلّ أسباب الرّفاهية والتّقدير التي تجعله يبدع في عمله، ويجند طاقاته لأبحاثه، مرّ العام تلو العام وهو يتقدم ويطوّر عمله، تزوّج ورزق ب " صفد" - مدللتنا الجميلة-، ذهبت أمّي لزيارته ورؤية حفيدتها الأولى، وفي طريق العودة تعرّضت لحادث سيرمدبّر ونجحت من الموت بأعجوبة، مكثت في المستشفى شهرين في غيبوبة تامّة، كنّا نطمئنه على صحّتها ونحن نعلم مدى شوقه لرؤيتها، لكنّ ارتباطاته وتجنيد نفسه للأبحاث يستحقّ منّا جميعا التّضحية، كم آلمه أنّه يجد دواء للمرضى ولا يستطيع علاج والدته بدواء شافٍ، ممّا أثار الدّافعيّة لديه للعمل، فكثّف أبحاثه ليفيد حالات مختلفة، وأعدّ مشروعا كبيرا لأجله جمع الخبراء، وعمل معهم على إخراج أبحاث يبنون عليها اكتشافات ينقص بعضها التّطبيق العمليّ، طوّر عددا كبيرا من الأدوية، صنع أدوية خلت من المضاعفات، ونجحت بشفاء العديد من المرضى، جمع أبحاثه في ملف سرّيّ، ما قام بإنجازه وما هو في طور الانجاز، علم تراكمي يأتي غيره ليبني عليه نجاحا أعدّ بؤرته، نجاحا مدعاة لفخر الوطن لو تمّ في داخله، الوطن ليس أفرادا تهدم الإنسان كلما استطاعت، الوطن جزء من الرّوح، فكرة الوطن عميقة كمركبات الأدوية، دماء الشّهداء والشّرفاء، بعض من السّموم، تتفاعل لتشكلّ وطنا.
شفيت أمّي وخرجت من المستشفى، وعادت تداعب ابنته عبر مكالمات الفيديو، في ذلك الحين قدّم له صاحب شركة أدوية عقد احتكار لمدة خمس سنوات براتب يفوق توقعاته، وعندما رفض ضاعف المبلغ، واجتهد في اقناعه، سأل عن الشّركة فعلم أنّها تدار لصالح يهوديّ متطرّف يخصّص أرباح شركته لدعم الاستيطان في فلسطين، رفض وبشدّة أخي سليم، الرفض يعني أنّه سيواجه حربا شرسة، علم في قرارة نفسه بذلك، فأرسل زوجته " ديانا" وابنته "صفد" إلينا لنرعاهما، وليكونا بعيدتين عن تلك الحرب، كان يجد المضايقات اليوميّة في العمل، والعقبات التي لم تكن موجودة سابقا، تحمّل ومضى لتحقيق مشروعة وتكملة أبحاثه، وذات يوم كان موعد الفحوصات الطّبّيّة الدّوريّة التي تجريها الشّركة لسلامة موظّفيها، ذهب وزملاؤه إلى المستشفى، وهناك أخبره الطّبيب ذاته الذي يرعى فحوصاته الرّوتينية بشكل دوريّ، أنّه بحاجة لوحدة دم لضعف دمه بسبب الارهاق، وعدم اهتمامه بنوعية الأكل الذي يتناوله، كان يثق بذلك الطبيب ويعرفه ويحّدثه عن الأدوية التي يصنعها دائما، أتت ممرضة ووضعت إبرة في يده، علقت كيس الدّم، غادرت الممرّضة مع الطبيب بعد أن نصحاه؛ ليسترخي إلى أن ينتهي علاجه، ويغادر في الحال، كان الدّم الذي قدّم له ملوثا.
رادا: فيه جرثومة؟
حنين: فيروس "السيدا".
عروبة وعلامات الحزن والاندهاش بادية على وجهها:
الإيدز، إمّا معهم أو الموت؟
رادا: مؤلم كيف تنتهي رحلة العقول المفكرة بوطننا.
حنين: لأنه ليس لنا وطن.
رادا: ألم يقاوم المرض؟
حنين: نعم مؤكّد أنّه لم يستسلم حتى وإن وصلوا إليه، كانت أصعب مرحلة في حياته حين اكتشف أنّه يحمل فيروس السيدا، ولا أحد بجانبه حتى زوجته أبعدها خوفا عليها، ولا يستطع أن يبوح بمرضه لأحد، ومن سيصدقه خاصة أنهم أجادوا حبك خيوطها؟ حوكم سابقا بقضية أخلاقية، اليوم يحمل فيروس السيدا، أرادوا أن يهدموه من الداّخل؛ لكي لا يكمل طريقه، كان في صراع مع الزّمن لينهي أبحاثه ويقدّم أدوية أكثر نجاعة وأقل أعراضا جانبيّة، كان الله معه ووفقه لذلك، واطمأن وهو يجد الدواء بأيدي المرضى، يشفيهم ويعيدهم أقوياء بتمام الصّحّة والعافية بلا آثار، وباسم شركة غير صهيونيّة، اشترط أن يخصّص جزءا من ريع تلك الأدوية لدعم المستشفيات في فلسطين .
بقيت بعض الأبحاث لبعض الأمراض الفتّاكة بملفه السّرّيّ، أرسلها لصديق أمريكيّ يثق به، واستعدّ للموت خاصّة وقد كان جسمه يستجيب للفيروس وبدأ يفقد قوته ويرفض الدواء، آثر أن يعيش كلّ ذلك بصمت، خوفا علينا، وحفاظا على سمعتنا، فقط أخبر زوجته، رحل وعاد للوطن ملفوفا بكفن.
عروبة: قتل بدم بارد.
حنين: بعد عدّة أشهر، كتب صديقه الأمريكيّ عن قصّته ونشرها، وأظهر براءته من المرض، لكن بقي إتّهام بلا دليل، فقد قُتلت الممرّضة التي وضعت الدّم الملوّث، آثر ستر الأمر، لكننا آثرنا إثبات براءته.
رادا: رحمه الله، لا يتركون ثغرة.
حنين: هذه هي قصّتي، أخي رهن حياته للوطن، ورحل لأجله، حُرمنا منه ، ولم يشعر به الوطن .
رادا: شهداء الوطن يمضون بصمت، هم بصمة في جبين الوطن، لكنه يُطأطئ رأسه للوصوليّين والمنتفعين عملاء العدوّ.
عروبة: لقد مرّ عليكِ الكثير.
رادا: سأفديكِ باسمي، عندما نصل سويا لمرحلة الفداء، من أجل حلم والد تلك الصّغيرة ولترفعي العلم كما أراد، أعدكِ بذلك.
عروبة: أنت انفعالية جدّا يا رادا، لماذا تفدينني أعرفتِ شيئا عنّي وعن آية ومها ؟ حنين أنا لا أعدكِ بشيء، لم تعدني الحياة يوما بشيء، لأعدكِ.
حنين: لا تبقي أحزانكِ داخلكِ ماذا فقدتِ بالحياة؟ ومنّ أنتِ يا عروبة؟
عروبة: تتفقان أمامي للتّحالف ضدّي، أنا لست بحاجة شفقة أحد ليفديني، أو يتحالف معي ولم أفقد أحدا، ولا قصة لديّ.
غادرت مسرعة وهي تقول:
تأخّر الوقت، سأذهب للنوم.
لحقتها رادا قائلة:
لم أقصد عروبة لم أقصد ... لم تسمعها عروبة أغلقت باب غرفتها .
حنين : ستهدأ وسنكلّمها فيما بعد .
رادا: أحيانا الألم الذي نعيشه أصعب من أن يحكى.
حنين: وهناك نفوس تصادفنا مختلفة، الله أعلم ماذا تخفي عروبة.
في صباح اليوم التالي اجتمعت المتسابقات الخمسة، كانت عروبة بحالة جيدة توحي بالإطمئنان، وحين اقتربت منها رادا تكلمها قالت لها إنسي الأمر، ومرت الأيام كالمعتاد، الى أن حانت مرحلة " روح الفريق" .
مرحلة "2 " روح الفريق
أمسكت شادن يد رادا متّجهة لمنصة المتسابقات، وقد ارتدت رادا فستانا مستقيما أخضر باردا، منقوشا عليه أزهار الياسمين البيضاء بخيوط بارزة، غطّت شعرها بشال أخضر، جانب آخر ظهر بإطلالتها تلك، نقاء الرّوح المنعكس من روحها البريئة، إنّها تحمل باكورة الرّبيع، شذاه يصل قبل أن تراه.
أمّا شادن فلا منافس لها، تظهر فتسرق لبّ المشاهدين، جميلة مهما ارتدت، تشعرك بمهابة الرّوح والرّقيّ، ترتدي فستانا طويلا أبيض اللون ـ إنّها عروس تشعّ أنوثة.
في كلّ مرة يرى عبد الرحمن شادن، يضع يده على قلبه، وكأنّه يمسكه؛ كي لا يفرّ من أضلاعه، هي جميلة كما يراها الآخرون، وهي أجمل من الدّاخل كما يعرفها.
بدأت المسابقة، ألقت المتسابقات ما لديهنّ من أشعار، كانت كلما انتهت متسابقة يضجّ المسرح بالتّصفيق، وما أن تأتي أخرى وتنهي قصيدتها إلا وقد علا التّصفيق الذي يُظهر إعجاب الحضور، كلّ فتاة تتسابق لإظهار أجمل ما لديها من أشعار، محوره حبّ الوطن والغربة واللجوء، اللجنة راضية عن المسابقة ومطمئنّة لسيرها بالشّكل المطلوب، فكلّ شيء منظّم ومدروس، والقصائد خاضعة لرقابة تختار المناسب منها.
