افراسيانت - نمر القدومي - لطالما كان الموت قريبا، لكنني لم أترك له فرصة ليلمسني، وتركت نفسي كنهر يخاف أن يغفو، فتُغيّر الأرض مجراه، أو كشجرة ارتعبت أن تُصنع منها يدُ الفأس التي تموت بها أختها. لعلَّ مساري الأزليّ قادني إلى حياة ليست لي، فلم تنسجم أقداري مع القلب المفتون بالجمال وحب الأرض والحريّة. إن الكاتب "أمين دراوشة" في كتابه "الأنا والآخر في الرّواية الفلسطينيّة"، الصادر عام 2016 والذي يقع في 138 صفحة من الحجم المتوسط، تكلّم بلسان حالنا حين غنّينا وأحببنا وعانينا، وصرخ بكلماته الحارقة لأجسادنا، حتى لو لم تسمعها إلاّ الرّيح المُحمّلة برائحة أشجار البرتقال. وهذه أصابع شعب كتب على الجبين وعوده الأزليّة، ودفن تحت أغصان الزّيتون أسراره الأبديّة، لكنه أضاع طريق بيته وعبثوا له بالبوصلة.
الكاتب "دراوشة" وصل إلى دهشة حقيقيّة تستحق كل أفكار حياة "الأنا" وميزاتها، فكانت بمثابة رعشة التجربة الصّعبة في دمه، تارة يخاف الطرف "الآخر"، وتارة أخرى تفوته لذّة الخوف منه. سمح لروحه أن تعلن رفضها، أن تتبع شوقها، وتتّخذ طريقها الذي اختارته، دون أن يمنعها حنين أو تردّد. يخلق الفلسطينيّ لنفسه في الرّواية القوّة، الجرأة، العنفوان والشّجاعة، وكذلك التمرّد الثّوري الذي يأتي كلّه من جحيمه الدّاخليّ الغافي في أعماقه منذ عشرات السّنين. كما وجدنا أنَّ الكاتب في مقدّمة كتابه تعمّق في مفهوم "الأنا" ومفهوم "الآخر" إستنادا إلى ما يُفسّره علم النّفس الإجتماعيّ وسلوك الأفراد. أخذ يُشرّح الرّواية الفلسطينيّة بين صاحب حق وبين دخيل مُحتل، كلٌّ له نظرته العلويّة تجاه الآخر، وكلٌّ يدافع عن نفسه بأسلحته المشروعة والمبرّرة. تناول عدد من الرّوايات بالقراءة العميقة، والنّظر إلى الشّخصيات والأحداث والأماكن من زوايا مختلفة؛
١- البحث عن وليد مسعود / جبرا إبراهيم جبرا.
٢- الوجوه / وليد أبو بكر.
٣- سيرة العقرب الذي يتصبب عرقا / أكرم مسلم .
٤-مرايا إبليس / منى الشرافي تيم .
٥- حياة ممكنة / إسراء عيسى .
قد يُسرف الكاتب في التضمين والتوثيق وإقتباس مبادئ المفكرين النفسانيين، وسكب الكثير من كلماتهم وأفكارهم في محتويات كتابه، فكان هناك حوالي (٣٠) مرجعًا دعّم بها "دراوشة" نفسه ونظريته. القارئ هنا يلاحظ تراكم الجمل المتكرّرة في المقدّمة التي تتكلّم عن مفاهيم الذات والآخر في علم النفس، وكذلك يلاحظ تكرار الفقرات والقصص وأحداث الرّوايات أثناء تحليلها.
كتب الأديب "إنَّ مجتمعا قويا وذا قناعة وطنيّة صلبة، وحرا وديمقراطيا، ويفرد مساحة شاسعة للتعدّد، ويسمح بالتعبير عنه دون خوف، وينطلق من مبدأ الإعتراف بشرعيّة الآخر .. حتى وإن كان عدوّا حقيقيّا لا وهميّا" وهذا بالتالي بتناقض مع مبدأ وأخلاقيات المواطن الفلسطينيّ المُنتمي "الأنا"، ونظرته إلى "الآخر" الذين علقوا في أبديّة يائسة يتخبّطون وينتظرون نهايتهم. نحن الفلسطينيين قضينا السّنين كلّها بحثا عن تلك الحلول الشّرعيّة، ونادينا أنقذونا بكل لغات العالم. كتبنا بمشاعرنا وعواطفنا "نحن" الرّوايات المعبّرة بجميع أطيافها، لتعكس مرارة العيش وقساوته في ظلّ "الآخر" الظّالم، الذين جرحونا في أجسادنا وأرواحنا.