افراسيانت - ما زالت رواية “الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل” شأنها شأن أعمال أدبيّة عديدة للأديب الفلسطيني إميل حبيبي، تعكس حالة التّراجيديا الفلسطينيّة منذ نكبة عام 1948، كما تعكس واقع الإنسان العربي المحاصر بالإحباط والطامح إلى الأمل. أما المسرحية التي تحمل نفس اسم الرّواية “المتشائل”، من إخراج الراحل مازن غطّاس وأداء محمد بكري، فقد تحوّلت إلى إحدى أهم وأنجح المسرحيات على المستوى الفلسطينيّ والعربي.
بيروت – يتحدى محمد بكري الاحتلال الإسرائيلي بمكنسة على خشبة مسرح المدينة ببيروت، متجاوزا تهديدات بعض مسؤوليها وإعلامها، الذين شجعوا، بعد إعادة عرضه لعمله المسرحي “المتشائل”، على مقاضاته وصولا إلى سحب الجنسية الإسرائيلية منه إذا قرر تقديم أعماله المسرحية والسينمائية في بيروت.
يعتلي محمد بكري مسرح المدينة في بيروت وحيدا بديكور من مكنسة طويلة، يحملها معه طيلة مدة العرض الذي يستغرق نحو ساعتين، يقدم خلالها مسرحية “المتشائل” المقتبسة عن رواية الأديب والسياسي الفلسطيني إميل حبيبي بعنوان “الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل”، الطريف في العنوان هو الكلمة الهجينة التي خلقها الروائي “المتشائل” التي تعتبر دمجا لكلمتين هما المتشائم والمتفائل.
شخصية المتشائل سعيد أبي النحس، شخصية فلسطيني من عرب 48 في فترة الحكم العسكري الذي فرضه الاحتلال الإسرائيلي على المواطنين العرب الأصليين.
يمكن أن تلخص هذه الشخصية الفريدة من نوعها جملة بسيطة يقولها سعيد أبي النحس عن نفسه في الرواية؛ إذ يقول “خذني أنا مثلاً، فإنني لا أميز التشاؤم عن التفاؤل. فأسأل نفسي: من أنا؟. أمتشائم أنا أم متفائل؟ أقوم في الصباح من نومي فأحمد الله على أنه لم يقبضني في المنام. فإذا
أصابني مكروه في يومي أحمده على أن الأكره منه لم يقع، فأيهما أنا: أمتشائم أنا أم متفائل؟”.
"المتشائل" التي يؤديها الممثل منفردا عمل يعالج القضية الفلسطينية والاحتلال بأسلوب يخلط بين الهزل والدراما
وقد نجح بكري في تقديم تصور كامل للشخصية الطريفة في تفاصيلها التي تعيشها، بأداء صادق يبدأ حتى من خارج الخشبة ولا ينتهي فوقها، أداء صادق يصور مشاعر الشخصية المتناقضة، بين اليأس والأمل وبين القوة والضعف والفعل والاستكانة، وهو ما يعبّر تماما عن معاناة الإنسان الفلسطيني في دوامة من المتناقضات تحت وطأة الاحتلال. ويتجاوز محمد بكري تعبيره عن الفلسطيني لنجده يحكي عامة عن الإنسان العربي الذي تدافع في قلبه اليأس في ظل وقائع اجتماعية وسياسية جعلت من أيامه تفاصيل لا هي سوداء ولا بيضاء، لا فرح ولا حزن، حالة لذات معلقة لا أرض تطؤها.
كما هو شأن الرواية انتهج بكري مثل إميل حبيبي أسلوب السخرية أو الكوميديا السوداء إن صحّ التعبير، حيث يصعّد هواجس الشخصية التي يتقمصها، وصولا بها كما هو حالها في الرواية إلى قناعات تؤكد حتمية المقاومة. وهو ما لم يعجب سلطات الاحتلال الإسرائيلية وجعلها تأخذ موقفا متعصبا ضد هذا العمل المسرحي.
يعمل محمد بكري في الإخراج والإنتاج والتمثيل وهو من مواليد قرية البعنة العربية قرب عكا في الجليل بشمال إسرائيل. لذا يحمل مثل بقية عرب 48 الجنسية الإسرائيلية.
وهذا ما دعا وزيرة الثقافة الإسرائيلية ميري ريجيف إلى أن تكتب عبر صفحتها على موقع فيسبوك وحسابها في تويتر “محمد بكري لا يتوجب عليك أن تكون مواطنا إسرائيليا، طالما أنت تحرض ضد الدولة وتزور دولة معادية”.
وأضافت رابطا لتقرير صحافي وفيه طلبت من المدعي العام الإسرائيلي التحقيق مع بكري. وأكد المتحدث باسم وزير العدل أن طلبها قد وصل، ولكنه لم يقل إن التحقيق قد بدأ بالفعل.
الفنان نجح في تقديم تصور كامل للشخصية الطريفة في تفاصيلها، بأداء صادق يبدأ من خارج الخشبة ولا ينتهي فوقها
وكثيرا ما تتحدث ريجيف -وهي عضو في حزب ليكود الحاكم الذي يتزعمه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو- ضد المؤسسات والفنانين الذين ينتقدون سياسة إسرائيل تجاه الفلسطينيين قائلة إنهم يشوهون سمعة إسرائيل في الخارج.
لكن بكري علق في بيروت على ذلك قائلا إنه لا يصدق ولو كلمة واحدة من الكلمات التي تنطقها ريجيف، مضيفا أنه لا يخشى الاعتقال؛ “أنا أخشى الله فقط، ولا أخشى الإسرائيليين ولا الحكومة الإسرائيلية، وبالطبع لا أخشى ميري ريجيف”.
وأرجع بكري غضب إسرائيل على أعماله إلى كونه منحازا إلى القضية الفلسطينية، وقال “كل أعمالي منذ بدأت الاشتغال في الفن، تدافع عن قضيتي وشعبي، (قضيتي) التي ضمنتها كل أعمالي المسرحية والسينمائية. لا أملك سلاحا ثانيا أحارب به، لكن إسرائيل ترفضني لأنها تلغي الآخر”.
وبهذا السلاح قدم محمد بكري مسرحية “المتشائل” التي يؤديها منفردا، وهي عمل يعالج القضية الفلسطينية والتشريد والاحتلال بأسلوب يخلط بين الهزل والدراما.
وإضافة إلى مسرحية “المتشائل” التي تم عرضها على مسرح المدينة في بيروت أخيرا، ستعرض على مدى الأيام السبعة سلسلة من أعمال بكري الفنية والسينمائية في مسرح المدينة ودار النمر للفن والثقافة، احتفاء بالفنان الفلسطيني.
ومن بين الأفلام المقترح عرضها “حنا كي” الذي مثل فيه بكري دور البطولة، والفيلم الوثائقي “من يوم ما رحت” وفيلم “زهرة” وفيلم “1948” و”عيد ميلاد ليلى”. وسيختتم الأسبوع السبت القادم بفيلم “ما أكبر الفكرة”.