افراسيانت - توّج الكاتب الفلسطيني ربعي المدهون بجائزة البوكر العالمية للرواية العربية في دورتها التاسعة هذا العام، عن روايته "مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنكبة"، وقد تم الإعلان عن نتائج الجائزة ضمن فعاليات افتتاح معرض أبوظبي الدولي للكتاب. "العرب" التقت بالكاتب ربعي المدهون فكان لنا معه حديث عن تتويجه وحول روايته الفائزة.
وسط حضور ثقافي وإعلامي كبير شهدت العاصمة الإماراتية أبوظبي، الثلاثاء، حفل إعلان نتائج الجائزة العالمية للرواية العربية ـ البوكر، وقد آلت الجائزة في دورتها التاسعة إلى الروائي الفلسطيني ربعي المدهون عن روايته “مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنكبة”، وهو أول فلسطيني يفوز بالجائزة، التي سبق وأن وصل إلى قائمتها القصيرة في العام 2010 من خلال رواية “السيدة في تل أبيب”، وقد حضر الحفل محمد خليفة المبارك رئيس هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، وسيف سعيد غباش مدير عام هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، وعلي بن تميم الأمين العام لجائزة الشيخ زايد، وأعضاء لجنة تحكيم الجائزة: الكاتبة والناقدة الإماراتية أمينة ذيبان والشاعر المصري سيد محمود والأكاديمي المغربي محمد مشبال والناقد والشاعر اللبناني عبده وازن والمترجم البوسني منير مويتش.
تقع رواية “مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنكبة”، في أربعة أقسام، يمثل كل منها إحدى حركات الكونشرتو، الأسلوب الذي كتبت به الرواية، وحين يصل النص إلى الحركة الرابعة والأخيرة، تبدأ الحكايات الأربع في التوالف والتكامل حول أسئلة النكبة، والهولوكوست، وحق العودة. إنها رواية الفلسطينيين المقيمين في الداخل الذين يعانون من مشكلة الوجود المنفصم، وقد وجدوا أنفسهم يحملون جنسية إسرائيلية فرضت عليهم قسرا، كما أنها رواية الفلسطينيين الذين هاجروا من أرضهم إلى المنفى الكبير، ثم راحوا يحاولون العودة بطرق فردية إلى بلادهم المحتلة.
في حديثه لـ “العرب” إثر إعلان تتويجه بالجائزة، أكد المدهون أن فوزه يعني أن الرواية الفلسطينية التي ازدهرت وقامت على أكتاف ثلاثة من عظماء الأدب، غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا وإميل حبيبي، ثم أمضت شوطا طويلا من الخمول والضعف، استطاعت أن تنهض مجددا في السنوات الأخيرة عبر أسماء جديدة، يقول “خرج الروائيون الذين عاشوا فترة الكفاح المسلح في لبنان وزمن منظمة التحرير الفلسطينية من إطار الأيديولوجيا والسياسة المباشرة، وبدأوا يتجهون إلى العمق الإنساني، ويعرضون القضية الفلسطينية بعمقها وجوهرها الإنساني، ثم تجاوزوا هذا إلى الحداثة وما بعد الحداثة، ومن ثمّ وقفوا على مصاف الرواية العربية، وبدأت أشعر بالفخر لأن الرواية الفلسطينية تتقدم ولدينا أسماء كثيرة مهمة في الواقع الفلسطيني، لقد فشلنا في تحقيق دولة على الأرض فدعونا نحقق دولة من الثقافة والإبداع والفن”.
الكاتب يأخذ من الشتات ثيمة أساسية ويعالج قضايا المنفى والوجود داخل إسرائيل، كما يعالج الحلم الفلسطيني بالعودة.
