افراسيانت - نمر القدومي - تُشعلُ من ذاكرة الحِبر أوراقها، هي الماضي والمستقبل، هي الأحلام التي تحقّقت والتي لم تتحقّق، تكلّمت مع الهواء والتراب وذرّات الغبار، وتفاعلت بكفِّ يدها مع حجارة ورائحة المكان، وما تنفكُّ دمعتها تسيل على جدران الزّمان، وتشحن فتيل الانفجار في أعماقنا ودواخلنا. ما بين صورتكِ النّازفة وشرايينكِ الحائرة، تنام الأسرار .. تحُكُّ جلدكَ ألف رغبة، ويشنق على فمكِ السؤال، وتعيدين ترتيب الرّوح، مَن سيوقد نار الحضور ويسترجع لنا الأسوار! صوتها لا يتجاوز حلقها، وتبقى تنكمش الأديبة الفلسطينية "نسب أديب حسين" ابنة قرية "الرّامة" الجليليّة، تنكمش نحو فوّهة الزّمان خفيفة كالرّيشة لا يشبهها إلاّ صمتها، في يوميّاتها المشوّقة "أسرار أبقتها القدس معي ..." الصّادرة عن دار الجندي للنّشر والتّوزيع للعام 2016 والتي تقع في 418 صفحة من الحجم المتوسّط. لو لم يمت والدكِ وأنتِ طفلة، ماذا كنتِ ستكونين؟ فأجابت الأديبة .. هناك احتمال لأن أكون كاتبة، لكن لا أظن أني سأكون "نسب" التي هي اليوم، إنما شخصيّة أخرى وظروف مختلفة! فمن على شُرفتكِ ترقبين وتكتبين زوبعة الكلام، أثارتها خُطاهم أهل المدينة على الأرصفة والطرقات، وفي الزّقاق وتحت القناطر والقباب ، ويضربونهم هناك على مرأى عينيكِ، فيسقط العِطر من كفِّهم، والعِطر فاح أرجاء المكان؛ أحدهم يحمل جثّته ويمضي وفي يديه رصاصة قُتِل بها، تارة يبتسم وتارات أخرى يبكي، و"نسب" تُعيد ترتيب الأوجاع في يوميّاتها، فمرايا الوجوه تكثُر وبلسم الألم يتبدّد، ونموت في حضرة الحياة وعيوننا مفتوحة والقلب ينبض بهستيرية من غير العادة.
نستشعر بفرحة غامرة حين يعاودنا التّاريخ لنقرأ حركاته وحركاتنا، فرحته وإبتساماتنا، وقد نكون مضطرين غير ملومين على بعث الآلام والمآسي التي رسمتها الأيام الخوالي على وجوه أجدادنا وآبائنا، نعيشها بمرارة وشجاعة، بأمل يشوبه يأس، وحُب حياة وضراوة عيش. حضرت الأديبة وهي تواجه رهبة المكان وفيها تردّد من الغربة، إلاّ أنَّ ارتياحا فكريا وروحانيا سيطر على المشاعر والوجدان والإرادة، وإستطاعت أن تألف المستحيل في مدينة كلّها تناقضات وواقع مؤسف، لتبدأ علاقة عشق بين الإنسان والمكان. "نسب" حملت أوجاع الوطن وأوجاع سكان المدينة، فهي تمتلك حِسّا يقرّبها من أناس يحملون في دواخلهم الشيء الكثير، تتقرّب لأجل إشباع رغبات تضفي على حياتها كمالا روحانيا نستمد منه القوّة لمتابعة الحياة. فقد وضعت الأديبة نبضا للمدينة حتى تستطيع أن تشعر بها وتتجاوب مع نداءاتها السّعيدة والحزينة. جعلت "القدس" في مخيلتها كلوحة فنيّة تشكيليّة، يخترق نظرها جميع الخطوط والألوان والإنكسارات؛ ليستقر على جمالها وفقط جمالها السّماوي النقيّ حيث الوريد يتدفّق مِسكا.