عندما حلّ وقت التّصويت، بدأوا بالفريق الآخر، اتجهت سما، جيهان، ريم، غيداء وخلود الى وسط المسرح، وسط قلق وتوتّر بالغين، نجت ريم بتصويت الجمهور، وقد علقت عينا رادا بمن تبقّى من متسابقات؛ لترى كيف سيخترن من لا يعمل بروح الفريق من بينهنّ، قسمن أنفسهن لفريقين سما وجيهان في فريق، غيداء وخلود في الفريق الآخر، اخترن من كلّ فريق واحدة، اخترن سما من الفريق الأوّل وغيداء من الفريق الثاني، وطلبن أن يصوّت الجميع لأفضلهنّ لتعود للفريق، حصلت غيداء على صوتين، وحصلت سما على صوت واحد، فكانت النتيجة خروج سما، كانت خطّتهنّ جميلة ولا تظهر تحالفات ونالت استحسان اللجنة والحضور، ثمّ خرجت خلود فقد حازت على أقلّ نسبة بتصويت الجمهور، وبقيت ثلاثة متسابقات ريم، غيداء وجيهان.
همست رادا لعروبة: لماذا لا نختار مثلهن؟
ردّت عروبة: وما أدراكِ أن ما شاهدتيه تمثيليّة لإثارة الإعجاب بأسلوب الفريق، يكفي طيبة يا رادا! ليتّسع أفق تفكيرك.
آتى دور رادا، حنين، عروبة، مها وأية، وقفن بالوسط في إنتظار النتائج، أوّلا نتيجة التّصويت التي تنقذ إحداهنّ، كانت الأنظار تتّجة لمها لتنجو بتصويت الجمهور، حيث أنّها منذ البداية كانت تحصل على نسبة عالية من التصويت. في داخل رادا بركان يثور، أمامها تحدٍ وصراع داخلي حسمته أخيرا بأن لا ترضخ لتحالف حنين وعروبة ضد آية، بل أن تعتمد على تقديرات الأمور.
من ستنجو بتصويت الجمهور كرّرتها المقدّمة، الآن ستظهر النّتائج على الشّاشة، شدّت رادا على يد حنين حيث كانت المتسابقات يمسكن بأيدي بعضهنّ البعض كنوع من المؤازرة، ثم نظرت للخلف ناحية شاشة النّتائج، لم تصدّق ما رأته عيناها، قبل أن يظهر على وجهها الاستغراب سبقتها المقدمة بالقول:
من نجت بتصويت الجمهور فراشة الوطن" رادا" .
يا لتلك المفاجأة ومن تكون رادا؟ ومن يعرفها ليصوت لها؟ نظرت الى خالها عبد الرحمن بين الحضور، الذي كان يقف مصفّقا يصرخ باسمها، هل حقا فزنا هذه الليلة يا خالي؟ ماذا سيكون رد فعل أمّي وأبي واخوتي، وأبناء بلدتي؟ قد أثير ضجّة في مجالسهم بين موافق ومعارض، لكن سأكون قدوة جميلة لكلّ فتاة في بلدتي، ستفرح لي كلّ مظلومة عندما ترى نموذج انتصار يشدّ من همّتها، ويدفعها للأمام.
أمسكت بيدها شادن ورفعتها عاليا ثم غادرتا سويّا وسط المسرح، وقفت بجانب ريم، منذ لحظات لم تكن توقّعاتها أنّها ستكون بأمان مع ريم، ولن تخضع لتحدي روح الفريق.
الآن القسم الآخر من المسابقة، تحدّي "روح الفريق" ، طلبت المقدّمة منهنّ أن يخترن واحدة من بينهنّ، فهل ستخرج آية بتحالف عروبة وحنين؟ وصوت آية لمن سيكون؟ وهل سيغير شيئا؟ تساؤلات أقلقت تفكير رادا، رغم أنّها في أمان، إلا أنّها تريد لحنين أن تعود للفريق، إنّها أختها وصديقتها التي صالحت بها الحياة، عدا أنّها يجب أن تستمرّ لمرحلة الفداء لتفديها كما وعدتها، ومع ذلك لم تكن تشعر بخطر حول حنين، تناقشن فيما بينهنّ لحظات ثم بدأ التّصويت على من ستغادر، اختارت حنين آية كما أتفقن، بينما اختارت مها حنين، وآتى تصويت عروبة الحاسم، لم تقلق حنين لاختيارها كما هو متوقع فعروبة ستنقذها، كانت المفاجأة التي جعلت المسرح يدور برادا حين اختارت عروبة آية وخرجت حنين.
صعقة في قلب وروح رادا، وصدمة كبيرة لحنين، تخلّت عنها عروبة، وخانت التّحالف، مع خروج حنين انتهت المرحلة الثّانية بالمسابقة وغادر الجميع، ذهبت رادا لحنين مسرعة تودّعها وتعتذر، لا شيء يتغيّر بعد صدور النّتائج، انتهى حلم حنين هنا .
كانت تتمنّى أن تخرج عروبة بأقلّ نسبة تصويت، لكن آية من خرجت، معنى ذلك آية بكل الحالات كانت ستخرج، وكانت تستطيع أن تحمي حنين.
عادت المتسابقات الفائزات من الفريق الثاني رادا، عروبة، وآية إلى غرفهن، توجّهت رادا إلى غرفة عروبة تستفسر عن فعلتها تلك، لم تجبها وأغلقت الباب في وجهها.
وسط تلك المعركة الطاحنة كانت شادن وعبد الرحمن، ينعمان بفرح عظيم، استطاعت شادن أن تظهر رادا بصورة يحبّها الجميع وتسرق أصواتهم، واستطاع عبد الرحمن أن يوصل رادا لسلّم المجد الذي أراد، فنجاحها يعني إثبات وجودها على الساحة الأدبيّة، الآن يُسمع صوتها عاليا وتردد قصائدها، أوقفها على أرض صلبة .
في الصّباح لم تستطع عروبة أن تتجاهل عيون رادا المعاتبة، اتجهت صوبها بوجه متجهّم وقالت بصوت عنيف:
تأثّرتِ بسبب قصّة حنين، تعاطفتِ معها وكنتِ تنتظرين أن تفديها، أتريدين سماع قصّتي؟ أتفديني إن بكيت عليّ؟ هل أستجدي عطفك لأفوز، أنت ساذجة جدّا يا رادا، تلوميني وكأنني قمت بجريمة، لا يهمّني كمّ الجرائم التي انهالت بحقي في الحياة وواجهتها وحدي، لن يبكي عليّ أحد يوما ما، وما هي هذه المسابقة إلا لعبة تتسلى بنا لأغراضهم، لو كنتِ إنسانية حقّا وتخافين على مشاعر الآخرين، وتعطفين عليهم ما كنتِ هنا أصلا.
اتّجهت رادا نحوها، أرادت أن تمسك يدها لتهدئتها، لكنّها ردّت بانفعال أكبر من ذي قبل وهي تسأل:
أتريدين أن تعرفي من فقدت؟ أنا فقدت نفسي، فتحت عينيّ على هذه الحياة فوجدت نفسي إمّا في بيت زوجة الأب، أو في بيت زوج الأمّ، بين هذا وذاك كلاهما يروني عبئا عليهم، وأب وأمّ يتحاربان فيّ، ويأخذان ثأرهما من بعضهما عن طريقي، لم أشعر يوما أنّني مرغوب بي، وهناك فرق كبير بيني وبين أبنائهم الذين ينعمون ببيت تحت ظل أب وأمّ، حتى شيماء ابنة زوجة أبي من زواجها الأول كانت مستقره بحياتها وتعيش مع والدتها في منزل والدي، أتيح لها استقرار كنت أحق منها فيه، تهت ...ضعت.. سقطت.. ولا أحد يهتم، لم تعطني الحياة حضنا ألجأ إليه، نبذتني الحياة، فلماذا أهتمّ بمشاعر الآخرين؟ عانيتِ أنتِ من والد وأخوة يهتمّون بملابسك وخروجك، يا لحظك! لم يلتفت لي أحد بدخولي أو خروجي، ومن يهتم؟ فأنتِ لا تعرفين كيف ستكون مشاعرك بلا بيت، بلا غرفة بلا سرير، حتى " شيماء" ابنة زوجة أبي من زوجها السابق التي كانت مع والدتها في بيت والدي كانت تحظى بالاستقرار أكثر مني، لا تعرفين شعورك وهم ينتظرون أن يمرّ اليوم وينتهي دورهم بتحملكِ، وتذهبين وهم يتمنون أن تحلّ بكِ مصيبة، كي لا تعودي، هل تعرفين معنى المناسبات والأعياد التي تمر، ويشعرونكِ أن قدومكِ يفسد عليهم فرحتهم؟ ذنبكِ أنّكِ هنا بلا أمّ وهناك بلا أب، ويتهمونكِ أنكِ جاسوسة عليهم، أو يتصرّفون بغباء ليظهروا ما بداخلهم للآخر أمامكِ، أن تقولي ماتت أختي يختلف عن قولك متُّ أنا ألف مرّة، ليس بالأمر الصّعب حين تطرق قصّتي مسامعهم، هناك آلاف الأبناء مثلي، آباؤهم مطلقون، كيف ضعت ألف مرّة بلا توجيه؟ كنت أرمي رأسي على صدر مستغلّ يربت على كتفي، وما أكثرهم!
أنتِ البريئة الفاتنة تستحقين لقب القلم الذهبيّ، لن تصلي إلى اللقب إلا بعد أن تصبحي مثلي.
تقترب رادا منها وتقول:
أرجوكِ هدّئي من روعك، يكفي.
