افراسيانت - نمر القدومي - من كثرة السّفر والرّحلات، امتلأ قلبه فيضا من الصّور الجميلة والكلمات، ونقل لنا بحواسّه جميعها أسعد اللحظات. لم تغب عن ذهنه وعينيه معلومة إلاّ ودوّنها في دفتر الملاحظات، وقدّمها للقرّاء على طبقٍ من ذهب، كتبتها أيدي مَن يتمتعون ومغرمون بأدب الرّحلات. الأديب المقدسيّ جميل السّلحوت خرج إلينا بجديده في بلاد العمّ سام الصّادر عن مكتبة كل شيء الحيفاويّة للعام 2016 والذي يقع في 164 صفحة من الحجم المتوسط من تصميم ومونتاج شربيل إلياس. إنَّ هذا النّوع من الأدب هو أجمله على الاطلاق، ويُعتبر مرجعا تاريخيّا وجغرافيّا وإجتماعيّا مهمّا، ولأنَّ الكاتب هنا يستقي المعلومات والحقائق من المُشاهدة الحيّة والتّصوير المباشر بالكلام العفويّ والعاطفيّ، الصّادق والشّاعريّ، هذا بالتّالي جعل قراءته غنيّة وممتعة ومسلّية.
لن يتخلّ عن تعلّقه الحميم بأحفاده وأسباطه في إهداء كلّ ما يكتبه هذا الأديب لهم، ويبقى يشدّ الرّحال إلى حيث يتواجدون في هذا العالم الواسع مهما بعدت المسافة، ومهما بلغ شقاء وتعب الجسد لديه. إنّها الرّحلة الخامسة والعشرين من حياته، يجوب بها الأقطار المختلفة، وخاصّة الولايات المتّحدة، حيث الأقارب والأهل والأصدقاء. أمّا مناسبة رحلته الأخيرة فكانت إستقبال الحفيدة المولودة لينا الابنة البكر لابنه الوحيد قيس في شيكاغو الولاية. لقد أمتعنا ابن الجبل بدقة الوصف وقوّة الشّغف لديه، وكذلك حُبّ المعرفة الذي جعل من كتابه حكاية ذات ثلاثة أبعاد، فقد أحسسنا بكلّ كلمة، وتخيّلنا الأماكن بوضوح وجليّة. لم ينسَ أديبنا العامل الانسانيّ في تجواله، بحيث امتلك ذلك الأسلوب الأدبيّ الشّيّق في الكتابة وسرد الأحداث. ولا يزال يذكر أسماء أهل قريته ووطنه، وأسماء من أثّروا في حياته منذ صغره، دلالة منه على قوّة التّرابط والتّعاضد وصلة الرّحم التي يتمتع بها أهل عشيرته من أقحاف العرب.
إنَّ ابن الجبل حذا حذو الرّحالة إبن بطّوطة و آرنست همنچواي، ولا يسع القارئ إلاّ أن يتابع المغامرات وشرحه المُفصّل عن العادات والتّقاليد التي تتحلى بها الشَعوب. استطاع ومن بين السّطور أيضا أن يتجوّل بنا من خلال رحلاته المتعدّدة إلى بلاد العمّ سام، برّا وبحرا وجوّا، بين أجمل وأكبر الولايات. أحسن وصف جبالها ووديانها، بحارها وأنهارها، غاباتها وسواحلها، طيورها وحيواناتها، مطاعمها وطرقاتها، بيوتها وجسورها، ومتاحفها ومسارحها. أمّا شلاّلات نياچارا الخلاّبة الهائلة، فقد أصابنا نصيب من رذاذها. تكوّنت أمريكا من مجموعات من الجنسيّات والأعراق المختلفة، والألوان والأديان واللغات، واستطاعت حكومتها أن تجمعهم تحت طائلة القانون والإنضباط، وأيضا الاحترام والاهتمام لتصبح أقوى دولة تحكم العالم. ممّا يُثير الفضول أنَّ الكاتب حدّثنا وبإسهاب عن نظام التّعليم في المدارس والجامعات، ومدى إهتمام الحكومة بمراقبة الطّلاب منذ صغرهم، ويتمّ توجيههم في دراساتهم المستقبليّة، ناهيك عن المحفّزات التي ينعم بها المتفوّقون في علومهم. إنّها بلدان متطوّرة ومتقدّمة، يتنافسون فيما بينهم على احتلال مساحات شاسعة من الفضاء الخارجيّ، وهناك بلدان ما زالت تقتتل على حفنة من تراب أو عقيدة زائفة.
تكلّم رحّالنا السّلحوت بصراحة كبيرة عن حال المهاجرين والمقيمين العرب في أمريكا، فمنهم مَن ركب مركب العلم وتفوّق وعمل فيها، ومنهم مَن تعلّم أفضل العلوم، وعاد إلى وطنه مُبجّلا، وهناك مَن انخرطوا في الرّذيلة بأنواعها المختلفة، فضاعوا وضاعت أعمارهم وأموالهم على أرصفتها وفي سجونها، ويستشعر القارئ في هذه الرّحلة مدى إحترام الأجانب لأسلوب التّربية التي يتحلى بها أغلبيّة العرب، فالأخلاق تبقى تفرض هيبتها أمام الحضور. وقد كان لابن الجبل نصيب في نقل معاناة الشّعب الفلسطينيّ والمقدسيّ بشكل خاصّ، في محاضرة شرح خلالها حقائق الأمور الحاصلة على الأرض المُحتلّة من هدم وتشريد ومصادرة وتهويد. ويتساءل في داخله هل إستطاع أصحاب الفكر والمليارات والشّهادات من العرب التّأثير على الرّأي العام الأمريكي لصالح القضايا العربيّة؟ ولماذا لا يوجد لوبي عربي فاعل في أمريكا كالموجود لليهود مثلا، مع أنَّ العرب يفوقونهم بالعدد؟ ولا تستغرب إذا ما وجدتَ يوما على جدار منزلك عبارة إرحل من هنا يا خيّال الجَمَل!
إنَّ هذا النّوع من الأدب وللأسف شهد تراجعا كبيرا على مستوى العالم، ويرجع ذلك بدرجة أساسيّة إلى أنَّ الرّحلات أصبحت جاهزة وكاملة وتامّة. فالسَفر مُتاح لجميع النّاس، وبدرجة كبيرة جدًا، ولا يوجد به أي ميّزة من ميّزات الابداع والفنون ، وبالتّالي هذا الأمر أضعف وبشكل كبير هذا النّوع من الأدب، عدا عن أنَّ ثقافة المسافرين ليست غنيّة، فهم يسافرون لتغيير الجوّ والتّسوّق.