افراسيانت - تعتبر البلدة القديمة في مدينة الخليل من أقدم المدن في العالم كما تُعتبر ذات أهميّة دينيّة للديانات الإبراهيميّة الثلاث، والبلدة القديمة عبارة عن عدد من الأزقة والبيوت والأبنية التاريخيّة والدكاكين والأسواق القديمة التي اشتهرت بالمهن اليدوية كصناعة الغزل والزجاج والصابون ودباغة الجلود وهي اليوم على لائحة اليونسكو بفرادتها المعمارية.
نظام معماري فريد، وأسلوب بناء غير مكرر عالميا، وأماكن تاريخية كانت شاهدة على أحداث غيّرت مجرى التاريخ، كلها عوامل أهّلت مدينة الخليل لتكون إحدى المناطق المدرجة على لائحة التراث العالمي.
وأدرجت الخليل، الجمعة الماضي، على لائحة التراث العلمي، بعد أن صوتت 12 دولة أعضاء في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “يونسكو” خلال اجتماعها في بولندا لمصلحة الطلب الفلسطيني المقدم بهذا الشأن.
واعتُمدت الخليل ضمن لائحة التراث العالمي، بعدما تمكنت من إثبات ثلاثة من المعايير التي أهلتها للانضمام إلى القائمة، بحسب علاء شاهين رئيس قسم الدراسات والتخطيط في بلدية الخليل ومدير مشروع تسجيل البلدة القديمة على لائحة التراث العالمي.
وقال شاهين “تشترط اليونسكو إثبات واحد من ضمن ستة معايير لإدراج المكان على لائحة التراث العالمي، لكننا تمكنا من إثبات ثلاثة معايير في البلدة القديمة والحرم الإبراهيمي لتكون ضمن اللائحة”.
وأضاف، “المعيار الأول تمثل بوجود نموذج معماري فريد ومميز يرقى إلى المستوى العالمي، وهنا تم الاستناد على نقطتين؛ النظام المعماري للحرم الإبراهيمي كبناء معماري فريد، عمره يزيد على ألفي عام، وشاهد على مراحل تاريخية مهمة أثرت على البشرية، بالإضافة إلى نظام الأحواش داخل البلدة القديمة”.
اهتم سكان الخليل بالتشكيل الداخلي للمنزل أكثر من التشكيل الخارجي الذي اتسم بالبساطة.
حوش العائلة
الحوش بحسب شاهين هو نمط معماري مميز يعكس الحالة الاقتصادية والاجتماعية، وهو عبارة عن ساحة تضم مباني أو وحدات سكنية للعائلة الممتدة (الجد والأبناء والأحفاد).
وظهر هذا النمط من المباني كنتيجة لطبيعة التركيبة الأسرية السائدة، حيث اعتمد النظام الأسري على الأسرة الكبيرة الممتدة والتي تتكون من الآباء والأبناء وعائلاتهم.
وقد كان لهذه التركيبة الأثر الواضح في تصميم الوحدة السكنية بشكل خاص، حيث ظهر نظام “الحوش” واعتبر الوحدة الأساسية في التكوين العمراني.
وتجمعت العائلات ذات الأصول الواحدة في حارات محددة، وقد انعكس ذلك على التكوين العام للمدينة، حيث ظهرت على شكل تجمعات من النسيج المترابط الناتج عن اتصال وتداخل هذه الأحواش في ما بينها.
وما يميز الحوش العلاقة الاجتماعية بين السكان، مع العلم أن هناك أصولا مختلفة للعائلات بالخليل، منها أصول من العراق والحجاز والمغرب، وبثقافات مختلفة، ومع ذلك عاشوا بترابط اجتماعي قوي جدا.
وتابع شاهين “عندما كان الأب يحتاج إلى بناء غرفة جديدة لابنه، كان يبنيها فوق سطح منزل جاره، مما جعل تركيبة المبنى معقدة، فملكية المبنى الذي بالأسفل تختلف عن الطابق العلوي، وعملية التنقل في ما بينها غريبة”.
ومضى بالقول “هذه البيوت محاطة بساحة حوش تربط بينها، فلكل عائلة حوش يمثلها، والحارة تضم عدة أحواش، وتربط العائلات فيها علاقات مميزة، وهذا أعطى جمالية ومزيجا اجتماعيا وخصوصية لمدينة الخليل”.
وتكون مداخل الأحواش منخفضة، ولم تكن لها أبواب كبيرة تطل على الشارع، ما عدا بعض المساكن القليلة، وهي عادة ما تكون مظلمة وعميقة على شكل دهليز ينتهي بقاعة فسيحة تسمى الفناء أو الصحن، وفي إحدى زواياه يوجد صهريج للمياه لحفظ مياه الأمطار. أما في الداخل فكانت الوحدات السكنية تتوزع عليه، كما كانت تخصص حجرة كبيرة تسمى القاعة لاستقبال الضيوف والتي تطل على الفناء أو الصحن.