عروبة: ابتعدي لا أريد شفقة من أحد، سأجد نفسي بنفسي، سأشقّ طريقي لوحدي، أريد الفوز لأحصل على مبلغ من المال أستأجر به غرفة لوحدي، وممكن أن يُعرض عليّ عمل مع أنّني لا أعتمد على حظي، أنا لست أنا بلا بيت وبلا وطن، أحمل هويّة العدوّ وجنسيّته، لماذا لا أبوح بقصّتي؟ هل لأنّ الآخرين يحملون عقليّات تسارع بالأحكام، ولا تنظر للحقيقة فيما بعد، عيون النّاس تنظر من خلال الثّقوب، سيقولون عنكِ ابنة القرية المتمرّدة، عندما تفشلين سيبرهنون لأنفسهم صواب تفكيرهم، ويلومونكِ ويطلقون عليكِ الأحكام، لا أحد سيشعر معكِ، قد تصادفين أحدهم بالشّارع ويقول لكِ:
ألم نقل لكِ ولم تسمعي كلامنا، والنّتيجة ها قد عدتِ بلا شيء، أمّا أنا فأقلّ كلمة تبرّر لعقولهم وضع مقصلة أحكامهم على رقبتي، أنا بنت الدّاخل.
رادا: ما دامت هذه التّصنيفات فإنّنا لا نستحق النّصر، أنا معكِ فالخوف من أحكام النّاس مسّ بأقرب الناس لدينا، وضيّع إنسانيتنا، لكن لا تغلقي الباب كما قلتِ كلانا لنا هم واحد، وأنا لا أشفق عليكِ، أنت صلبة ولا تحتاجين للشّفقة، أنا صديقتكِ اتركي المجال لمن حولكِ.
عروبة: ومن حولي ويحتاج لمثلي؟
رادا: يصهر الذّهب ليتشكّل، لقد تقاربنا منذ أيام ولم أكن أعرف شيئا عنكِ، والآن عرفت فكبرتِ في عينيّ، نحن لا نختار ظروفنا، أنتِ أمامي إنسانة رائعة.
عروبة: لا...أنا أكره نفسي، كلما أغمضت عينيّ أتذكّر أيدي العابثين التي تحسّست جسدي.
رادا: إنّه النّدم الذي يمحوا الذّنب، هل أحببتِ؟
عروبة: هناك من لامس قلبي لا جسدي، أشرقت ابتسامتي بحضوره، مع أنّه أسقط دمعتي.
رادا: أتمنّى أن أعيش هذا الشّعور، لماذا افترقتنا؟
عروبة: أحسنتِ السّؤال، عندما يولدّ الحبّ لا نقول لماذا، هو ومضة تولد بين العيون، روح تحضن روحا، وكلما ابتعدنا جذبنا لنعود، لكن بالفراق تكون الأسباب، الهروب أحد الأسباب.
رادا: صديقتي، هكذا لأرى الجانب الآخر منكِ، أراكِ رقيقة، لمعت عيونكِ وأنت تتكلمين.
عروبة: سيطرق الحبّ باب قلبكِ يوما، لا تستعجلي، فهو يأتي كلمح البصر كالقدر.
رادا: يا لحظّه!، قلبك كالبحر عميق.
عروبة: تعرّفت على ساري في لقاء أدبيّ، دخلت القاعة حين كان يلقي شعرا عاطفيّا، لم يرق شعره للحضور، من الممكن أنّه كتبه بلا تجربة، ولم يكن قد عاش إحساس الكلمات التي قالها بعد، جلس بجانبي يفصلني عنه مقعد فارغ، رأيت الاحباط باديا في عينيه، حينما انتبه أنني أنظر إليه اقترب ليجلس بجواري على المقعد الفارغ، وما زال ينظر لعينيّ، لا أدري كيف سلبني اتّزاني ولم أزح نظري عنه، تعرّفنا وتعمقت علاقتنا عن طريق محادثاتنا ب(الفيس بوك)، إنّنا نحكي هناك ما نعجز عن مواجهته بالواقع، التقينا عدّة مرّات، تواعدنا للخروج سويّا، أذكر في إحدى الأمسيات اعتليت المنصة لألقي أشعاري، كنت لا أرى غيره أمامي، أسرع بعينيه التي تعانق نظري، صوتي رقيق لأنّه يحمل حبّه ولكنه يمتدّ لمدى الفضاء، كان بلسم الزّمان، معه كنت في أصدق حالاتي، كنت أقوى، أزهرت برفقته، وهو أيضا يكتمل كالبدر في السّماء بحبي، في كلّ لقاء كنت أرى أنّني أُخرج أفضل شيء في ذاتي وهو بصحبتي، لا أدري كيف تفهمينني يا رادا، أريد أن أقول لكِ حين يكون بجانبي في لقاء نتناغم ونعزف أجمل إيقاع لكلينا.
رادا: أنا سعيدة لأنكِ عشتِ كلّ هذا، فلماذا افترقتما؟
عروبة: لن نفترق أبدا، سيبقى في قلبي، ليته آتى إلى هنا، لكنت بحضوره أبهى.
رادا: وماذا حصل؟
عروبة: ساري شابّ من أسرة فقيرة، رفضتني عائلته منذ البداية؛ لأنني ابنة لامرأة مطلقة، وقف معي ودافع عنّي أمام عائلته، نرفض أن نتزوّج قبل أن نبني بيتا وتقبلنا أسرته، لا أريد أن يعيش أبنائي كما عشت، سأجتهد لأنشئ اسما لي يفتخر به من يعرفني، أنال ثقة أهله، يمسح ذكريات نشأتي، وأبدأ من جديد.
رادا: هذا ما أريد سماعه.
عروبة: المسابقة رغم كل شيء هي تجربة تعطي لنا فرصة لنكون أفضل، لهذا اشتركت، ليراني كلّ من خذلني قوية أنافس أمثالك.
رادا: بل أنا التي أنافس أمثالك، من كان يعلم أنّ خلف عصبيتك هذا القلب الرقيق؟
استقبلت حنين خروجها من المسابقة بهدوء، رغم أنها تفاجأت بقرار عروبة استبعادها، لكنها تعلمت من تجربة أخيها أن المبدع محارب أينما حل، شيء في داخل من حوله يبرر كسره ويعمل على إحباطه، ويسعى لفشله بلا تفسير، عاشت مع هذه الفكرة ولم تستغرب إبعادها عن المسابقة.
حين وصلت المطار وجدت كمّا هائل من المعجبين باستقبالها، قدّم لها باقة ورد، ممّا واساها، اقتربت من والدها أبي سليم وقالت:
وكأن أمنياتنا تقف في حلق الأيام غصة تلو غصة إلى أن تزفرها الحياة.
رد والدها: هذه الأرض ليست لنا، لن نعيش كرماء إلا على أرض وطننا ونحن أسياده الأحرار، كل مصيبة بعد هجرتنا جلَلُ.
وفي المساء وصلتها دعوة من رئيس بلدية المدينة لتكريمها، أمسكت الدعوة التي أثارت بنفسها مشاعر مختلطة، لا تدري أتفرح لتكريمها، أم تحزن لأن أخاها " سليم" أحق منها بالتكريم؟ كان التكريم كفيلا بالجهر بإنجازاته وبأسباب رحيله بدل هذا الصمت والخوف من كلام يثير ما يخدش ذاكرة مكلومة، هل تدافع عن أسباب تكريمها، وتقبله لتحقق نصر ما يظهر قدرات الفلسطينيّ الذي يرفع اسم وطنه بكل مكان؟ وكذلك تكريمها نجاح يضاف لسيرة العائلة المتميزة بأفرادها.
وكأن زوجة أخيها "ديانا" سمعت الضجيج بداخلها فقالت لها:
هذا الرئيس يلمّع نفسه بتكريم مواهب بأول الطريق، وما يدريكِ كم طريق قطع لمن يستحق أن يكمل طريقه، وكم من العراقيل الّتي زجها ليقتل المواهب في مهدها، تماما كأي قاطع طريق، لص يغنى بسلب غيره، إن لم يحكم سالكي الطريق بالسلب حكمهم بالخوف.
يضعك اليوم بالصورة ليمسح صورة، يريدكِ بروازا ليكمل نسق ديكوره، ولم يكن يختاركِ لوحده، هناك مَنْ دفعه لذلك، عصابة متكاملة بعضهم يلثمون وجوههم لكي لا نعرفهم، المسابقة لم تنتهِ بعد يا حنين، أحدكم من سينهيها، فلتكوني أنتِ.
ـ ليس أمامي إلا القبول أو الرفض، وكما قلتِ الخوف سيدفعني للقبول، سأخاف على عائلتي وليس على نفسي وحدها.
ـ لماذا لا يكون التكريم فخّا يغلق عليهم؟
ـ كيف؟
ـ ما يؤلمني بمقتل سليم أن الأيدي التي تواطأت لإبعاده ووضعت العراقيل بطريقه للهجرة أيادٍ خفية، يظهرون بالعلن ولا أحد يرى أيديهم الملوثة، يغسلونها جيدا فتظهر ناصعة البياض.
قُتل سليم ودفنت الكثير من الأسرار بلحده، كل يوم يتكاثر أشباههم سلسلة قد تمرين بجانبهم ولا تعرفينهم.
ـ لا نعرف ما يضمر عدونا لنا .
ـ عدّونا ليس من طين، عدّونا داخل فكرنا، يتغذى على الخوف بداخلنا، ها أنت تخافين علينا فلا تملكين خيار.
ـ صدقتِ. نخاف فلا نكون ما نريد، نقيّد أنفسنا بسلاسل حبنا.
ـ لن نستسلمَ بذرف الدموع، ينعتونكِ بأنكِ تصيغين كلماتك لأجل الوطن، وينادون بحريّة الفكر والكلمة، يصفقون لأشعار لا تطال مقامهم، ويعدّون المهرجانات والجوائز، يكرمون الكلمة التي تنسجم مع غاياتهم، بشروطهم نقف على المنصات وتعلو الأصوات.
القلم سلاح أبيض يتغنون به ما دام لا يهددهم، ابتدعوا ثقافة خاصة، وخصصوها لمن يجند قلمه على نسق قوانينهم، هي إطار لاستعباد الحرف الذي يخاف إن لم يجاملهم فليمت.
