المقطع الأول:
افراسيانت - سامي الأخرس - إن الظاهر من جملة الأحداث السياسية والمجتمعية فيقطاع غزة يُدرك أن الأمور تَعدت منطق رؤية الحصار، وفرض الحصار على غزة حيث إن تجليات الحصار لَم تعد بالمفهوم الأساسي قائمة، وإن كانت بعض ظواهره تتضح في نمطية الحياة اليومية للمواطن الغزي الذي لَم يعد يجد مبررًا منطقيًا للشرنقة التي تقيد عنقه، وتخنق حرياته، ونمط معيشته المآساوي.
غزة هي البقعة الجغرافية الصغيرة التي تربض في حضن البحر الأبيض المتسط غربًا، وتغفو على صدر صحراء النقب شرقًا، وتلهث خلف سراب صحراء سيناء جنوبًا، أما شمالًا فقد اصابها العمى ولم تعد ترى سوى اسراب من الموت تأتي جماعا وفرادى، سرب يقصف وآخر يخنق ويحاصر، وثالثًا يتلازم بوأد كل آمال الحاة، وإن كان هناك عوامل مشتركة بين المتجهات الأوربة في التضحية بالجنين في رحم الأم والأم معًا.
هذه الصغيرة الجريحة أصبح عمر مآساتها من عمر النكسة، زدد عليه ما أصابها من ملامح الشيخوخة في عهد الإنقسام الذي بلغ من الآنين ثمانية أعوام، جراح بعمق وطن جريح، شباب ضائع لا مستقبل أو آفاق مستقبل يُصارع، ويكابد لأجل أن يبقى حيًا، في أيقونة من الإحباط، واليأس، والماحقة لحرياته ومعتقداته، بين سنديان اللامستقبل ومطرقة الأفكار الأكثر خطرًا، المغلفة بالتطرف المفترس سواء المغلف بالدين أو الإتجاه الآخر الانحراف، وبالمفهوم الاجتماعي كلاهما ( انحراف) إن فقدا جادة الصواب. وفقر يحيط بكل فئات وشرائح المجتمع بما فيهم الموظفين مع إستثناء موظفي وكالة الغوث الذين لم تلاحق رواتبهم، أو تسجى تحت مبضع الاستئصال، حيث إن موظفي غزة سجناء منذ أشهر لقوانين استثنائية سواء من رام الله التي تلاحقهم بين الفينة والأخرى بقوانين احترافية، وتُضيق الخناق على رواتبهم وقوت أطفالهم للخروج من خناقها المالي، أما المحسوبين على حكومة غزة فهم أسرى النسبة التي لا تسد رمق ولا تروي ظمأ.
يوميًا بالخدمات مثل الكهرباء، والصحة، والعمل، والوظائف، والسعار، والمساعدات، وإعادة الإعمار، والمعابر، والتعليم وما عليه سوى الاحتساب والاستغفار، ولكن يَحتسب مَنْ ومَنْ؟
المقطع الثّاني:
في ظلّ هذه الحالة المجتمعية التي تحتاج لأضعاف صبر أيوب تطحن الحالة اسياسية المواطن الغزي حيث أصبح مصاب بالريبة والشك ممّا يدور حوله، وتغلغلت هواجس ضياع قضيته وتضحياته أعماق تفكيره وتحليله، ورؤيته. فلم يعد هناك أي آمال يمكن أن تستوحيها من المواطن الغزي عامل كان، أو مثقف أو طالب لمستقبل قضيته. وتقف عاجز عن اقناعه أو مجادلته في المستقبل، بل تقف عاجز حائر أمام إصراره وعناده، وقنوطه، ويأسه وهو يرى، ويسمع بأم عينه ما يحدث من قادته، وفصائله، وأحزابه، حتى من مقاومته التي عزلت نفسها عن هموم المواطن ولا دور لها سوى عندما يتطلب الأمر الصبر والتضحية من المواطن، وهي قضية تحتاج وتتطلب لمراجعة من قوى وقادة القاومة على وجه التحديد. فمفهوم المقاومة لاي يمكن أن يرتكز على التضيحة فقط وقت الحاجة للمواطن، الذي قدم كل شيء مقابل لا شيء، حيث إنه وفي الحروب الثلاثة وما قبلها على مدار النضال الفلسطيني يضحي بالكثير ولا يقابله على المستوى الإجتماعي أو الوطني أي شيء يمكن أن يمنح المواطن دافعية للاستمرار والتواصل،بل تصب كل مكتسبات التضيحة في خزائن منظمات المجتمع المدني، والفصائل، والمتنفذين، وتحول المواطن لوقود يحترق لأجل رفاهية وجيوب وأرصدة البعض.
