"11/9 فهرنهايت" يكشف عورات عصر الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
افراسيانت - في فيلمه التسجيلي الطويل الجديد “11/9 فهرنهايت” يعود المخرج الشهير مايكل مور، إلى قلب الحدث السياسي المعاصر الذي يشغل الأميركيين، بل والعالم كله، والذي يدور حول الرئيس دونالد ترامب وسياساته المثيرة للجدل.
حقق مايكل مور ما لم يحققه مخرج آخر للأفلام التسجيلية، ففيلمه الشهير “11/9 فهرنهايت” الذي ظهر في ذروة الجدل الأميركي حول سياسات الرئيس جورج بوش الابن وجماعته من “المحافظين الجدد”، وحروبه العبثية في العراق وأفغانستان، حقق نجاحا أسطوريا لم يسبق أن حققه فيلم تسجيلي من قبل، كما شغل الرأي العام وأثار الكثير من المناقشات في الأوساط الشعبية والسياسية.
يعود مايكل مور اليوم بفيلمه الجديد الذي جعل عنوانه “Fahrenheit 9/11” إشارة إلى تاريخ إعلان الرئيس ترامب رئيسا للولايات المتحدة، هذا الحدث يتوقف أمامه مور في الجزء الأول من الفيلم لمحاولة فهم كيف كان، وهو يستخدم التعليق الصوتي من خارج الصورة بصوته المعروف وطريقته التي تمزج بين الدهشة والسخرية والتساؤل من دون أن يفرض رأيا أو يكرّس حجة، بل يترك ذلك لتداعيات الأحداث التي يصورها والتي نتابعها في تدفق مثير عبر ساعتين.
يستخدم مور أيضا قصاصات الصحف، ومقاطع كثيرة من البرامج التلفزيونية الإخبارية التي ينتقل في ما بينها من خلال المونتاج المتوازي لفحص ما يحدث على جبهتي ترامب وهيلاري كلينتون خلال الحملات الانتخابية وما سبقها، كما يستخدم المقابلات المصورة، والمتابعات الحيّة التي شارك فيها سواء في التظاهرات الكبرى، أو اجتماعات الطلاب والمؤتمرات الانتخابية وغير ذلك.
ويستخدم أيضا بعض اللقطات الأرشيفية التي يظهر فيها مع ترامب عندما التقاه في أوائل التسعينات، كما يظهر مع جاريد كوشنر الذي سيصبح زوج ابنة ترامب بعد العرض الخاص الذي أقامه كوشنر لفيلم مور “سايكو” عن الرعاية الصحية في الولايات المتحدة مقارنة بغيرها من البلدان، مبديا إعجابه بالفيلم!
ويبدأ الفيلم بالانتقال من خلال المونتاج المتوازي، بين معسكري هيلاري كلينتون ودونالد ترامب في صيف 2016 وصولا إلى يوم التصويت، ثم تقطيع سريع ينتقل بين الكثير من المعلقين السياسيين الذين يظهرون على شاشات التلفزيون، يجمعون على حتمية فوز كلينتون. لكن ترامب يفوز.
يظهر ترامب صباح إعلان فوزه لكي يخطب في حشد كبير من أنصاره، وهو مقطب الجبين، ويعلق مور “لم يكن أحد يشعر بالسعادة، ولا حتى ترامب نفسه!”.
كيف فاز ترامب؟
أخطر ما يأتي في الفيلم، تلك المقاربة الصادمة بين هتلر وترامب، وبين حشود تجمعات النازيين وحشود أنصار ترامب
سؤال مور المباشر بعد ذلك هو “كيف كان ممكنا أن يحدث هذا؟”، وهو يبحث في أسباب نجاحه ويعرض مقاطع من حملاته الانتخابية الشعبوية، وكيف كان يقوم بتشويه منافسيه من الحزب الجمهوري وتلطيخ سمعتهم والسخرية منهم خلال المناظرات التلفزيونية التي جمعته بهم، على نحو غير مسبوق في تاريخ الانتخابات الأميركية، ثم هجومه الحادّ على هيلاري كلينتون، وكيف نجح في أن يلقى الإعجاب من جانب قطاع من الأميركيين لشخصه وليس لسياساته، بسبب جرأته واختلافه عن السياسيين التقليديين، بل وتجاوزه المألوف، رغم كل ما نسب إليه من اتهامات، يعلّق مور “لم يكتب أحد لمحطة إن.بي.سي يطالب بإزاحة هذا العنصري المفضوح”.