في تلك الأثناء دخل أبو سليم، هذا الرجل الذي ولد في الشتات، وكبر وهو لا يعرف عن الوطن سوى حكايات الأب والأمّ، الى أن سمح له منذ سنوات قليلة أن يدخل الوطن، بعد غياب سبعة عشر عاما عن الوطن دخله بتصريح سياحة لمدة أسبوع، عنوان السياحة "الصلاة في الأقصى"، فكيف تكون سائحا وأنت تشبه بملامحك وجه كل من تراه، تتمنى أن تقبّل يد كل كبير بالسن يلبس قمبازا ويضع على رأسه عقالا وكوفية، لأنّك تشمّين به رائحة والدك، وتتمنى أن تجلس أمام البيت مع كل امرأة تلبس ثوبا وتضع على رأسها خرقة تحته منديل أخضر، تحدثها عن زمان الطابون والحصاد وأغاني البيدر.
أول ما وصل القرية ذهب لعقد بيت والده، وطرق الباب الخشبيّ، وجلس يحاور الذكريات، استوقفته نبته ضربت جذرها بين حجارة البيت.
الحياة تأبى أن تموت في البيت القديم، كل حجر يذكر الأيدي الّتي حملته، وصفته لبنة لبنة بعرق امتزج بالمحبة وعلت فيه أصوات الأهازيج، عتبة البيت القديم تنخفض لترتفع مع صبة أرض البيت، إنها طقوس خاصه تجبر الزائر على النزول لتحية البيت ثم الصعود لمشاركة أهله السمر.
الآن البيت صامت بلا حياة.
قال أبو سليم: إنهم يضعوننا في مواقف تبدو طبيعية، لكنها أبدا ليست كذلك.
تكريمك وسياحتي أسماء خاطئة لمعانٍ تبدو جيدة، لكنها قناع يخفي بشاعتهم، ويسخرّنا فرحين لخدمة مصالحهم.
حنين: وما العمل؟
أبو سليم: لا يوجد خيار.
ديانا: سنلعب على أفقهم الضيق لا تقلق يا عمي، ثم استدركت موجهة كلامها لحنين: أبلغيهم بنيتك الذهاب برفقة عائلتك للتكريم.
حنين: إني أثق بكِ حسنا سأخبرهم.
أبو سليم: زوجة سليم لا يمكن أن تخيّب الظّن أبدا.
ديانا: حفظك الله لنا عمي أبا سليم.
وحين آتى موعد حفل التكريم دخلت حنين غرفة ديانا وهي ترتجف من شدّة التّوتر والخوف، اقتربت منها وسألتها:
ماذا ارتدي، هل أرتدي الزيّ الفلسطينيّ؟
أجابتها ديانا: لا...ارتدي ملابس غير ملفتة، نريدهم أن يلتفتوا لكلامك فقط.
من سترتدي الزّيّ الفلسطينيّ (ابنة سليم)، هي مفاجأة الحفل، مع أنه يومكِ لكنه فرصتها للثأر لوالدها.
حنين: إذن سأذهب لأمّي لعلها تريد مساعدة، أتمنى أن يرتاح قلبها المتعب اللّيلة.
بعد فترة من الوقت نادى أبو سليم:
هيا بنا يا فتيات، حان الوقت.
وما أن دخلوا قاعة الحفل إلا وانهالت على حنين باقات الورد من المعجبين، وكان عدد كبير من وسائل الإعلام يتسابق لإجراء مقابلة معها، لكنها أجابتهم بشيء واحد فقط:
انتظروني بالحفل لديّ مفاجأة لكم.
وكلما نال التّوتر قسطا من روح حنين، أمسكت ديانا يدها.
بدأ الحفل بالنشيد الوطنيّ ومن ثم الكلمات، القاسم المشرك الذي أجمعوا عليه، سرد حبهم للوطن البعيد فلسطين، وعملهم الدؤوب للعودة، ومدّه بالدّعم، وحين آتى موعد التكريم اعتلى الرئيس المنصّة ونادى مقدّم الحفل اسم حنين، توجهت لاستلام درع التكريم وشكر القائمين على هذا الحفل، وعندما وصلت أمسكت (الميكروفون) وقالت:
اسمحوا بأن يستلم درع التكريم صفد ابنة شهيد الوطن أخي الدكتور سليم، تقدمت صفد للمنصة واقتربت من الرئيس وأخذت الدرع وسط ذهول الحضو،ر ثم اقتربت من حنين ووقفت لجوارها، قرّبت حنين (الميكروفون) من صفد لتهتف:
عاش شهداء الوطن، عاش أبي.
أثارت ملابسها الفلسطينيّة اللائقه بها، وشعرها الأشقر الذي ينسدل على ظهرها وخطواتها الواثقة إعجاب المصورين، اقترب أحد الصحفيين وسألها من قتل والدكِ؟
أجابت: أنتم.
ضجّت القاعة بالتساؤل عن تلك الطفلة الجريئة، غمرت التكهنات أفكار الحضور وعلت أصواتهم.
قطع هذا الضجيج صوت مقدم الحفل حيث قال:
الآن نحب أن نسمع المحتفى بها حنين بالقصيدة الّتي ألقتها وأهّلتها للفوز بالدور الأول.
أمسكت حنين (الميكروفون) وما زالت صفد تقف بجانبها حاملة الدرع، كل ذلك كانت يعرض بالبث المباشر، قالت حنين أمّا قصيدتي فيستطيع من يرغب في سماعها أن يفتح (اليوتيوب) على حلقات الحفل، لكن أنا أردت أن أكون اليوم تحت الأضواء؛ لأقول حقيقة سترها الظلام، إن أخي سليم مفكر وعالم كيميائي ضحى بروحه وهو يحاول إحياء الآخرين، قتلوه وكتموا صوته، والد هذا الملاك - مشيرة إلى صفد- حقن بمصل الأيدز، قُتل بأبشع الطرق، فقط لأنه فلسطينيّ، أترون تلك المرأة التي تجلس على كرسي متحرك، كان حريّ بسادات الوطن أن يكرموها لأنها أنجبت ابنا خدم الوطن، لكن صدمة مقتله أقعدتها، منّ يقلق بمسح دموعها حين تأوي للفراش حزينة كل ليّلة، لماذا خسرت ابنها؟
لم يجد سليم بلدا يقدّر إنجازاته، ويحقق طموحه، ويدعمه بل وجد بلدا يحاربه، هاجر لا لمن يدفع أكثر، بل لمن يشتري الإنسانية التي يعمل لأجلها.
كانوا يريدون له أن يعود للبلد مقتولا على خلفية جنائيّة أخلاقيّة، وبفضيحة مرض الأيدز، لكنه آثر أن يدفن بالخارج، لماذا يدفن بعيدا؟
لأنه خاف على هذه الأمّ وهذا الأب من رؤيته وقد أكل المرض جسده، أراد أن يحافظ على صورته المرسومه بعيوننا، ليبقى بذاكرتنا جميلا وهو كذلك دوما، أسياد البلد البشعين لن يسلبوه جماله.
نظرت لوالدتها فرأت الدموع بعينيها، قالت:
عليكم أن تسألوا من بدّل دموع الفرح بدموع الحسرة؟
الأم هذه باعت أساورها الّتي بمعصمها لتدفع القسط الجامعي يوما ما، أكانت يجب أن تتمنى لو لم يكمل تعليمه ليبقى لها، ماذا تريدون؟ أجيال تعمل لديكم، أجيال تستعبدونها أو تضيقون عليها؛ لتهرب لخارج البلد لتتنفس، إني أضع هذه الأسئلة أمام ضمائركم، لكي أنصف أهلي أولا، ولكي لا تتكرر مأساة أخي مرة أخرى.
أقول الحقيقة ولن أخاف، صفد ستعيش يتيمة، الوطن يستحق الشهداء، تأكدوا لن تجدوا صفد يوما باكية، أعداؤنا ينتظرون أن يروا تلك الدموع لينتصروا، لكنهم لن ينتصروا وشكرا.
سحبت صفد (الميكروفون) من يدّ عمّتها وقالت:
ولتعلموا أنكم خسرتم بابا كما خسرناه فهو كان يعمل لأجلكم.
اتجه عريف الحفل نحو صفد ورفعها على كتفه مرددا:
حيوا معي ابنة البطل.
كان التّأثر باديا على الحضور جميعهم، وكأنهم صدموا من هول المفاجأة ، أما الرئيس فقد غادر أثناء حديث حنين، بعد أن باءت محاولات إسكات حنين كلها بالفشل؛ بسبب وجود البثّ المباشر الّذي لم يستطيعوا ايقافه.
اتجهت حنين نحو والدتها، وقفت بجوار الوالدة والوالد وديانا، وكانت (كاميرات) البثّ تقترب من وجوههم وتُظهر ملامح التحدي بعيون حنين، والاعتزاز بعيون ديانا، الّتي نجحت بخطتها هذه، وتظهر عيون تعبه متسائلة:
أما آن لهذا القلب أن يرتاح؟ إنها عيون أمّ سليم، ولا شيء يبدو في عيون أمّ سليم سوى الطيبة التي هي سمة الأمّهات بكل أوان ومكان، حمل كبير زال هذه اللّيلة قال أبو سليم.
قالت أم سليم: كم كان قلقا عليّ يوم أصبت بالحادث، ليتني مُت حينها قبل أن أكتوي بفقده.
ديانا: ومنْ لي ولابنة سليم؟
في صباح اليوم التالي كان هناك ضجة كبيرة ب(السوشيال ميديا) أغلب العناوين كانت: أسباب إصابة عالم الكيمياء الفلسطينيّ "سليم طه" بمرض الأيدز، بعض الصحف الصفراء عنونت الخبر" فتاه تقتحم حفل تكريم وتتحدث عن فضائح عالم الكيمياء " سليم طه" الّذي لقي مصرعه العام الماضي خارج الوطن.