هذا كله في ضوء اشتداد الأزمة السياسية الداخلية التي أصبحت أشبه بمسرحية هزلية بطلاها غزة والضفة وومثلي الكومبارس ( الشعب) الذي عليه أن يصمت، ويقول حسبي الله ونعم الوكيل. فالطرفان من خلال فعلهما لا يضعا المواطن الفلسطيني في اي حسبان، بل إنهم ابتعدا كثيرًا في استهمال واستغفال المواطن والشعب، ويتحدثان في صلب حقوقه الوطنية ويقرران فيها دون أي اعتبار، وكأنهم يتصرفا في أرض وشعب مطوب كملكية باسمهما، ويمارسا الرذيلة الأمنية والسياسية ضد كل من يطالب بحقوقه الوطنية وليس الشخصية. ممّا عمق من إحساس المواطن الفلسطيني بأنه اداة مفعول بها فقط، وليس أداة فعل، وأن صندوق الانتخابات في الثقافة العربية عامة والفلسطينية خاصة أداة تنصيب ديكتاتوريات بثياب ديمقراطية.
عليه فإن الحالة السياسية هي الأزمة العميقة التي انتزعت كل مسميات ومعاني الإنتماء من المواطن المطحون بحقوقه الاجتماعية والحياتية، وأصبح يبحث عن الخلاص بشتى الوسائل وهو المبتغى لقوى الفعل السياسي الحالية.
المقطع الثالث:
المستقبل الوطني أصبح تصوره من خلال المقطعين السابقين ( الاجتماعي والسياسي) مع إضافة عوامل الأقلمة والدولنة اللتان تؤثران بشكل مباشر في الحالة الفلسطينية العامة، حيث إن هذين العاملين ليسا بأحسن حال من الأحوال الداخلية ويلقيان بظلالهما على الواقعية الداخلية من خلال( شكرًا قطر، شكرًا تركيا، شكرًا الإمارات، شكرًا السعودية، شكرًا إيران) وقائمة التشكرات الطويلة في قوائم الفعل الفلسطيني المستولد من تشكرات تعكس الأزمة العامة والتبعية للنظام السياسي الفلسطيني بكل أطرافه ومكوناته الإقليمية والدولية معا، فلا شكر بدون ثمن، ولا ثمن بدون شكر، متلازمتين لا يمكن حل وفصل عناصرهما المركبة، وهي التعبير الأدق عن حجم التبعية التي حولتنا لقوة مقاتلة ذيلية تتحرك وفق ( الشكر) القادم، وخاصة أن من يُشكروا، هذه القائمة ( قائمة التشكرات) من مراجعتها وتحليلاتها تستوضح تناقض بين قواها، فتركيا عدو مرحلي لإيران، وقطر عدو مرحلي لمصر، والإمارات عدو مرحلي لحماس، وحماس عدو مرحلي لسوريا، وسوريا عدو مرحلي لقطر وتركيا والإمارات، مجموعة عوامل عدائية متناقضة أنتجت نقاط تلاقي موجعة في ضمير المواطن الغزي، دفعته للهروب إلى البحر، أو الإنتحار ، أو ارتكاب جريمة للخلاص من خيرات التشكرات التي يدفع ثمنها وطنيًا.
المقطع الرابع:
عام مر على آخر حرب مدمرة شنتها دولة الكيان الصهيني ضد غزة الرابضة في هضبة الألم تنتظر مصيرها أو إكرامها بدفنها، فإكرام الميت دفنه، هذا الكيان الذي يُدرك أن حربه ليس مع حماس أو قوى يتهمها بالإرهاب بل حربه مع بقعة متمردة، لم تيأس أو تقنط رغم كل ما مارسه من سياسات وتآمر وحصار، فلم ترفع الراية لأنها لا تكابر بل هذه هي جينات غزة المتمردة، والعض على جراحها مهما بلغت قسوة الآلم، وعمق الجرح لذلك فهو يحاول إوجاع ما تبقى من أعضاء الجسد الغزاوي الصابر، الصامد ليمرر أهدافه، ومخططاته بعيدة المدى، وتمهيد الأرض لمشاريعه القادمة وسط أرض خصبة تنبت بها بذور المؤامرة.
وعليه فإن العدو هو القوة الوحيدة المستفيدة من هذه الحالة الشاملة، وهو العدو الذي لا زال متربصًا بكل ما هو فلسطيني، مع استدراك أن تحطيم القضية من تحطيم الإنسان، وتحطيم الإنسان من تحطيم القضية والإنتماء. ولذلك يُدرك أهمية التحالفات المساندة والمساعدة الأخرى التي تساهم بفاعلية في تنفيذ مخططاته وأهدافه بعيدة المرامي.
إذن فالأربعة مقاطع سالفة الذكر هي مقاطع متقاطعة بحلقات متصلة هدفها الأساسي الحقوق الوطنية للمواطن الفلسطيني المشبع باليأس، والإحباط، والقنوط والذي لم يعد في جعبته ما يمكن أن يقدمه قربانًا للصمود بعدما انهك اجتماعيًا، ووطنيًا، وإنسانيًا.
د. سامي محمد الأخرس
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.