مايكل مور في فيلمه لا ينحاز سياسيّا لحزب من الحزبين، إنه يدين الحزب الجمهوري كما يدين الحزب الديمقراطي، وهو يوجّه نقدا قاسيا للنظام السياسي الأميركي، ويكشف عوراته.
ويبدأ بكشف حقيقة أن بيرني ساندرز الإصلاحي الجريء الذي كان يحظى بتأييد واسع من قبل الشباب، تم تصويره في نيويورك تايمز بأنه لا يجد تأييدا سوى من حفنة من مدمني المخدرات من الهيبيز، بينما كان ساندرز قد فاز كما يصوّر مور، في جميع دوائر ولاية غرب فيرجينيا، بينما فشلت منافسته هيلاري كلينتون في الفوز بدائرة واحدة في إطار المنافسات على نيل ترشيح الحزب الديمقراطي لانتخابات الرئاسة، ورغم ذلك وقفت “المؤسسة” التقليدية في الحزب التي تمثّل البنوك والاحتكارات المالية إلى جانب كلينتون.
وفي جزء طريف من الفيلم، يتميّز بالإيقاع السريع، يعرض مور لعدد من كبار المسؤولين من أنصار ومساعدي ترامب الذين اتهموا جميعا بالاعتداءات والتحرشات الجنسية وأرغموا على الاستقالة من مناصبهم وأصبحوا يواجهون المحاكمة في عشرات الاتهامات، من بينهم بريت كافانو (القاضي في المحكمة الدستورية العليا)، وروب بورتر (رئيس الموظفين في البيت الأبيض)، وروي مور (قاضي ولاية ألاباما الذي اتهم بثمانية اعتداءات جنسية)، وبيل أوريلي (مذيع شهير في فوكس نيوز اتهم بخمسة اعتداءات جنسية)، وروجر إليس (رئيس فوكس نيوز الذي اتهم بعدد من التحرشات)، وكوري لواندفسكي (مدير حملة ترامب الذي أرغم على الاستقالة بسبب اتهامات بالتحرش)، ويتوقف مور أمام دفاع ترامب الحار عن هؤلاء جميعا من خلال التدوينات التي كتبها، والظهور على شاشة التلفزيون.
إشارات ذات مغزى
الجانب الأكثر خطورة وإن كان مور يصوغه في سياق ساخر ومع توخّي الحذر، يتمثّل في مجموعة لقطات وتصريحات تتوالى لترامب مع ابنته الجميلة إيفانكا، وصوره معها منذ طفولتها مرورا بالمراهقة ثم الشباب. نراها وهي تجلس على ساقي أبيها، وهو يداعبها، ثم وترامب يقبلها ويضع يده على جزء حساس من جسدها، ثم وهو يبدي إعجابه بها كما يقول (من الناحية الجنسية)، بل إنه يصرّح ذات مرة بأنه منجذب “جنسيا” إليها، وأنه لو كان ذلك ينفع لكان قد طلب يدها للزواج، أي أن مور يشير بشكل واضح إلى احتمال أن يكون تحرش ترامب قد نال أيضا من ابنته.
المخرج الأميركي في فيلمه لا ينحاز سياسيا لحزب من الحزبين، إنه يدين الحزب الجمهوري كما يدين الحزب الديمقراطي
يقول مايكل مور في الفيلم إن ترامب هو الرئيس الوحيد الذي أوفى بكل وعوده بعد سنتين من انتخابه، لقد ألغى النظام الصحي الذي أدخله الرئيس أوباما، وخفض الضرائب على الأغنياء، ووضع قاضيا محافظا على رأس المحكمة الأميركية العليا، وشن الحرب على داعش، وانسحب من اتفاقية باريس لمكافحة ظاهرة الارتفاع الحراري، كما انسحب من الاتفاقية التجارية مع دول الباسفيك، وأعاد سياسة التشدد تجاه كوبا، وحظر دخول المسلمين.