تتجلى في البيت الخليلي الأصالة والبساطة والسماحة، فهو يؤمن لساكنيه الخصوصية من أعين الفضوليين، ويحافظ على أواصر الدم والقربى، والبيت بسيط في خطوطه ونسيجه.
ويتألف البيت الخليلي غالبا من طابقين رئيسيين يرتفعان فوق قاعات أو يواخير أو مخازن، ويحتوي الطابق الأرضي على فعاليات تجارية ومهن حرفية أولية. ويؤمن عدم وصول مياه الفيضانات إلى البيوت، ويؤمن الخصوصية، وفيه ما تسمى بالقاعة، وهي مخزن ذات باب عادي تستعمل لأغراض البيت، أو توضع فيها الحيوانات إن وجدت.
ويمارس في الطابق الأول، إضافة إلى حجرات النوم، النشاط اليومي من جلوس وأعمال الطهي والغسيل والضيافة مع وجود بعض النباتات، فالحجرات والإيوانات توضع حول فسحة سماوية تسمى الفناء الداخلي.
وقد راعى التصميم الظروف المناخية واتجاهات الرياح السائدة في توجيه الفتحات والأفنية الداخلية، حيث وجهت للشرق والجنوب الشرقي؛ وفي حالات الساحات الخارجية وجهت نحو الشمال والشمال الغربي؛ وقللت الفتحات المباشرة على الشمال، ووجدت المشربية الخشبية أو الفخارية؛ بحيث تسمح بالتهوئة والإضاءة مع كسر حدة أشعة الشمس الساقطة عليها مع بروزها؛ ما يسمح بإلقاء الظل إلى الداخل، بالإضافة إلى إيجاد الخصوصية اللازمة داخل الغرف.
واعتمد البناء الخليلي في التشكيل الداخلي على التنوع والتدرج في الارتفاعات الداخلية، واستخدام الفتحات العمودية والخزائن والرفوف بالحوائط، كما اعتمد على الزخارف الهندسية والنباتية الملونة بالأسقف وكذلك الأرضيات الرخامية.
وقد اهتم البناء بالتشكيل الداخلي للمنزل أكثر من اهتمامه بالتشكيل الخارجي الذي اتسم بالبساطة حيث اعتمد على تنوع أحجام الفتحات والمشربيات وأشكالها وبروزاتها في الطوابق العليا؛ ما ساعد على إلقاء الظل على الطوابق السفلية وعلى زيادة مسطحات الطوابق العليا المفتوحة.
واستخدم الحجر في بناء الطوابق واستخدمت الحوائط المزدوجة في مناطق مختلفة من البناء؛ ولوحظ أن الحجر ترك على طبيعته بالواجهات الخارجية، بينما غطى الآجر والبياض الواجهات الداخلية. واستخدم الفخار في عمل الملقف والمشربيات بنفس المواد التي ساد استخدامها في العصور الغابرة، وكلها مواد محلية ملائمة للظروف المناخية.
وتميز المسكن الخليلي بقبابه التي أضفت على خط السماء في المدينة طابعا جماليا أو بصريا مميزا، وكذلك بفنائه الواسع الذي حفر بداخله خزان ماء لحفظ مياه الأمطار طوال العام.
الخليل المقامة منذ عهد النبي إبراهيم، تقدم الطعام للفقراء وعابري السبيل والغرباء عن البلدة، حتى اشتهرت بأنها 'المدينة التي لا يجوع فيها أحد'
الخليل تحمي نفسها
لكونها مركزا تجاريا، كان مطلوبا من الخليل أن تحمي نفسها وبنفس الوقت أن تكون مفتوحة على العالم، ولذلك لا يمكن لها أن تكون محاطة بالأسوار، فاستطاع سكانها أن تكون مدينتهم مفتوحة على العالم وبذات الوقت لم يبنوا الأسوار، فحموا أنفسهم من خلال العمارة وجعلوا المباني متلاصقة، لها أبواب ومداخل محدودة داخل البلدة القديمة.
إن تجمع البيوت واشتراكها بالحوائط الخارجية يساعد على شعور الأفراد القاطنين في البلدة القديمة بالأمان من الأعداء لأن جدران البيوت تشكل سورا حول المدينة القديمة، إضافة إلى تظليل المنازل على بعضها وعلى الناس المارة بجانبها.
ويقول شاهين “من الصعب جدا على الشخص الغريب أن يتدرج داخل البلدة القديمة، فقط أبناء البلدة من يحفظون معالمها ومداخلها ومخارجها جيدا، فالطرق تتسع وتضيق في مناطق مختلفة، ولا يستطيع الغريب أن يتدرج داخلها”.
ويكمل وصف البلدة قائلا “ممكن أن تذهب إلى حارة يسكنها 200 شخص، ويكون مدخلها عبارة عن باب صغير كأنه باب منزل أو مخزن، وهذا أسلوب معماري تم تصميمه لحماية البلدة”.