كان للأديبة في يوميّاتها مع المدينة ذلك الجمال الفنيّ في الخيال وأسلوب الكتابة والبلاغات المجازيّة وسهولة اللغة، فقد سيطر المونولوج من حديث نفس ونجوى، بطريقة مؤثّرة استطاعت أن تجذبنا بدفء كلماتها وصدق مشاعرها، والتجوال يدا بيد في ثنايا الزّمن ورشفات قهوتها. "نسب" تشتاق المدينة بلوعة الأم لأطفالها، وتتذوّق كل خطوة على بلاطها وفي أسواقها، بطعم لم تشهده من قبل في حياتها. كان لها محطّتها الثّقافية عند عميد الصّحافة "أبو سلام دعنا" في كشكه التاريخيّ عند باب العمود، ومحطّة إنسانيّة عند البائعة المتجوّلة "أم طه" صاحبة اللسان المعسول. كذلك تجد الكاتبة في النّافورة في سوق أڤتيموس في البلدة القديمة محطة روحانيّة تُحاكيها، وتشكو لها أنينها، بحسب أنَّ هذه الزّاوية التّاريخية تعلم خفايا وأسرار المدينة، فلا غرابة أن تأتي "القدس" قريتها "الرّامة" وتعزّيها بوفاة عمّها الشّاعر "سميح القاسم". إنَّ الأوضاع السّياسيّة تبقى تفرض نفسها على أهل المدينة، وبخاصة المثقّفين، الذين تصدّعت رؤيتهم المستقبليّة وخمدَ لهيب أحلامهم، في وقت لا زالت المدينة تكتم صرختها وتبحث عن فرح رقيق يختزل بعض الحزن في داخلها. أثارت الأديبة بعض المواضيع الحسّاسة وتكلّمت عنها بصراحة وجديّة. كذلك تحدّثت عن جلد الذّات في مدينة القدس وعدم إهتمام سكانها بتاريخها وحضارتها ومصالحها الأثريّة دون نظافة أو عناية، هذا بالإضافة إلى تسيّب الكثيرين من صغار السّن من المدارس من أجل العمل لصعوبة ظروف حياتهم. وصفت لنا الحرب النفسيّة في المدينة عندما تتزيّن على مدار العام لأجل إحتفالات الإحتلال وأعيادهم الكثيرة، ومحاولة إزالة الصبغة القوميّة والتّاريخيّة من أصحابها الأصليين.
حاولت "نسب" أن تبني من الكلمات في يوميّاتها عقدا ماسيّا تزيّن به جِيد المدينة المقدّسة، وتهدي سكانها نفحات من الأمل والصّبر والتّحلي بالعزيمة والقدرات لإيجاد الحياة والفرح. إنَّ عِشقها للمدينة أحدث تغييرا جذريّا في مسار حياتها العلميّة، فبعد اللقب الأول في الصّيدلة، اتجهت لدراسة اللقب الثاني في الدّراسات المقدسيّة. في إعتقادها أنَّ أهل المدينة تسيّطر عليهم نفس مضطربة وغير مستقرّة، بِيْدَ أنَّ العاطفة عند الكاتبة تشتدُّ وتهمد في ذِكر كل ما تراه عيناها؛ حدّثتنا عن الحركة الأدبية والتجاريّة، ووصفت لنا الأجواء الدّينيّة في الأقصى والقيامة، وأيضا رسمت لنا كل الحضارات التي توالت على المدينة، وذكّرتنا بأسماء الأماكن والطّرقات والأسرى والشّهداء، ومسار تسع سنوات من عمرها في زقاق وأسواق البلدة القديمة، وتغرق "نسب" في الدّموع كما السّحب المُثقّلة بالأمطار تروي وسادتها كل ليلة. إنها حفيدة "ملكي صادق" ملك يبوس إن صح لي التعبير، تتوق إلى عرشها الذي سيعود مع تحرير المدينة المقدسّة. هذه الملكة أبقت أسرارها مع أسراب حمائم لا تفارق بوابات المدينة والأسوار. أما في مسقط رأسها حيث تروي ماء الخلاصة تربة مولودها، جدّلت أديبتنا "نسب" لها وريدا نابضا يسير من قريتها "الرّامة" وجبل حيدر، صوب مدينتها الثانيّة " القدس" وجبل المشارف...