افراسيانت - محمد عمر يوسف القراعين - صدر في الأيّام القليلة الماضية كتاب" هواجس الماء...أمنيات الزّبد" للأديبة الفلسطينيّة الشّابّة نسب أديب حسين، ويقع الكتاب الصّادر عن دار "الأهليّة للنّشر والتّوزيع" في عمّان في 151 صفحة من الحجم المتوسّط، وغلافه الذي يحمل صورة لتمثال من صنع سوزان لوردي من تصميم زهير أبو شايب.
نصوص عديدة فيها تأمّلات وحوارات ومناجاة وتخيلات فلسفية ووجدانيات، لغتها رقيقة يغلب عليها الشعر، كنت أودّ أن ألملمها في قصة كنصوص سابقة، ولكن ذلك يحتاج إلى تقمص فكر الكاتبة، التي هي أقدر على ذلك، وبناء الجسور بين فروع النصوص وربطها بالأصل الذي انطلقت منه. وهنا أكتفي بتناول البعض منها.
في النص الأول ص 8، يكتوي البحر بهمس الشمس عند اللقى، وفي عيون البحر سُكب النور ومضى. هذا هو البحر الذي تتغزل به الكاتبة، عندما تنصب خيمتها عنده، تريد أن تعيش لتعيش كما تريد وتكونَ كما تريد أن تكون، وتسكبُ همومها وتودعها للموج يرحل بها. عند البحر لا يتخلص المرء من ملابسه فقط بل من الهموم أيضا، فتنصب خيمتها عند البحر، عند خط فاصل بين التناقضات بين الشاطئ والبحر. فالشاطئ تربته رمل، أي تربة الصحراء التي قد يقذف جنون جفافها إلى الهلاك، أما البحر فتربته ماء والذي قد يدفع اجتياحه إلى الهلاك أيضا. عند ذلك المقطع من اجتماع الرمل والماء، توجد الحلول وتنقش رموز السلام ص 9. طبعا الأقربون أولى بالمعروف، فبحر عكا هو الأقرب إلى الرّامة، حيث أصبحت بينهما ألفة حتى صار يعرفها، وصار بينهما حوار لدرجة العشق، يحدثها عن بيروت وغزة، وتحدثه عن مدن الداخل وعن جدار الفصل، تناديك فترسل أمواجك لتغسل قدميها، تناديها فتقترب ثم تعتذر، إذ تخشى الغرق. وبحر حيفا له نصيب في هذه النصوص، ولكنه غاص بالسفن والحركة، ولا يمنحها الهدوء، وشوارع المدينة هناك تذكرها بما قاله طرفة بن العبد:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد... تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد.
ولكنها بيوت قائمة، موصدة نوافذها بالطوب، وأبوابها بالحديد، معدة للبناء بمعنى الهدم، أهلها موجودون لكن في مكان آخر، يرحبون بالعودة إليها، غير أنهم ممنوعون من ذلك، فهي في ذهن الكاتبة كالأطلال.
في الجزء الثاني من النصوص "بعض وطن.. بعض عشق وألم"، تستمر الكاتبة بأسلوب المناجاة، وهنا يبدو المكان مهما للكاتبة، فتتفقد الحمام في أحد أسواق القدس، وهو المكان الذي تألفه ويألفه السياح، سوق أفتيموس في الدباغة والنافورة في وسطه يتطاير الحمام حولها، والتي كانت زمن الانتداب محاطة ببسطات الخردوات للأفغانيين الذين غادروا إلى ديارهم بعد النكبة. الحمامة رسول سلام، لا تنساها الكاتبة حتى ولو كانت في سفر، إذ تطلب منها أن تأتي وتأخذ منها إلى القدس رسائل عشقها. كم القدس محظوظة بعشق الناس لها! ولكن ليس القدس وحدها في ذهن الكاتبة، فهي صديقة للنوارس أيضا التي تصحبها في كف الريح وفوق الزبد، تُطوح بها بين دمشق وغزة وطرابلس وصنعاء، ثم تعيدها الأمواج إلى القدس وجواز سفرها ريشة النورس التي تعلقت بها. هذا مع الملاحظة أنه ليس كل واحد يُسمح له بالعودة إلى القدس بدون الهوية الزرقاء.