فلسطينيو الداخل
يرى المدهون أن إشراك دار نشر “مكتبة كل شيء” ومقرها مدينة حيفا، يشكل نافذة على هذه المدينة، ودخولا إلى فلسطينيي الداخل، يضيف “أقول وأكرر إن الداخل الفلسطيني هو الأساس، وفي ما يتعلق بالترشيح لجائزة البوكر، جرى حوار وتوافق مع الناشر صالح عباس، وهو ليس ناشرا بالمعنى المتعارف عليه بل هو صديق، فعندما بدأت العمل في الرواية كان صالح عباس معي كما لو كان يكتب جزءا من الرواية، لقد احتضن العمل وأخذني إلى كل المناطق الفلسطينية، فكان الأمر مؤكدا ومستهدفا بشكل أساسي، حيفا لا بدّ أن ترتبط بعالمها العربي، ينبغي للثقافة الفلسطينية أن تتصل بمحيطها وأن تعزز علاقاتها بمحيطها، وهذا ما كنت أطمح إلى تحقيقه، إنني أثق بأن حيفا قد احتفلت ليلة النتيجة كمدينة عربية بمن بقي من أهلها، وعندما أعود سيكون هناك احتفال ضخم في مستوى مهرجان وسط حيفا”.
يتابع ضيفنا “أتوجه إلى عرب فلسطين 48 مؤكدا أن هؤلاء هم الذين صمدوا وهم الباقون هناك -كما أسماهم أحد أبطال الرواية- ولهم أقول: حيفا التي صنعت هذه الرواية وأعطتني كل القصص، أعطتني المكان والتفاصيل والذاكرة والحكايات، وطافت بي في هذه الرواية كل المدن الفلسطينية، حيفا التي أعادتني إلى مسقط رأسي هي التي تعيش معي فرحة حقيقية بالتتويج، لقد جاءتني المئات من الرسائل على الفيسبوك تقول لي "نريد أن نفرح"، إنني أقول إن المثقفين الفلسطينيين اليوم يبنون دولة عظيمة من الإبداع والفن والثقافة، ليفرح الفلسطينيون هذه الليلة، وهنيئا لهم وهنيئا لحيفا فرحة فوزها بجائزة البوكر واتصالها بعالمها العربي”.
ويوضح المدهون “أنا ككاتب فلسطيني ولدت في المأساة نفسها منذ عام 1948 حتى الآن، وبالتالي لم أعش حياة على أرض وطن، وتنقلت بين العديد من البلدان العربية وبالتالي كنت مسكونا بالمسألة الفلسطينية، ورواية “مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنكبة” هي رواية تتحدث عن الفلسطينيين الذين هاجروا من بلادهم وعاشوا في الخارج وتتحدث عن الفلسطينيين الذين عاشوا في أرضهم وأصبحوا مواطنين تحت حكم دولة إسرائيل. إنها تأخذ من الشتات ثيمة أساسية تعالج قضايا المنفى والوجود داخل إسرائيل، وأيضا تعالج الحلم الفلسطيني بالعودة وإمكانية الإقامة في إسرائيل”.
ربعي المدهون: أشعر بالفخر لأن الرواية الفلسطينية تتقدم، لقد فشلنا في تحقيق دولة على الأرض فدعونا نحقق دولة من الثقافة والإبداع والفن
ويشير الكاتب إلى أنه ليس هناك مجتمع فلسطيني موحد على أرضه، لكي تعالج الرواية مشكلات وقضايا مختلفة كما تعالج في أي مكان آخر، ومن عادته، كما يقول، أن يترك النهاية مفتوحة لاعتبارات أساسية، حيث أن الواقع نفسه لم يجب على أسئلتنا الكبيرة، فمازالت المشكلة مستمرة ومازال الفلسطينيون يناضلون ويقاتلون للحصول على حقوقهم.
