افراسيانت - زياد شليوط - صبرا وشاتيلا علمان جديدان من أعلام المسيرة الفلسطينية.. صبرا وشاتيلا حلقة جديدة في مسلسل العذاب الفلسطيني.. مسلسل ما ابتدأ بدير ياسين، وما ضمّ فقط كفرقاسم وعمان وتل الزعتر وعين الحلوة وما انتهى بصبرا وشاتيلا.
ذبحوا أهلك صبرا، ذبحوا أطفالك شاتيلا.. بدم بارد، بروح بربرية عالية، وبعدما أنجزوا مهمتهم "الحضارية"، جلسوا يتناقشون، من تراه يكون القاتل! أنت نفذت العملية.. لا بل كانت هذه ملابسك.. نحن لم نر ولم نسمع ولم نعرف.. أنتم وقفتم على مداخل المخيم.. نحن لم نضغط على الزناد.. أنتم سمحتم للقتلة بالدخول.. هل نسيتم أن قلوبكم مليئة بالكراهية تجاههم.. وهكذا يريدوننا أن ننسى المجزرة ونتابع حوارهم الفارغ.. والقاتل يمتع غريزته البدائية بمرأى الجثث.. والبعض يتساءل: من قتل؟ من نفّذ؟ من أطلق الرصاص؟ القاتل معروف .. المجرم حر طليق، قريب منا، بيننا، هذا الطاغوت هو المسؤول، فلا يهم اليد – يد من تكون، لكن ما يهم هو الارادة- إرادة من تكون!!
إنّ من قام باغتيال الضمير والفكر والحضارة، هل سيكون صعبا عليه اغتيال النساء والشيوخ والأطفال؟ من يسرق الوثائق العلمية والأبحاث الفكرية والدراسات الثقافية من مركز الأبحاث الفلسطينية في بيروت، هل سيتورع عن سرقة أرواح الأبرياء من مخيمات اللاجئين في بيروت؟!
صبرا وشاتيلا اسمان يحفران في قلوبنا جيلا في أعقاب جيل.. صبرا وشاتيلا واشهدي أيتها الأمم وعدّي قتيلا وقتيلا وقتيلا.. أمي الشهيدة أمام البيت ومنديلها على رأسها يلوح.. جدي الشيخ وعكازته بجانبه لم تنكسر.. أبنائي الأطفال وابتساماتهم على وجوههم مشرقة بالأمل.. رضيع على صدر أمه جفّ دمه والحليب ما جفّ.. نبع العطاء ما زال ينبض بالروح والارادة.. في كل ركن والدة وأخت، وفي كل زاوية جدّ وبنت.. والصور تجول في العالم مؤنبة.. والسيد في البيت "الأسود" يلحس عن شفتيه بقع الدم القانية.. أكوام من الجثث.. عشرات.. مئات الضحايا.. ضحايا حضارة القرن العشرين، ضحايا قلعة التطور والتمدن.. ضحايا المدافعين عن حقوق الانسان.. ويقولون ما سمعنا، ما رأينا، ما شعرنا.. أبرياء يا لهم من أبرياء.. ونحن، نحن المذنبون.. نحن الجناة!!
ما جئنا الليلة كي نبكي ونولول ونلطم الخدود، ما جئنا الليلة كي نرثي ونتحسر ونستسلم لليأس. بل جئنا كي نؤكد ونجدد، نؤكد بأننا لن نغفر ولن ننسى، ونجدد العهد على مواصلة المشوار، فمشوارنا ما انتهى، ومشوارنا ما كان نزهة أو نزوة، فالمسيرة طويلة وشاقة.
قبل شهر توحدنا في مسيرة الحداد والاستنكار، ولأن الضحايا اخوتنا وأهلنا وأبناؤنا كان حزننا طبيعيا ومشروعا وغير مفتعل.. ولأن الضحايا من الأبرياء فحزننا كان عادلا وصادقا.. ولأن المجزرة كانت رهيبة ووحشية، كان حزننا ممزوجا بالغضب والقوة والمرارة، ولأن المأساة عظيمة كان حزننا ساخطا وعظيما.. ومثلما توحدنا ونتوحد اليوم، يجب أن نتابع هذه الوحدة في الغد أيضا، فوحدتنا ليست مسألة آنية، ووحدتنا ليست مسألة مزاجية تقليدية، نتبعها اليوم ونقلع عنها في الغد. فوحدتنا وحدة حياة وموت، وحدة مصير واحد.
ومثلما وحدتنا دموع الحزن والأسى بالأمس، لا بد أن توحدنا غدا دموع الفرح والابتهاج، غدا عندما نعايش تحقيق الحلم، تحقيق أماني شهدائنا الذين سقطوا والأمل يعمر صدورهم، الذين سقطوا وما سقطت إرادتهم.. يا شاتيلا ويا صبرا لن يقوى عليكما كلاب الدهر.. شاتيلا وصبرا سنخرج من المحنة لهبا وجمرا.
دماء كثيرة نزفت.. ضحايا عديدة سقطت.. تضحيات كبيرة قدمت.. وما زال ينتظرنا المزيد، فلنكن على استعداد دائم.. كما أن عملنا ما انتهى بانتهاء المسيرة، كذلك لن ينتهي بانتهاء المهرجان.. فالارادة فولاذية.. والصبر أسطوري، والآمال عريضة.. وهذا الليل الطويل والكابوس الثقيل لن يهبط عزائمنا، وسنهتف مع جبران بأن هذه الظلمة فجر لم يولد بعد.. فغدا عند الفجر ستشرق شمس التحرر، شمس الشعوب.. وسيرفرف منديل أمي الشهيدة خفاقا، ولن يقوى أحد على اغتياله.. ولن يكون لنا أي بديل سوى ذلك البديل.
(شفاعمرو – الجليل / هذه الكلمة ألقاها الكاتب في مهرجان يوم الأربعين لمجزرة صبرا وشاتيلا، باسم رابطة الطلاب الجامعيين، الذي نظمته اللجنة الشعبية يوم الجمعة 22/10/1982 في قاعة بلدية شفاعمرو)