وبالبلدة القديمة شارع عام واحد فقط، فإذا داهمها الخطر وبلحظة واحدة، فلن تر ى شخص بالشارع فالكل قد دخلوا في ممرات أبواب مختلفة، في حين أن من يهاجمهم لن يستطيع معرفة المداخل أو المخارج، وهذا يعكس الإبداع بالعمارة والبناء داخل البلدة القديمة، والحرص على البقاء كمركز تجاري مفتوح، وهذا يعد منظومة فريدة غير مكررة بالعالم”.
وتعود بعض المباني السكنية في البلدة القديمة من الخليل إلى نهاية العصر المملوكي، على الأقل الطبقة الأرضية فيها، أو بعض أجزائها أحيانا، أما بقية المسكن فيعود في غالبية أجزائه المعمارية إلى العصر العثماني 1517-1917.
الأنهج الضيقة لحرارة التواصل
أما مساكن المدينة في العصر العثماني وخاصة في نهاية هذا العصر فقد تقاربت وتلاصقت، مما أدى إلى التوسع الرأسي على حساب التوسع العمراني الأفقي، فكانت المساكن ملتصقة مشكلة سورا للمدينة، وتتكون من طبقات ثلاث وهي؛ سفلى ووسط وأحيانا يعلو الثانية طبقة أخرى تسمى القصر أو العلِّية.
الحرم الإبراهيمي
المعيار الثاني الذي استطاعت الخليل إثباته عالميا، وفق مدير المشروع يندرج تحت مفهوم “القيم”، ويوضح بالقول “وجود الحرم الإبراهيمي وأهميته الدينية وتأثيره على عادات وتقاليد وقيم أهل المنطقة للدخول ضمن القائمة”.
ويتوسط المسجد الإبراهيمي البلدة القديمة ويشكل منارتها، وهو ثاني أهم المعالم الدينية للمسلمين في فلسطين بعد المسجد الأقصى، وقد سمي بهذا الاسم نسبة لسيدنا إبراهيم عليه السلام، حيث يحتضن ضريحه إلى جوار ضريح زوجته سارة وأضرحة كل من إسحق ويعقوب وزوجتيهما رفقة ولائقة.
وحافظت الخليل على العادات والتقاليد والموروثات عبر المئات بل الآلاف من السنين، فالتكية الإبراهيمية لا تزال شاهدة على ذلك، وهي المقامة منذ عهد النبي إبراهيم، وتقدم الطعام للفقراء وعابري السبيل والغرباء عن البلدة، حتى اشتهرت الخليل بأنها “المدينة التي لا يجوع فيها أحد”. كما كانت الخليل في الفترة المملوكية مركزا للطريقة الصوفية، ومازالت البلدة القديمة تضم ما يزيد عن 15 من الزوايا الصوفية. ويقول شاهين “كان طلبة العلم من مختلف مناطق العالم يأتون للخليل لطلب العلم والمشاركة في الزوايا الصوفية، عدا عن الروحانيات التي أكسبها الحرم الإبراهيمي للمدينة”.
وكان المعيار الثالث الذي استطاعت الخليل أن تثبته هو “وجود مبنى له أهمية عالمية”، والحرم الإبراهيمي كاف لإثبات هذا المعيار، فعمره ما يقارب ألفي عام، وكان شاهدا على مراحل تاريخية هامة ومرت عليه عصور وممالك وحكام، كما أنه شاهد على تسلسل تاريخي، بحسب مدير المشروع.
وقال “بقي الحرم محافظا على خصوصيته؛ لوحده يمكن أن يؤهل الخليل لتكون مدرجة في لائحة التراث العالمي”.
وأشار إلى أن القرار سيكون أيضا فرصة لتطوير آليات الحماية من أذرع اليونسكو المسؤولة عن وضع آليات الحماية من ناحية فنية، وتطوير آليات العمل ضمن معايير دولية، وفرص لتمويل مشاريع ترميم للمنطقة.
وبدأ العمل على مشروع إدراج الخليل على لائحة التراث العالمي منذ عام 2009، بشراكة بين بلدية الخليل مع بلديات بلفور وأركوي الفرنسيات، كحملة دولية تم إطلاقها حينها، وتبعتها المشاركة بمحافل دولية ومؤتمرات وفعاليات عالمية، من بينها تركية.
وخرجت تلك المؤتمرات والفعاليات جميعها بتوصيات لإدراج الخليل على لائحة التراث العالمي والترويج للبلدة القديمة والتعريف بالقيم التي تتميز بها المدينة.
واستغرق العمل بالملف لتقديمه لليونسكو عامين ونصف العام، وتم تسليمه عام 2012.
ويقول شاهين “كان الملف حينها جاهزا فنيا، لكن سياسيا واصلنا الحراك، خاصة وأن فلسطين لم تكن عضوا في منظمة اليونسكو، فلم يكن لديها الحق بتقديم الملف، ولكن بعد انضمامها تمكنا من تحقيق إنجاز وضع بيت لحم وبتّير على لائحة التراث العالمي، وبعدها جاءت مدينة الخليل”.