في مساء أحد الأيام ارتفع صوت السماعات في ممرات المبنى، يعلن السماح باستعمال وسائل التّواصل الاجتماعي وفتح المكالمات الهاتفية للمتسابقات، فقد أنهت اللّجنة الخطوط العريضة لظهور المتسابقات بالاحتفال، واختارت اللباس والقصائد والهيئة الّتي سيتمّ بها العرض، عمّ الابتهاج المكان، وانطلقت المتسابقات لتحادث كل واحدة منهنّ أسرتها، ولترى انطباع الجمهور حول ظهورها، فتحت رادا هاتفها المحمول؛ لتجد أكثر من مكالمه فائتة من أخيها محمد مما أثار دهشتها، إنه آخر من توقعت أن يكلمها.
دبّ الخوف في قلبها، وكأنّه لا ينتظر عودتها ليؤنبها، قد يطلب منها الانسحاب، ما العمل؟
ذهبت إلى عروبة لتهدّئ من روعها، لكنها وجدت عروبة منهمكة بمتابعة انطباع الجمهور، وإعجاب الوسط الثقافي ودعم المعجبين لها، أثناء ذلك سمعت جرس هاتفها المحمول يرن من جديد، فتحت الخط وهي مضطربة خائفة، وبصوت متردد قالت: مرحبا.
آتاها الرد من الجهة الأخرى :أختي كانت نبرة صوته فيها حنان طمأن قلبها وأنساها توترها.
ـ نعم.
ـ اشتقت لكِ، افتقدتكِ، البيت ليس جميلا بدونكِ.
ـ وأنا أيضا، وأكملت مبررة أفعالها: إني أقع تحت ضغوطات قوية وأتعجل إنهاء الحفل لأعود.
ـ عودي باللّقب فقط، لا عليكِ أختي أنا متضايق وأريد أن أخبركِ أمرا.
عاد الخوف ليتمكن منها، قالت: ماذا؟
ـ لقد حاكوا مؤامراتهم ضدي أختي، تقرر نقلي من مكان عملي لمحافظة الخليل، أحتاج للسفر ثلاث ساعات يوميا ذهابا ومثلها إيابا، بعد كل الجهد الذي بذلته لتطوير العمل، بل بالعكس غدت إنجازاتي سياطا يجلدونني فيها، بعد أن نسبوها لهم.
ـ كيف ذلك؟
ـ كبروا على حسابي، كلما تقدّمت بفكرة، قللوا من شأنها، ثم سرقوها فظهرت باسم غير اسمي وبتعديل أو تغيير بسيط، ابن أحد المسؤولين حلّ مكاني، وأنا انتقلت، وعندما راجعهتم قالوا:
توّجب نقلك حسب المصلحة العامة التي ترتئيها المؤسسة.
ـ أنت مخلص، ولن يضيع حقك مع الله أخي الغالي.
ـ يعز عليّ أني بنيت المؤسسة على كتفي وتكون هذه مكافأتي.
ـ إننا في زمن مختلف أخي، متطلبات البقاء بالعمل اختلفت.
ـ نعم أدركت ذلك متأخرا، لا يريد مني الرئيس انجازات، بقدرما يريد طاعتي له، يجب أن أبقى صغيرا بالفكر والمبادرة والخلق، وهو الكبير المسيّطر، أن من يعمل يُهدد منصبه ويحرك الكرسي من تحته هكذا يرى العمل بجد، فهمت متأخرا هذا، مع أني لم أتطلع يوما إلا لإنجاز عملي وتطوير المؤسسة، ما ربانا عليه والدي دائما نصب عينيّ:
"من أخذ الأجر حاسبه الله على العمل".
ـ وهل داومت في الخليل؟
ـ لم يقتلوا فيّ روح العمل بعد، لا تقلقي أختي الغالية، لم أتغير ولا أدري أين ستقودني هذه الروح.
ـ ستعاني أخي الغالي، إرضاء نفسك وإرضاء الله يستحق.
ـ وكأن من واجب الباحث عن عمل أن يكتب في سيرته الذاتية أنه يتحمل ضغط العمل، ويطيع الرئيس ولا يهدده.
ـ ولا يفكر ولا يبني ذاته، ولا يفكر بالنجاح.
ـ لهذا كلمتكِ أختي، شعرت بكِ أنتِ تريدين أن تبني ذاتك أعلم، أتقبل رغم أني لا أوافق على كل ما أراه، أصبحت أسمع صوت غيري وأعرف أن لكل مجال متطلبات، وكونكِ بالمنافسة لظهورك متطلبات، أتحمل ردود الفعل وإلى الآن هي إيجابية، لكن كوني قوية، أنتِ صورة منا، وصورة لنا، نحمّلكِ أمانة كبيرة، لا تخطئي، مع أننا قد نخطىء ونقع وعندها سنجدكِ أنتِ لجانبنا، لكننا سنُجلد معكِ إن وقعتِ.
ـ أخي ما تقوله كبير، أبذل ما بوسعي، أنتم تضعونني في مكان أكبر مني.
ـ وفقكِ الرحمن.
ـ كم أحبك يا أخي، لقد أزلت عن كتفي حملا من الهموم، وفقك الله وفتح لك أبواب رزقه وأعانك.
ـ وأنتِ أيضا لم أكن ضدكِ يوما، لكني أخاف عليكِ وعلينا، لا أحد يسلم، في أمان الله وحفظه.
ـ مع السلامة.
ـ انتهت المكالمة ، وانتهى معها عهد من الخوف، ظهر لها وجه أخيها الحقيقيّ، ندمت على ابتعادها عنه وتجنّبها له، منحها كم هائل من الحنان، وعندما شكا لها همومه شعرت بقربه منها لأول مرة تسمع أنّاته وتضمّد جراحه، الآن عرفت قيمة الإخوة، عليها أن تتحمل مسؤوليّة كونها أخته.
نظرت لعروبة وجدتها تمسك بهاتفها المحمول وتتصفح المواقع، وتبدو كأن عيونها عيون بومة تملأها الدهشة، تظهر على وجهها بسمة يعقبها عبوس، ثم ضحكة، انفعالاتها تتباين حسب ما تقرأ، مما أثار فضول رادا، وعلى الفور فتحت هاتفها المحمول وبدأت تتصفحه، أخاها أخبرها بأن الأمور كلها إيجابية، ولكنها لم تكن تتوقع هذا الدعم الهائل لها والانطباع الجميل بكل مكان عنها، لقد أجمعوا على تميّزها واستحقاقها للّقب، قالت بصوت مسموع:
يا الله .
أجابتها عروبة: أنتِ النجمة بيننا، أصبحتِ المثل الأعلى لمعظم الفتيات.
ـ تلك مسؤولية كبيرة.
ـ أرسلتُ لساري ولم يرد.
ـ ادخلي صفحته.
ـ نعم... نعم.
فجأة انهارت عروبة وسقطت على الأرض، هرعت رادا نحوها وهي تصرخ:
ما بكِ ماذا حصل؟
تمتمت عروبة: مستحيل.
ـ ما هو المستحيل؟
ـ من ضمن الرسائل رسالة من جارة تسكن قرب منزل والدي، تقول في الرسالة" خطبت أختك شيماء الشاعر ساري، هي أصلا لا تعرف أن شيماء ليست أختي.
ـ قد تكون كاذبة.
ـ أكيد كاذبة، لا أصدق، أنا أتكئ على ساري لن تسير حياتي بدونه، وهو يحبني لن يمزق قلبي كالآخرين.
ـ إذن لماذا انهرتِ؟
ـ مهما يكون الخبر قاسيا، هل معقول أن يكون حقيقيا، عندها لا فرق بين حياتي ومماتي، يكون ساري مَنْ قتلني، دائما كان يدخل الشك لقلبي، غريب أن الحياة تكرم عليّ بالسعادة وتمنحني ساري.
ـ بالعكس هو من ابتسم له الحظ عندما أحببته.
ـ هل يعقل أن ساري خطب ابنة زوجة أبي شيماء؟
كيف صنعت تلك الإشاعة؟
ـ الآن سأذهب لأكلم أمي وأطمئن على حنين، لا تفكري بالأمر كثيرا.
ـ سلمي عليهم، لا تقلقي.
ذهبت رادا لغرفتها، شعرت بكمية الاشتياق في نبرات صوت والدتها، وبحاجتها لها وكأن الفجوة التي بينهما بدأت تنغلق، رغم قلق أمّها عليها، فهي تخاف أن تخسر، ومن ناحية أخرى، ما زالت لا تقتنع بهذا الطريق وتخافه، وتحسب لعواقبه ألف حساب، أكثر ما يتعب رادا بالأمر، أن والدتها لا رأي لها، إنها تنقل مخاوف قد تكون أوهاما، تُسقط هواجس التصقت بأفكارها التي قد تصيب أو لا تصيب، ومع ذلك نبرة الحنان بصوتها والحرص عليها دعمها، ودعمها أكثر صدى مشاركة حنين وأخبارها، اطمأن قلبها بأن حنين بخير وحققت ما تريد من هذه المسابقة، نجحت بتحقيق غايتها من المشاركة، وعدم اختيار عروبة لها لم يُشكل عائقا في حياتها.
ذهبت على العشاء وكانت على الطاولة المقابلة تجلس آية لوحدها، شعرت بتقصير نحوها هي لم تأبه بها من بداية المسابقة، تراها ولكن لا تتعدى علاقتها بها أكثر من إلقاء التحية، قالت لنفسها مؤكد لها قصة، ولو اقترب منها قد أكسبها صديقة كحنين وعروبة، قطع أفكارها اقتراب عروبة منها كانت مهزوزة الكيان، يبدو الحزن على ملامحها، بالكاد تكاد تستجمع قوتها لتصل للطاولة التي تجلس عليها رادا، سحبت الكرسي ببطء وجلست، وقالت:
تأكدت من الأمر، ساري تركني.