ترامب النازي
يصور مور كيف يحلم ترامب بالزعامة الأبدية على طريقة أعتى الدكتاتوريين، وكيف أثنى عليه الرئيس الصيني وكذلك دكتاتور كوريا الشمالية، كما نرى ترامب في لقطات مدهشة نادرة، وهو يرحب بإلغاء انتخابات 2020 ومد فترة رئاسته حتى 16 عاما، كما يقول لأنصاره.
ويعود مور إلى الموضوع الذي شغله من قبل كما تبدى في فيلمه “دحرجة الكرات في كولمباين”، وهو موضوع اللوبي القوي الذي يتمثل في الدفاع عن امتلاك الأسلحة الذي يدعمون ترامب، وكيف أن بعض قيادات هذا اللوبي يهددون بالنزول إلى الشارع وإشعال حرب أهلية في حالة عزل ترامب!
إلاّ أن أخطر ما يأتي في سياق الفيلم، فهو تلك المقاربة الصادمة بين هتلر وترامب، وبين حشود تجمعات النازيين وحشود أنصار ترامب، وفي مشهد شديد القوة والتأثير نشاهد هتلر وهو يخطب في أنصاره، بينما نسمع صوت ترامب بدلا من صوت هتلر.
ومور يريد أن يقول إن هتلر الذي وصل إلى السلطة بعد استخدام ذريعة حريق البرلمان (التي يعتقد أن النازيين دبروه) كما يستخدم ترامب موضوع الإرهاب للتحكم في عموم الأميركيين، رغم أن أغلبية الأميركيين لم ينتخبوه وأن المشكلة في النظام الانتخابي نفسه، وهنا يتعرض الفيلم لسياسة ترامب العنصرية ضد السود والملونين والمكسيكيين والمسلمين في مقاربة مع سياسة هتلر العنصرية.
يعود ترامب إلى مسقط رأسه في مدينة فلينت بولاية ميتشغان التي تضم أغلبية من الأميركيين السود من أصول أفريقية، ليسلط الأضواء على المشكلة التي شغلت الناس هناك طويلا، وهي مشكلة نجمت عن سياسة حاكم الولاية ريك سنيدر الذي يصفه مور بأن لا صلة له بالسياسة وأنه مثل ترامب جاء من عالم البيزنس والتحق بالحزب الجمهوري.
وقد قرر هذا الرجل الذي تقف وراءه الاحتكارات المالية، إسناد عملية ضخمة إلى البنوك لشق قناة لا ضرورة لها تنقل مياه نهر فلينت ليصبح هو المصدر الوحيد للمياه في المدينة، رغم وجود قناة أخرى تنقل المياه من بحيرة هيرون، الأمر الذي تسبب في إصابة آلاف الأشخاص وخاصة الأطفال، بأمراض خطيرة قاتلة، نتيجة تلوث مياه النهر بالرصاص، ويعلق مور قائلا “لم تفكر أي منظمة إرهابية في تسميم مياه مدينة أميركية كاملة”!
وقد تقاعس حاكم الولاية عن التدخل رغم التقارير الصحية الدامغة، ويصور مور ما حدث باعتباره مؤامرة متكاملة الأركان لقتل أكبر عدد ممكن من الفقراء السود، أو عملية “تطهير عرقي”. وعندما تجاوز الأمر مداه جاء الرئيس أوباما وأعلن أنه سيتدخل لوقف الكارثة، لكنه عاد دون أن يفعل شيئا. هنا يكشف مور كيف خُدع السكان ذوو الأصول الأفريقية في أوباما، ويكشف أن أوباما كان أيضا خاضعا للاحتكارات التي وقفت وراء تمويل حملته للوصول إلى البيت الأبيض.
