افراسيانت - سامر الياس - ناقصا وغير كاف جاء اعتذار رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير عن جوانب معينة في غزو العراق في العام 2003.
فتصريحات بلير تأكيد للمؤكد بعد ما تم كشفه في "دزينة" كاملة من سنوات عجاف عاشها العراق والمنطقة نتيجة تبعية بلير العمياء لسيد البيت الأبيض حين ذاك جورج بوش الابن.
واعتذار بلير غير ذي نفع إذا لم يقترن بتشكيل محاكمة دولية لمجرمين خاضوا حروبا أسفرت عن قتل الملايين وتمت مكافأتهم بعدها، بدلا من أن يزجوا في السجون.
وكرر بلير ما سبق وقاله كولن باول وزير الخارجية الأمريكي الأسبق عن أن المعلومات التي بنيت عليها الحرب ضد العراق كانت خاطئة. وأضاف أنه يعتذر عن "بعض الأخطاء في التخطيط، وبالتأكيد عن خطئنا في فهم ما سيحدث بمجرد الإطاحة بالنظام".
ولكنه، ورغم إدراكه للخطأ، كرر ضمنيا أنه من حق الدول العظمى الاطاحة بمن لا يروق لها، معربا عن اعتقاده بأن عدم وجود صدام افضل، بالرغم من إقراره بأن هناك "شيئا من الحقيقة " في القول إن غزو العراق بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا أدى إلى ظهور عناصر تنظيم "داعش" في سوريا والعراق. تصريحات بلير لمحطة تلفزيون أمريكية تأتي مع اقتراب نشر تحقيق طال انتظاره حول الحرب في العراق.
من غير المرجح أن تكون تصريحات بلير صحوة ضمير متأخرة، فالمحامي اللامع، وأصغر رئيس وزراء دخل دونيغ ستريت - 10 منذ بداية القرن التاسع عشر، كان يستلم تقارير منتظمة من دوائر الاستخبارات البريطانية، وساهم في شكل فعال في تشجيع بوش الإبن في مخططاته التدميرية للإطاحة بصدام حسين، متحديا زعماء أوروبا والعالم، ومتجاهلا أصوات الملايين ممن خرجوا للتظاهر ضد الحرب في لندن وبرلين ومدريد وباريس.
ومع عودة جثامين الجنود البريطانيين بنعوش، واشتداد الحرب وغوص العراق "العلماني" في حروب طائفية مستجدة على بلاد الرافدين، وغوص بلير في السياسة الخارجية على حساب القضايا الداخلية، بدأ يخفت نجم السياسي اللامع، واضطر إلى تقديم استقالته من حزب العمال ورئاسة الوزراء في أواخر مايو/ أيار 2007.
ولا يعفي اعتذار بلير الأخير واعترافه ببعض الأخطاء عن المسؤولية في سقوط نحو مليون عراقي في فترة الاحتلال، وملايين الجرحى والأيتام، واشعال الحروب الطائفية، وانتشار القتل على الهوية، إضافة إلى رسم هيئة حكم تكرس الانقسام والاقتتال بين مكونات الشعب العراقي، وتدمير البنية التحتية للبلاد، وغوص البلاد في مستنقع لم تخرج منه حتى الآن.
وبعيدا عن العراق فإن بلير يتحمل مسؤولية مباشرة عما حدث في أفغانستان عندما وافق "سادة" البيت الأبيض على توجيه ضربات ضد القاعدة وطالبان من دون تفويض دولي، ما جلب الويلات والمآسي، وشرد الملايين ودمر أفغانستان، ونشر الإرهاب في أماكن متفرقة من العالم.
اللافت أن المحامي السابق صاغ اعتذاره للإفلات من أي إمكانية لملاحقات قانونية، لكن نتائج تبعيته لبوش الابن كانت واضحة عندما تولى بلير في يوم استقالته مهمة مندوب اللجنة الرباعية الدولية للسلام في الشرق الأوسط، وقضى ثمانية أعوام من دون تحقيق أي تقدم يذكر في عملية التسوية بين الفلسطينيين والاسرائيليين، وصمت عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي واعتداءاته المتكررة على قطاع غزة، وهو بمثابة تواطؤ حقيقي، ليستقيل منذ أشهر بعدما جمع مبالغ طائلة من وظيفته، واستغلال علاقاته في جمع الملايين، حسب الصحافة البريطانية، تحت مسمى تقديم استشارات وتطوير أعمال شركات في آسيا وافريقيا وأوروبا.
وذكرت صحيفة ديلي ميل أن "بلير تحول إلى آلة لعد النقود، فلم يعد بلير يفعل شيئا سوى صنع المال، أيّاً كان مصدره وطريقته، فجمع ثروة تقترب من 80 مليون إسترليني، إلى جانب ثروة عقارية قيمتها تتجاوز 25 مليون إسترليني".
ونال بلير جزءا من جزائه بإنهاء حياته السياسية وإجباره على الاستقالة جراء تبعيته لبوش الابن وتحويله بريطانيا العظمى في فترة حكمه إلى تابع صغير لسياسات الولايات المتحدة، لكن احقاق الحق يتطلب تشكيل محكمة دولية لبلير وبوش المسؤولين عن تدمير العراق، وقتل مئات الألاف من أبنائه، وجلب القاعدة ولاحقا تنظيم "داعش"، وإغراق المنطقة في حروب طائفية تزداد حدتها وترسم مستقبلا قاتما لكل بلدان الإقليم.
ولا تعد محاكمة بلير وقبله بوش الإبن ترفا، أو محاولة لتثبيت صحة واقعة تاريخية، بل رادعا لمن يسعى إلى بث الإرهاب، عن قصد أو بسوء تقدير، ومن يقدم على شنّ حروب استباقية ظاهرها محاربة طغاة ودكتاتوريين وبثّ الديمقراطية، وباطنها نشر الفوضى والدمار وسرقة ثروات البلدان وتدمير مقدراتها.