ردت رادا وهي تمسك بيدها:
لا تحزني... انسِ كل عالمكِ بالخارج، أنت تصنعين لنفسكِ هنا حياة جديدة، ستكونين إنسانة أخرى، وستبدئين من جديد.
ـ كنت أتمنى النجاح لأستحق ساري، لكنه صفعني، كانت ضربة قاضية، ولماذا شيماء؟ متى عرفها؟
ـ لا تفكري كثيرا، قفي على رجليكِ، كوني صلبة، مقاتلة من الدرجة الأولى.
ـ كنت أقاتل لأنه ينتظرني، لن أبقى هنا سأنسحب.
ـ أين ستذهبين؟
:لم يبقَ لي غير بيت والدتي، رغم معاملة زوجها القاسية، لكنني مرغمة على الذهاب إليها.
ـ معه حق.
ـ ماذا تقولين؟
ـ ألم تفكري لماذا لا يرغب أحدٌ بكِ، أنت انهزامية، ليس لكِ قرار، بالظاهر قوة والباطن ضعف، الشروخ العميقة بداخلك تُسهل اختراقك، سهلة المنال بلا قرار، لا تتمسكين بما تريدين، ولا تدافعين عنه.
ـ يكفي أرجوكِ، ماذا أفعل؟ هل أقاتل من أجل من تخلى عني، أم أرتكب جريمة قتل؟
ـ نعم عندما تريدين شيئا عليكِ تسخير الكون لجلبه.
ـ وإذا لم يردني؟
ـ أتمسكتِ وأحببتِ كل هذا الحب لإنسان لا تثقين بمشاعره، قلتِ لي إنه أحبكِ رغم ماضيكِ، وحاربَ أهله لأجلكِ، أم كنتِ تكذبين؟
ـ بلى وفي النهاية طعنني.
ـ متأكدة؟ هل أتحتِ له الفرصة ليخبركِ بمبرر أفعاله؟
ـ لا أريد التكلم معه، وقد أضعف أمام صوته.
ـ أنت لا تحسنين سوى التذمر، انسحبي إذن وعودي للتمرغ في تلك الأوحال من جديد.
ـ هل أخبرتكِ قصتي لتجلديني بها؟ أنت صديقتي الوحيدة.
ـ لهذا أوجهكِ للطريق الصحيح، أصفعكِ لتعودي إلى رشدك، هناك روح بداخلكِ محبطة عليكِ النجاح لأجلها، طهري جراح الماضي بإحراز نجاح ما، مهما كانت الروح هشة يجب أن تقف على أقدام صلبة، تعالي أنظري هنا- تفتح هاتفها المحمول وتُريها إحدى صورها المنشورة مكتوب تحتها، عروبة تهزم سيادة الاحتلال وتشترك باسم فلسطين، وتمثل الداخل المحتل-.
ـ هذه ليست أنا، أنا تلك التي تغمض عينيها كل ليلة على صور تؤلمها، لا تستطيع أن تنساها ولا تغفر لنفسها سوء ما فعلت، وكيف رخصت نفسها لمن أجاد استغلالها، لا أدري كيف غفر لي ساري؟
ـ مع من كانت تلك العلاقات؟
ـ كان لي علاقات عابرة، أغلبها الخروج مع أحدهم لمكان عام، لكن ما يؤرقني ويؤلم قلبي ويشتت روحي، علاقة كانت غلطة عمري مع جار لبيت والدي، كان أحيانا يسمع صوت الصراخ في بيتنا، ويعرف مشاكلنا من حديث الجيران، استغل ذلك وطلب مني دخول بيته.
ـ هل دخلتِ؟
ـ في مرة حدثت مشكلة كبيرة بيني وبين زوجة أبي وسمع صوتنا، فراقبني وأنا أخرج ودعاني لبيته، فقط عرّفني على نفسه، رأيته شابا رقيقا طيبا حنونا، ومرة أخرى ذهبت لبيت والدي ولم أجد أحدا في البيت، سمعني أطرق على الباب فخرج ودعاني لبيته، اقترب مني ولم أبد اعتراضا، شعرت أني بحاجه للمسه محبة وحنان، تمادى والتقط لنا بعض الصور، ثم ابتزني بالصور لنعيد اللقاء.
ـ عدتِ والتقيت به؟
ـ كنت أماطل لتأجيل اللّقاء، ولكننا كنا نلتقين كنت أخاف أن يفضحني، لم أتركه ينال مني، إلى أن تعرفت على ساري فكلمته عنه، قابله وأخذ الصور وأسكته، كان رجلي الذي يحميني.
ـ لم يكن لكِ رادع، أين والداكِ؟
ـ والداي لم أتوقع أنهما سيعنّفاني؛ لأنهما يريان نفسيهما المريضتان تتواتر في سلوكي، هناك جرائم ترتكب بذريعة القدر والنصيب ولا أحد يحاسب عليها، الجريمة تقود لجرائم، هم أدخلوا الشيطان إلى حجري.
ـ غريب أن يتقبلك ساري على كل عيوبك وفجأة يتركك.
ـ أما ساري فذبحني بخنجر خيانته، ولم يعد لي شيء بهذه الدنيا.
ـ لكِ نفسُكِ، عليكِ أن تجعلي كل من عرفكِ يندم على ظلمكِ، يندم على خسارتكِ.
ـ سأستمر... لم يبقَ الكثير على حفل الغداء، قد أخرج تلقائيا.
ـ المهم أنكِ بذلتِ كل ما تستطيعين لتكوني.
نظرت رادا نحو المكان الذي كانت تجلس فيه آية فوجدتها قد غادرت، قالت لعروبة:
كنت سأدعو آية لنتعرف عليها، لكنكِ سرقت الوقت بعنادكِ.
ـ غدا بلإذن الله سنتعرف عليها.
غادرتا المكان، ذهبت عروبة لغرفتها وعندما أوت للسرير، اِسْتَبَدَّت بهِا هَواجِسُ اللَّيْلِ ولم تنم ليلتها، وما أن بزغ الفجر حتّى ذهبت لغرفة رادا، طرقت الباب وأيقظتها من النوم، قالت لها:
أخبريه ليبتعد عن فكري، إنه يلاحقني لا يخرج مني، إني معبأة به.
ـ لا تعذبي نفسك، غدا الحفل وكيف ستظهرين للعالم وأنتِ منهارة هكذا؟
ـ قلت لكِ لا أريد المشاركة.
ـ وقلت لكِ أنا لا استسلم ولا أحب المستسلمين، أتعرفين يا عروبة كم تعجبني الفتاة القوية التي تقاوم هشاشتها وتظهر بكل تألقها وقوتها، تخفي أحزانها وقيودها ومصاعبها خلف بسمة تتخطى بها جراحها، لا تظني أنكِ ترين أمامكِ فتيات مُهيئة لهنّ سبل الحياة، دائما هناك ما يشدّ الأنثى للخلف، وحدها بصلابتها لا تتراجع ولا تسقط، وأنت كذلك ستكفكفين دموعك، سيرونكِ غدا كما وأنهم لم يروكِ من قبل، تستطيعين.. أعرف ذلك.
ـ سأحاول.
ـ لا تخذليني.
ـ انصهر الماس وستظهر جوهرتكِ.
ابتسمت عروبة واستأذنت للذهاب.
مرّ اليوم ثقيلا، وفي المساء أتت شادن من أجل الترتيب لحفلة الغد، رأت رادا الفرح بعيون شادن والتودد لها بشكل مبالغ به، أدركت أن السبب خالها فسألتها:
كيف تسير الأمور؟
ـ أموري أم أمورك؟
ـ أموري أعرفها... ماذا عنكِ؟
ـ سعيدة جدا... عبد الرحمن إنسان رائع، طيب وحنون.
قالت رادا ضاحكة: لن نخرج من المسابقة خالي الوفاض.
ـ إننا فقط أصدقاء، وأضافت لتغير الحديث:
المؤشرات كلها توحي إلى تقدمك على منافساتك أنت بأمان الآن، ومع ذلك سنبذل جهدنا لتحافظي على تقدمكِ، ولتكوني بقدر الثقة بكِ، اخترنا سابقا كيف ستظهرين والقصيدة التي ستلقينها، هل بقي شيء؟
ـ وكأنكِ على عجل من أمركِ.
ـ نعم خالك عزمني على العشاء، ليتكِ تستطيعين الانضمام لنا.
ـ لا أدري لماذا يغلقون المكان وكأننا في سجن.
ـ لم يبقَ الكثير، بعد حفلة الغد سيبقى على حفلة إعلان النتائج أسبوع فقط، سأشتاق لكِ، أنت صبية رائعة متفهمة.
ـ وأنت رائعة بكل شيء، أتمنى لك سهرة سعيدة، بلّغي سلامي لخالي الغالي.
ـ تصبحين على خير.
ـ وأنتِ من أهل الخير.
ذهبت شادن للقاء عبد الرحمن، دخلت المطعم وعندما لمحها تدخل اتجه نحوها واستقبلها بحرارة، قال لها:
أسبوع وسأعود إلى فلسطين، ولكنني سأترك قلبي لديكِ، لا أدري كيف سأتحمل فراقكِ، لو سمحت لي سأعود لأسترد قلبي.
ـ واثق أنت؟
ـ انا لستُ صغيرا لأميّز مشاعري، إني أحبكِ يا شادن، ومد يداه لتحتضن يديها.
تركت يديها في كفّي يديه، وكان ينظر إليها بعينين تنبئها بصدقه.
ـ هل تحبني على حالي، وأنا مشوهة الجسد، أما زلت تريد أن أجري عملية تجميل لعنقي؟
ـ أحبكِ من الداخل، أحب روحكِ التي لا تفارقني، ولا أرى بكِ عيبا يوجب التجميل.