يطرح المدهون في الرواية الكثير من الأسئلة بعمقها لكي يشاركه القارئ في البحث عن إجابات لهذه الأسئلة. فقد ظل لأربع سنوات يشتغل على الرواية وفق خطة محددة محكمة، فعندما انتهى من رواية "السيدة من تل أبيب" أصبح طموحه أن يغطي ما بقي من المسألة الفلسطينية، لذا يؤكد أن همه كان أن يعود إلى فلسطينيي 48 الذين هم أساس بقاء الفلسطينيين وصمودهم، والذين سيستكملون المشروع الفلسطيني للوصول إلى مستقبل غير هذا الحاضر الذي نعيشه، فالكاتب يؤمن بأنه لا حل لدولة فلسطينية ولا إمكانية لدولة فلسطينية مستقلة، فلم يتبق من الأراضي الفلسطينية إلا القليل وهو غير صالح، وليس أمامهم سوى مستقبل آخر، ومن قرأ الرواية يستطيع أن يتنبأ ببعض صور هذا المستقبل.
الهولوكوست والنكبة
يتبنى ربعي المدهون رؤية الناقد فيصل دراج بأن الرواية فلسطينية شاملة، ويقول "هي تعيد خلق الحالة الفلسطينية كاملة منذ عام 1948، تعيد خلق المكان والمدن، وهو خلق من أجل أخذ القارئ من زمن النكبة إلى الزمن الحاضر، ليحاكم الزمنين.
ورفض المدهون المقارنة بين المأساتين الفلسطينية والهولوكوست اليهودية، معتبرا أن كل مأساة منفصلة عن الأخرى بمعناها الإنساني، فالمأساة اليهودية هي مأساة منفصلة، في رأيه، بينما المأساة الفلسطينية هي نتيجة المأساة اليهودية بشكل أو بآخر، بمعنى أن الفلسطينيين لسوء حظهم تحمّلوا مأساة اليهود ولا علاقة لهم بها، من قتل اليهود هي النازية الألمانية فما ذنب الفلسطينيين أن يدفعوا الثمن؟
يتابع ضيفنا “المأساة اليهودية مختلفة والمذبحة وقعت في أوروبا وقامت بها النازية، ونحن كفلسطينيين لسنا طرفا لكي ندفع ثمن هذه المذبحة، هذا ما تناقشه الرواية، ولا أناقش أطروحة من كان ضحية أكثر من غيره، أو أقارن الضحايا اليهود بالضحايا الفلسطينيين، بالعكس الضحايا الفلسطينيون هم نتاج الضحايا اليهود، عندما ذهب وليد دهمان إلى متحف «يد فشم» الخاص بذكرى المحرقة، ذهب لكي يشاهد من هناك ضحايا دير ياسين الذين كانت مذبحتهم مفتاح النكبة، ومن بعدها اضطر الكثير من الفلسطينيين بسبب الخوف من المذابح أن يهاجروا فرارا. ليس هناك مقارنة بين الجانبين، بل هناك تحميل مسؤولية للصهيونية، التي حاولت أن تروّج وتبرّر استعمارها لفلسطين بمذبحة الهولوكوست”.
ويرى المدهون أن رواية مصائر دخلت إلى مناطق لم تدخلها الرواية الفلسطينية من قبل، فهذه أول مرة تناقش رواية مسألة العلاقة بين الهولوكوست والنكبة الفلسطينية، ومن جانب آخر فإن أحداثها تدور في خمس مدن فلسطينية، كذلك لأول مرة تطرح جوهر مشكلة فلسطينيي 1948، الذين يسمون الآن عرب 48 أو من يحملون الجنسية الإسرائيلية، هؤلاء الذين ظلموا لمدة أربعين عاما، وكان العرب يعتبرونهم “عايشين مع اليهود”، هؤلاء الذين بقوا في وطنهم، يعيد الكاتب الاحترام لهؤلاء الناس، ويعيد لهم مجدهم، لأنهم هم الأصحّ، فهم الذين بقوا في وطنهم ولم يغادروا، فلم يعترف بهم العرب إلا بعد أربعين عاما، ويتهمونهم أيضا بالتعايش مع اليهود، وهذا جديد في الرواية الفلسطينية، ولأول مرة يتم تداوله بهذا الشكل الذي يردّ الاعتبار لهؤلاء، لذلك كان المدهون حريصا على أن يتمّ ترشيح الرواية لجائزة البوكر من مدينة حيفا التي تقع فيها دار نشر “مكتبة كل شيء”، بإدارة صديقه صالح عباسي، كما يعتبر الكاتب أن هذه أول مرة تصل حيفا الفلسطينية العربية إلى القائمة القصيرة للبوكر ثم تحصل عليها، لتمدّ جسرا من التواصل الثقافي والإنساني بين الفلسطينيين في الداخل وبين الفلسطينيين في الخارج وبقية إخوانهم العرب.