طرق مور المألوفة
مايكل مور يستخدم في الفيلم بعض اللقطات الأرشيفية التي يظهر فيها مع ترامب عندما التقاه في أوائل التسعينات
في مشهد طريف يليق بمور، يتوجه إلى مقر حاكم الولاية ريك سنيدر وهو يمسك في يديه بقيود حديدية، مبديا للحراس في مدخل المبنى، رغبته في اعتقاله حسب مبدأ قديم يسمى “اعتقال المواطن ” Citizen’s arrest، وهو ما يعود إلى القرون الوسطى وكان يستخدم كمساعدة من جانب المواطنين للسلطة القضائية في القبض على المجرمين. وعندما يرفض رئيس الحراس السماح له بالدخول يناوله كأسا من الماء ويطلب منه أن يشربها، لكن الرجل يرفض.
وفي مشهد آخر يقود مور شاحنة ملأها بمياه الشرب الملوثة ويتوجه بها إلى بيت حاكم الولاية، يطرق على الباب وينادي، لا أحد يستجيب.. يمد أنبوبا ويروي حديقة المنزل بالمياه الملوثة من فوق الأسوار. وعندما يذهب ترامب إلى فلينت لا يفعل بدوره شيئا لوقف الكارثة، ويواجه حشدا من النساء الغاضبات من سكان المدينة اتهموه أمام كاميرات التلفزيون بالوقوف ضد سكان فلينت.. مرددين “أنت فاسد وقد تلقيت 36 مليون دولار من لوبي السلاح!”.
موضوع تلوث المياه في فلينت وتداعياته، يشغل حيّزا كبيرا من الفيلم ويشمل الكثير من التفاصيل والمقابلات التي يجريها مور مع الخبراء والأطباء والمسؤولين، ويستمع لشهادات من السكان الذين تضرروا، بينما كان الأفضل أن يأتي هذا الجزء مقتضبا لكي لا يتسبب في اختلال إيقاع الفيلم وتذبذبه وابتعاده عن موضوعه الرئيسي، خاصة أن مور يظل يذهب ثم يعود كثيرا إلى فلينت، والهدف بالطبع أن يثبت كيف أضرّت سياسات ترامب وحزبه بصحة الأميركيين.
الأمل
يتوقف مور أيضا أمام تداعيات حادثة إطلاق النار داخل مدرسة في باركلاند بولاية فلوريدا (فبراير 2018) وما نتج عن مقتل 18 طالبا، ثم ما أعقبها من ثورة الطلاب في عدد كبير من الولايات الأميركية، الذين نظموا أكبر إضرابات وتظاهرات من نوعها تشهدها أميركا، وكيف نجحوا في إرغام مرشح جمهوري على التخلي عن ترشيحه والدفع بمرشحة شابة سوداء بديلا له في غرب فيرجينيا، ثم إضراب المعلمين في غرب فيرجينيا وكيف أرغموا السلطة على رفع أجورهم، بل وأجور عمال القطارات أيضا.
وهو ما يعتبره مور الوسيلة الوحيدة الممكنة الآن لإحداث التغيير، أي أنه يدعو بوضوح إلى ثورة ضد المؤسسة الرسمية القائمة يكون أساسها الشباب، وهذا هو “الأمل” الذي يبشر به مور في فصل خاص تحت هذا العنوان.
من مشاكل الفيلم تشتت البناء بين مواضيع وقضايا مختلفة كما أشرت، والتطرق إلى موضوع شائك مثل موقف المقاتلين السابقين في أفغانستان من ترامب ورفضهم سياساته والتهديد بالنزول والقتال في الشارع، في حين أن الفيلم يكتفي بالعبور السريع عليه، كما يبدو إقحام مقاطع قديمة من لقاء ترامب بمور وإعجاب ترامب به وإعجاب كوشنر بأفلام مور، نزوعا للنرجسية، كما يجعل من السهل كما حدث بالفعل، أن يُتهم بأنه جزء من المؤسسة التي ينتقدها!
وعلى الرغم من تلك الملاحظات إلاّ أن “11/9 فهرنهايت” يظل عملا شديد التأثير، بفضل قدرته على الجمع بين سينما الوعي والتحريض والصدمة، ولا شك أن تأثيره يرجع أيضا إلى الكاريزما الخاصة التي يتمتع بها مور، رغم تقدمه في السن الذي يظهر في انحناءة جسده الضخم، لكن مايكل مور هو مايكل مور!
أمير العمري
كاتب وناقد سينمائي مصري