ـ أنا أيضا أحببتك منذ رأيتك، كنت أرى بك ما يجذبني ولا أعرف كنهه.
ـ سأعود بعد أن أوصل رادا لأهلها ونعيش هنا سويا.
ـ هل ستترك وطنك وأهلك لأجلي.
ـ وهل أستطيع العيش بلا قلب؟ حين تستقر روحي ويعيش قلبي يكون مستقري ومكاني، لن يُسمح لكِ بالعودة لفلسطين، أما أنا فأستطيع أن آتي إليكِ وأزور أهلي متى أشاء، سأتفق مع ابنتيّ وأترك لهما الخيار؛ لتقررا العيش معنا أو البقاء في الوطن. فقداعتادتا أن تتخذا قراراتهما بنفسيهما، ومؤكد أنّهما ستحبانكِ فهما تملكان نبض قلب أبيهم.
مرحلة "3" الفداء
في مساء اليوم التالي كان الجميع يتجّهز للحفل، وعندما بدأ الحفل دخلت المتسابقات برفقة مدرباتهن، وحين آتى دور رادا، فاجأت الجميع شادن بدخولها وقت كشفت عن رقبتها وارتدت فستانا يُعريّ رقبتها ويظهر التشوّه على الرقبة والصدر، ورغم ذلك ظهرت فاتنة الجمال، لاحظت العيون تراقبها باستغراب، الكل له تفسيره وتحليله للأمر، منهم من قال بأنها تفعل ذلك الآن ليبدي الجمهور تعاطفه مع متدرباتها رادا، البعض الآخر عزا ذلك لتظهر أقل جمالا من رادا التي قد تكون سلبت الأنظار عنها وضغطت عليها، نظرت لرادا وسألتها:
كيف أبدو؟
أجابت رادا مع أن الاستغراب بادٍ على وجهها:
أنت رائعة الجمال.
قالت شادن: عيناك سقطت على باقي جسدي ولم تسقط عيناك وتتركز على ما تشوّه مني، المهم العيون التي ترانا.
ـ لماذا اخترت أن تظهري اليوم بهذا الشكل؟
ـ لأني اليوم أملك من الجمال ما يكفي، الحب يا رادا الحب، ما ينقصني يكتمل به.
ردا مبتسمه: أخيرا.
ـ نعم.
وبينما كانت رادا تجلس بجانب شادن أشارت لها عروبة بإِيمَاءات لم تفهمها، كان على المتسابقات الجلوس مع المتدربات بالأماكن المخصصة، ولا يسمح بخرق نظام الحفل.
قالت مقدمة الحفل: إنها مرحلة الفداء، سنرى اليوم الإيثار بأبهى صوره.
سار الحفل بهدوء إلى أن أتى دور رادا لتقدم أشعارها المتفق عليها سابقا من قِبَل اللجنة، اقتربت شادن من رادا وأعطتها ورقة مكتوبة عليها القصيدة التي ستلقيها وقالت لها:
هناك تعديل منّ قِبَل اللجنة عليكِ الانتباه له.
فتحت رادا الورقة تفاجأت بحذف جزء من القصيدة، فقالت لشادن:
لقد حذفوا جزءأ اعتبره جوهر القصيدة.
ـ ما هو؟
ـ السلام يدوس على الدم المراق. والعيون الدامعات تنتحب وليس أمام زيتون البلاد إلا أن يعلن الغضب.
ـ لا وقت للنقاش عليكِ الالتزام بالتعديل.
ـ سأنحسب.
ـ الانسحاب نقطة ضدك الآن، هؤلاء أتوا لأجلك، وقد حصلت على أعلى نسبة تصويت، هذا لا يتعدى كونه منبر مرحلي، لكنه يفتح أمامكِ منبرا آخر ستقولين فيه ما تريدين.
ـ الأمر أكبر من ذلك.
ـ ليس وقت الكلام ثقي بي.
اقتربت منها مقدمة الحفل بعد أن تأخرت عن الصعود للمنصة.
فكرت سريعا واتخذت قرارا بأن تلتزم بتعديل اللجنة، فهي تثق بشادن، وتريد أن تكمل وتفدي عروبة.
وحين أتى دور التصويت، نادت المقدمة على المتسابقات، وقفت عروبة لجانب رادا واقتربت منها قائلة: إنه هنا، هنااا.
ـ مَنْ؟
ـ ساري، عليّ أن أخرج من المسابقة لألتقي به، آتى من أجلي، مؤكد قطع تلك المسافة وتكلف مبلغا من المال؛ ليقول لي شيئا.
ـ يجب أن أخرج... عليّ الانسحاب، لا يجب أن أجاريهم بخططهم الدنيئة، سأفدي آية وأرجو أن لا أسبب لها الضرر، لا أملك خيار.
ـ أنا من سأفدي آية.
قطع نقاشهما صوت مقدمة الحفل تقول: في البداية من فازت بتصويت الجمهور من الفريق الثاني وبفارق عالٍ على الفائزة من الفريق الأول، لتكون نجمتنا الذهبية" رادا".
يا للمفاجأة... لم تدري رادا كيف تتصرف؟ هل ستفرح للمحبة والثقة بها، أم تحزن فقد أدركت أنهم يستغلوها لتحقيق رؤيتهم التي هي ضد أفكارها وما تربت عليه، كيف ستقابل ثقة الناس بخيانتهم، تذكرت نظرات إيمان والكلمات التي همست لها بها" الكل خاسر".
قالت لنفسها: كيف لم أفهم من قبل؟ ماذا سأقول لأهلي ولحنين؟
هل سأكون سببا في سنّ خنجر قتلنا؟
أكلمت مقدمة البرنامج: أما من فازت من الفريق بالتصويت المرتبة الثانية ويمكن أن تختار الفداء فهي الجميلة " آية".
كانت مفاجأة للجميع، الكل توقع أن تكون عروبة، فرحت عروبة، فهذا سيمكنها ترك المسابقة والاجتماع بساري الليلة، كانت متشوقة لتعرف لماذا آتى، لكن تقدمت آية وقالت: أختار الفداء سأفدي عروبة لتكمل مكاني، ومع أني لم تتح لي الفرصة للتقرب من عروبة- وقد كانت آية تتمتع بقدر كبير من الجمال- أتيت هنا لأوصل رسالة للجميع بأن يسمعني بأذنيه لا بعينيه، أغلب من صوّت لي نظر لشكلي لا لموهبتي، لمن يروني ولا يسمعوني، عيونك التي تحكم وتصفق وتجامل فقط تظلم موهبتي، الجمال يفني، لكن الكلمة تبقى، الكلمة عمرها أطول من الشكل.
أريد الخلود، وهذا يتطلب النقد البناء لا المجاملات، ودعتهم آية وغادرت وسط تصفيق حاد من الجمهور.
هذا الاختيار لم يترك خيارا لعروبة، كانت تنظر لساري من بعيد وهو لا يكف عن التصفيق والتشجيع لها والنداء باسمها.
وبقيت جيهان وغيداء من الفريق الثاني انتهت المسابقة وتوجهوا للمبنى جميعا، لكن عروبة تباطأت لعلها تلتقي مع ساري، وبدوره صعد ساري المنصة واقترب من عروبة قائلا:
اتصلت عليك كثيرا ولم تردي فأتيت، اشتقت لكِ، لا تصدقي أني أتخلى عنكِ يوما،
ـ ألم تخطب شيماء؟
ـ خطبتها لأحميكِ منهم.
ـ كيف ذلك ؟
اتجه الحرس نحوه وأبعدوه عنها، اقتربت من متدربتها ورجتها أن تسمح لها ببعض دقائق مع ساري، وافقت متحملة مسؤولية هذا التجاوز.
ـ كيف يا ساري تحميني بالزواج من غيري؟
ـ زوجة والدك كانت تريد أن تحمي ابنتها من الفضيحة بعد أن أخطأت مع خطيبها الذي تخلى عنها بعد أن سلمته نفسها، قبل عقد قرانهما رسميا، فكادت لكِ وأخذت صورك من هاتف جاركم الذي كان يهددكِ، كان يحتفظ بنسخ أخرى للصور، التي أخذتها منه، وكانت سترسلها الى لجنة المسابقة إن لم أخطب ابنتها، كنت مرغما على الموافقة كي لا تتضرري، ويخرجوكِ من المسابقة لسوء أخلاقكِ.
ـ كيف عرفت علاقتي بك؟ أعرف أنها كانت تراقبني وممكن أنها رأتني أتحدث إلى جارنا السيء، ولكنها لا تعرف شيئا عن علاقتنا.
ـ تعرف كل شيء ترسل بإثرك من يراقبكِ، تخطط بخبث.
ـ ستعرف أنك أتيت إلى هنا.
ـ حققتُ مرادها وعقدتُ قراني على ابنتها لأحميكِ، ماذا بعد؟
ـ هل علم أهلك بالأمر؟
ـ لا لن أخبرهم .
ـ تستر على ابنتها بفضيحتي؟ أنت تعرف أني كنت مرغمة ولم أمكنه مني فقط اقترب بدناءة والتقط صورا لي.
ـ لا تكملي، سنحل الأمر فقط حين تنتهي المسابقة وتفوزين، لنصبر قليلا.
ـ كنت أتمنى أن أخرج الليلة لأبقى معك.
ـ لا أتيتِ هنا لتفوزي... العمر أمامنا معا، عندما نتزوج لن يهدّدك أحد، سأحميكِ من كل البشر.
ـ لماذا رغم ذلك تتمسك بي؟
ـ لأنكِ عشتِ مسلوبة الروح، لم تختاري ظروفكِ، إني رأيتك من الداخل،أنتِ نقية، رغم ما يؤلم ذاكرتكِ.
ـ أحب نفسي في عيونك.
ـ هيا لنكمل الحلم.