الرواية تعيد خلق الحالة الفلسطينية كاملة منذ عام 1948 من أجل أخذ القارئ من زمن النكبة إلى الزمن الحاضر ليحاكم الزمنين
وحول الفكرة الأساسية التي انطلقت منها الرواية، يقول المدهون “الفكرة نشأت من حكاية لقريب لي اسمه إسماعيل المدهون، هذا الرجل كان متزوجا ولديه ابنة عمرها شهران فقط عندما وقعت النكبة، واضطر إلى أن يغادر إلى غزة مع بعض أهالي مدينة المجدل غسلان، لكنه رفض الاستمرار كلاجئ فتسلل وعاد من جديد إلى مدينته، وعندما أغلقت الحدود بقيت زوجته وابنته، عندها خسر زوجته وابنته ثم تحول إلى مواطن إسرائيلي، تابعت قصة هذا الرجل كيف عاش كمواطن إسرائيلي، وما هي الأهوال والمصائب التي واجهها، وكيف يعيش الفلسطيني في إسرائيل منذ ذلك الوقت. لقد قدمت عرضا شاملا لحكاية هذا الرجل الذي يبدو قريبا جدا أو نسخة أخرى من "متشائل" إميل حبيبي، المتشائل عاش في فترة الحكم العسكري الإسرائيلي، لكن إسماعيل المدهون يعيش في فترة لاحقة وأصبح هناك شيء من الحياة الطبيعية -بين قوسين إذا شئت- بين الإسرائيليين والفلسطينيين، فكيف عاش الأهوال والمصائب.
كانت تلك البداية التي انتقلت إلى قصص وحكايات أخرى هي الأربع حكايات التي تتعرض لها الرواية”.
يقول ربعي المدهون عن إبعاده سنة 1970 عن مصر قبل تخرجه “كنت شابا صغيرا، وكل ما في الأمر أنني انتميت إلى تنظيم يساري فلسطيني، حيث كانت حركة المقاومة حركة نشطة وجاذبة، وكان اليسار وقتئذ متطورا وجاذبا لكل الشباب، أنا انتميت إلى اليسار، لكن الغريب أنني انتميت لمدة شهر تقريبا ولم أحضر إلا اجتماعا واحدا للجبهة الديمقراطية بالإسكندرية، وفي الأثناء حصل أن ويليم روجرز وزير الخارجية الأميركية قدم مبادرة لحل الصراع العربي الإسرائيلي وتصفية نتائج حرب 1967، فوافق الرئيس عبدالناصر على المبادرة، لكن الفلسطينيين رفضوا، وقامت المنظمات والجبهات الفلسطينية بمظاهرات في عمان وأساءت إلى حدّ ما للرئيس عبدالناصر، فلم يستطع تحمل الأمر فكانت النتيجة ترحيل 70 طالبا فلسطينيا ينتمون إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية، ففوجئت أنني خلال شهر واحد من الانتماء إلى الجبهة أصبح بلا دراسة أو مكان للعيش، وتم ترحيلي إلى دمشق ثمّ إلى عمان حيث تلقيت تدريبا عسكريا وهناك تورطت في حرب أيلول 1970، ثم خرجت من عمان إلى دمشق ومنها إلى بغداد ثم العودة إلى دمشق، وقد حبست وعذبت مرتين في دمشق، ومنها إلى بيروت، ومن بيروت إلى موسكو، ومن موسكو إلى قبرص حيث عشت 12 عاما، ثم انتهيت لاجئا مرة أخرى في بريطانيا، والآن أحمل الجنسية البريطانية، وأعيش بشكل جيد”.
بالتزامن مع العرب اون لاين