لا تملّ من الترحال بين الرّامة وبوابات قلنديا، ربما مع النورس لتتجنب المحسوم، وأحيانا تغامر فإذا بها في الخيال فوق قرطبة، لا تكوني طماعة بالعودة إلى الأندلس، فهذا غزو مثل ضم الكويت للعراق لا تقبله الأمم المتحدة، أمّا للذكرى فلا بأس. يكفي أنها عندما وصلت غزة وجدت أن الضمير العربي قد مات، والحقيقة أن الضمير لا يموت بل يغفو أحيانا.
في النصوص التالية، "عيناكَ أم وجه لسراب" يتجسد الوجدان، الذي فيه عتب وخوف من أن يغيب البريق من العيون، وتعمّ الحلكة فلا يعود للحياة بهاء. البحر هادر صارخ بحبه الجنوني، وأنتَ في معقل صمتك بعيد. لست عند أعتاب الرمل لتزيل ما ترسب من ملح في جسدي ص 62.
كثيرا ما يفكر الناس بالفراق، حتى قبل أن يحدث، ولكنه يحدث. وقد قيل: توقعُ الموت أصعب من حدوثه، والحياة فيها المتوقع وغير المتوقع، كما لا أعتقد أن ليلى العامرية أو الأخيلية كان بإمكانها أن تعبر كما في نداء الأيائل، لأن أيا منهما كانت تعيش في الصحراء، ولا زبد ينثرها في حنايا البحر، غير سائلة عن درب العودة.
إن ناديتني: أيا حبيبتي...وغبتُ في حنايا بحرك..ينثرني الزبد ص 69.
من هنا جاء العنوان.
إلى رجل من سراب، شعر جميل يستحق القراءة ص 63.
مجموعة "هذا التيه وأكثر" تجيد وصف حالة الضياع للإنسان إذا كان هناك انفصال لروحه عن الواقع الذي يعيشه، وأن لا نُلبس الإنسان ثوب القداسة، فكل ابن آدم خطاء وليس ملاكا. وهنا تحضرني أغنية أم كلثوم: " قالوا أحب القس سلامة...وهو التقي الزاهد الورع...يا قوم إني بشر مثلكم". في هذا القسم تشاؤم، خاصة في وصف حال البلاد والعباد، "بقينا أشباح الموت نهادن، نسينا الموانئ، وضاعت المراكب ص 88، مع أنها قامت بمناجاة الرب في بعض المزامير ص 79.
وبعد رثاء الشاعر الكبير المرحوم سميح القسم، تُختتم النصوص بنهر يُبحر في دمي، وهو في نظري مقاربة لتناسخ الأرواح في نهر الحياة، حيث الفقرة الأولى تشي بذلك: أسير صوب الطائرة... ويلوح وجه مدينة للحياة، كادت تكون مدينتي، لولا نفَض القدَر كفه وغير خطاه، غادرتها في ذلك اليوم البعيد ص 119، ثم عادت إليها يقول لها قلبها " ثمانية وعشرون عاما من الغياب تكفي" ص 121، ( وهو عمر الكاتبة)، أي أنها عاشت حياتها الأولى فيها. وتضيف: " النهر ارتوى خضرة الأشجار...أسير قربها بمحاذاة ظلها وظلي، حين كانت أمي تأتي بي هنا عند العصر، وأن النهر همس في صدري عند الطفولة، وهكذا صرت كاتبة ص 122.
وهكذا تستمر في حوارها مع النهر الذي يجيد الإنشاد والرقص ص 142، كما تقول ليلى نظمي: والبحر بيرقص ليه، وانا جايه حامله السلع، تقصد بالبحر نهر النيل. و تكون النهاية، إذ قام النهر من مجراه، غابت كل الأصوات، حين همس في قلبها، "حبيبته هي".