افترقا وقد اطمأن قلب عروبة ذهبت مسرعة؛ لتخبر رادا بأمر ساري، فلم تجدها في غرفتها...ابتعدت رادا عن الجميع، ولم تجد مكانا تفر إليه إلا سطح المبنى، صعدت إليه وفتحت باب السطح، وتجولت لترى البيوت من الأعلى، والسماء والنجوم والقمر، لعل تلك الطبيعة ترد لها صفاء روحها، أصبحت تشعر أنها عالقة، ولن تخرج سالمة على كل حال، فوزها من جهة يعزز أفكارهم وسيستخدمونه لخدمة غاياتهم، ومن جهة أخرى هي الملهمة للكثيرات وستكون المثل الأعلى لهن، حمّلنها ثقتهن، بفوزها تخدعهن، عدا عن المسؤولية التي حمّلها إياها أهلها بأن ترفع رأسهم، ولا تخذلهم، وصدى صوت إيمان يتردد في سمعها:" الكل خاسر."
ذهبت إيمان وتركت رادا تصارع الخسارات، فإلى من تلجأ ليساعدها؟
شادن كعادتها في آخر كل حفل ذهبت للقاء خالها، ولا تدري رد فعل أهلها لو أخبرتهم، هل سيسمعونها ؟ وقد حصل ما يخشونه من مواجهتها لما حموها من عواقب حدوثه معها، قالت لنفسها حنين متزنة، وستتفهم وستساعدني لايجاد مخرج، أمسكت هاتفها المحمول واتصلت بحنين وأخبرتها بالأمر، ردت عليها حنين : ينصبون لنا الكمائن، نقع فيها باختيارنا، سنخرج من كمائنهم ببعض الأضرار، لكن بعيون ثاقبة، ونستدرجهم للوقوع بكمائنهم المحاكة ضدنا.
ـ كيف ذلك؟
ـ قدموا لكِ الشهرة ومحبة الناس، واستخدموا ذلك لمآربهم، منصاتهم التي سخروكِ فيها لأهدافهم ستكون مقصلتهم.
ـ لا أفهم؟
ـ الحفل النهائي سنحضره جميعا حسب قوانين المسابقة، أنا وإيمان سنكون معكِ لا تقلقي، سأبحث عن إيمان عن طريق الانترنت ونتفق.
ـ جيد.
ـ أيضاً على كل حال ستنتهي المسابقة وسيذهبون، أما أنتِ فباقية رسالتكِ ورسالتنا التي ندين بها للوطن، ستصل أقوى وأشمل، دماء الشهداء تتعالى على خبث أنفاسهم، ترفضهم ، وهم معفيّون من دَيْنِ الوطن.
ـ جميلة أنتِ حنين.
تنفست رادا الصعداء، حملٌ كبير سقط عن كاهلها، انتبهت إلى الكم الهائل من الرسائل المرسلة من عروبة على (الشات).
توجهت الى غرفة عروبة التي كانت تبحث عنها في كل مكان، حدثتها عما أخبرها به ساري ، سعدت رادا بما سمعت.
عاد ليشغل بالها أمر آخر هو موقف شادن وخالها من استغلال اللجنة لها بتعديل قصيدتها، وقد منحت شادن الثقة لتحل الأمر، انتظرت شادن على أحرّ من الجمر إلى أن عادت للمبنى، استقبلتها بكم هائل من الأسئلة.
نظرت إليها شادن بهدوء قائلة:
سأرد على كل استفسارتك، بالفعل لا بالقول، تشويهي كتجميلكن يعطي سمة ظاهرة ولن يمس جوهرنا، الولاء للوطن وليس لثقافتهم التي ينشروها باستخدامكن.
ـ لسنا الوجه الجميل لمآربهم، ما رأي خالي بالأمر؟
ـ خالك يُصرّ أن يعود بكِ باللقب، يرفض أسلوبهم لكنه يرى إحرازك للقب أمر تستحقينه، وسيفتح لكِ آفاقا للحياة بشكل أفضل، ما واجهتيه الليلة ستواجهينه على الكثير من المنابر، سعة الأفق وبلوغ الهدف يحتاج للتريث وتقبل الآخر بآرائه ورؤاه، متأكدة أنتِ إنكِ تريدين الانسحاب ولن تندمي؟ وأنكِ غير قادرة على تجاوز قوانينهم تلك؟
ـ سأتصل بأخي محمد.
ـ حسنا ستفعلين.
أمسكت الهاتف المحمول واتصلت بأخيها، آتى الصوت من الجهة الأخرى، أهلا أختي الغالية، أسبوع وستعودين لنا باللّقب اشتقنا لك .
ـ أخي وإن لم آتِ باللقب؟
ـ هو لكِ مؤكد لا تقلقي.
ـ أعرف أن عودتي بلا لقب سيحرجكم، وسنجد ألف شامت، وألف متفاخر بنجاح توقعاته بفشلي، لكن الأمر أكبر من رغباتنا، إنها فلسطين يا محمد.
ـ حدثيني ماذا حدث؟
بعد أن أخبرته قالت له القرار لك هل استمر أم أنسحب؟
ـ سنتحمل سويا عواقب عودتكِ خاسرة، لكن هم كيف سيقبلون انسحابك، وأنتِ سبب نجاحهم إلى الآن، هل فكرتِ بأنهم سيخلقون القصص التي ستمسكِ وتمسنا، لهذا كنا نخاف عليكِ، أقصر الطرق لهدمكِ نسج الإشاعات الأخلاقية حولكِ.
ـ هل سيصدق الناس الذين دعموني ذلك؟ ما العمل ؟ أأستمر؟
ـ سيصدقون.. الناس مخدرون أمام شاشات هواتفهم المحمولة، يملي عليهم المرسل ما يتعمق في حواسهم، لكن اتركي كل ذلك، لنحارب الفساد الذي ينخر في كرامة الوطن.
ـ سنجد حلا أخي، ربيت على أيديكم فلا تقلق.
ـ نعم وفقك الرحمن أختي.
أغلقت الهاتف المحمول ثم نظرت الى شادن وقالت: ما خطتك للانسحاب؟
ـ الهرب.
ـ لوحدي؟
ـ ومن تريدين أن يرافقكِ؟
ـ باقي المتسابقات، لأكشف لهن غاياتهم وليقرروا معي.
ـ لعل إحداهن تنظر للأمر على أنه فرصتها للفوز وتكشف الأمر، الآن تأخر الوقت القاكِ غدا.
مضى الليل ولم تستطيع رادا أن تنام، وقد وضعها حنين وشادن أمام خيارين مختلفين، فإمّا أن تنتظر الحفل وتواجه اللجنة والجمهور برفضها الإذعان لسياستهم، أو الهرب، فكرت أن البعض سيراها متمردة، أو أن ردة فعلها مبالغ بها، والبعض الآخر خاصة منْ كوي من نار الفساد والاستعباد سيثمن ما تقوله.
فكرت بأحلام الفتيات التي تمثلهن، كيف ستؤول الى الزوال، نظرت للسماء وقد تلونت بألوان زاهية خلابة فقد حل الشروق، لاحظت سربا من الطيور يحلق بتناغم كامل وتآزر مُتقن، قالت لنفسها:
مؤكد أن الطائر الذي في المقدمة يُحسن القيادة.
فككت قيودي قيدا إثر قيد؛ لأجد الحرية مُعكرّة السمات، سرب جيلي تشتت في سماء لا تعرف الصفاء، كثر صيد الطيور، وكثر نصب الفِخاخ.
برق في فكرها حل لو أنها حاربتهم بسلاحهم، ستعمل في الباطن لتهدم بنيانهم، بحثت عن إيمان في موقع التواصل الاجتماعي " فيس بوك"، وعندما وجدتها كلمتها وأضافت للمحادثة حنين وشادن، وضّحت لهنّ خطتها وشرعن بالتنفيذ سويا.
مرحلة "4" تتويج القلم الذهبي
كانت تسابق الزمن إلى أن آتى يوم الحفلة النهائية، سار كل شيء كما هو مخطط له، إلى أن آتى دور دخول المتسابقات وانضمام المتسابقات التي تم استبعادهن إليهن؛ كي يجتمعن بالحفلة النهائية، كما تنص عليها قوانين المسابقة، دخلن جميعهن مع متدرباتهن، لكنهن لم يتجهن إلى المكان المخصص لهن للجلوس، بل نزلن إلى الجمهور الذي يحضر الحفلة، وانضم اليهنّ أهلهنّ، أمسكت رادا بيد حنين التي وقفت بجانب والدها أبي سليم، وبجواره صفد تمسك بطرف الكرسي الذي تجلس عليه أمّ سليم، وبجوارهم ديانا تقود كرسي أمّ سليم، وساري والخال عبد الرحمن ومن آتى ليدعمهنّ، وشكّلوا جدارا بشريا، حجب اللجنة عن الرؤية، أمسكت رادا (الميكرفون) وقد تسلطت عليها (الكاميرات) وما زال البث المباشر ينقل ويتابعه آلاف المشاهدين، وقالت:
فكرت بالانسحاب، لكن إن انسحبت فمن سيحاسب هؤلاء؟ من سيكشف زيفهم؟ منْ سيوقفهم قبل أن يحشوا كلماتهم في حناجرنا؟ انظروا إلى تلك الأمّ التي تجلس على الكرسي- مشيرة إلى أم سليم- حين تأوون إلى فراشكم ليلا هي لا تنام، تدعو الله في جوف الليل، كل ابن في الوطن هو ابنها، وكل شهيد تحت الثرى هو ابنها، يشمله دعاؤها، دعاؤها سيبقى إلى القيامة، تلك الطفلة - مشيرة إلى صفد- ما ذنبها كي تحيا بلا أب، لسنا كباقي البشر إننا فلسطينيون خلقنا وفي أعناقنا دين، سنوفي وطننا دينه الذي لا يشبه دينا آخر.
تم بحمد الله