افراسيانت - هل يصمد تفاهم وقف إطلاق النار في لبنان؟ من انتصر ومن هُزم؟ وكيف سيكون لبنان في المرحلة المقبلة؟ وما علاقة الهجوم على حلب بالصورة الكبرى في المنطقة؟ كما في الصراع الأكبر؟ وكيف تلاعب المحللون بالجمهور؟
من ينظر إلى خلف الأخبار المباشرة والأحداث، يرَ تحولاتٍ تاريخية تحدث أمام عينيه. المنطقة في زلزالٍ منذ السابع من أكتوبر 2023.
اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان يمثل نقطة توازن بين مجموعة من المعطيات:
- وصول الحرب الإسرائيلية إلى ذورة توحشها، وبدء المقاومة تصعيد ضرباتها الميدانية الدقيقة بصورةٍ أكثر فعّالية من الأسابيع والأشهر السابقة، وخصوصاً ضربات محددة (من قيساريا إلى يوم المسيّرات والصواريخ الـ450 قبل وقف النار بأيام قليلة).
- فشل حقيقي في الدخول البري في الأسابيع الأولى، وتبلور فكرة مفادها أن الإصرار على الدخول حتى الليطاني سيكلف مجزرة في الجيش الإسرائيلي، مع مدى زمني طويل فيه أحداث مرتقبة مليئة بالمخاطر المؤكدة.
- تعقّد حسابات نتنياهو الداخلية، مع محاولته منذ ليلة الخامس من نوفمبر (إقالة غالانت)، تجميع أوراق اللَّعِب كلها في يده، واحتكاره المنجزات الأمنية التي تحققت في اغتيال السيد حسن نصر الله وعملية "البيجر" واغتيال القادة، وأن كل ذلك حققه على رغم معارضة واشنطن والمسؤولين العسكريين والأمنيين في "إسرائيل". انقلبت الصورة في الداخل مع بدء العدوان البري على لبنان، بحيث بدأت جثث الجنود والدبابات تتراكم فوق رأسه. لقد تحول ذلك إلى حرب سياسية - أمنية في الداخل تنذر بالتفلت.
- صدور مذكرة اعتقال نتنياهو وغالانت عن المحكمة الجنائية الدولية، وهذه ليست تفصيلاً عادياً في المشهد. إنها نقطة الانهيار في مشروع نتنياهو السياسي، ولها ما لها من آثارٍ مستقبلية على الكيان، وخصوصاً، وهذا هو الأهم، أنها كانت إشارة من مجتمع الإدارة المظلمة المتجذرة في واشنطن وفي عواصم أخرى، وهي فوق الدول والتغيرات، مفادهاأن نتنياهو ليس صانع اللعبة، بل إن دوره محدود بحكم موقعه رئيساً لحكومة قطعة أساسية من أدوات حكم العالم، وليس حاكماً بذاته. وموقفهم بمعنى آخر: أن المهم هو "إسرائيل" وليس نتنياهو.
- إطلاق الديموقراطيين والدولة العميقة في أميركا الحرب المضادة ضد مشروع ترامب، بعد فوز الأخير الساحق بالانتخابات الرئاسية، وبدء تشكيل إدارته من صقور المواجهة مع المنظومة الحالية. هكذا أدى احتدام المواجهة بين الجانبين إلى إصرارهما معاً على وقف الحرب في لبنان. فكيف التقت حسابات الإدارتين الأميركيتين الحالية والمقبلة على وقف الحرب؟
- الديموقراطيون - من جهتهم - لأنهم يريدون وقف الحرب منذ شباط/فبراير الماضي، والتفرغ لتشكيل حل يعتقدون أنه أكثر استدامة في المنطقة ويفيد إسرائيل في المدى الطويل، وهم ينظرون إلى نتنياهو كلاعبٍ مُعادٍ في الانتخابات الأميركية وأنه ساهم في خسارتهم. وترامب - من جهته - لأنه يريد بدء ولايته من دون حروبٍ مفروضة وجانبية تلهيه عن الضرورات المُلحة: القضاء على الدولة العميقة وتشكيل منظومته البديلة وخوض معركة الاقتصاد الأميركي، مواجهة الصين وحصارها اقتصادياً، وإيقاف حرب أوكرانيا…
- لعب بايدن ومَن وراءه ورقة تقييد إدارة ترامب في أوكرانيا. هؤلاء يريدون استمرار الحرب هناك، وإغراق صاحب المنظومة الجديدة (التي يتطلع إليها) في حرب المنظومة القديمة، وهذا التقييد سيؤدي، بحسب نظرتهم، إلى منعه من إيقاف الحرب، التي ستكون وصلت إلى نقطة اللاعودة، وبالتالي سيتبنى مرغَماً سياسةً خارجية حيال روسيا قريبةً من سياسة بايدن، وتخدم تالياً مجمع التصنيع العسكري والدولة العميقة وتشعبات مصالحهما. لكن، كيف فعل بايدن ذلك؟
- سمح بايدن (ومعه دول أوروبية) لأوكرانيا بضرب العمق الروسي بصواريخ بعيدة المدى، الأمر الذي دفع روسيا إلى بدء تنفيذ العقيدة النووية الجديدة عبر وسائلها العملية، لكن من دون شحناتٍ نووية، وكشفت عن صاروخ "آرييشنيك" المرعب. هكذا دفع هذا التطور نحو ضرورة جديدة: تسريع فوري لوقف النار في الشرق الأوسط ومحاصَرة تمدد الصراع، والبحث عن زاوية أخرى للضغط على الخصوم وتحقيق الأهداف الأميركية، وهذا ما سوف ننتقل إليه بعد قليل في الحديث عن الهجوم في اتجاه حلب، بعد أن نستكمل عرض عوامل وقف النار في لبنان.
- في الجانب اللبناني، كان صمود المقاومين عند الحدود أسطورياً، بل يمكن القول براحة إن هذه النوعية من المقاتلين غير موجودة في مكانٍ آخر في هذه الأرض، وقلب هذا القتال عقارب الوقت وجعلها تلدغ الطرف الإسرائيلي، بدلاً من أن تشكل ضغطاً متزايداً على المقاومة، يُضعف موقفها التفاوضي. لكن في المقابل، تشكلت في الداخل اللبناني ظروف ضاغطة، إلى حدّ لا يطاق. ملف النازحين عن الجنوب والبقاع والضاحية كان يضغط بقوة على المقاومة وعلى المفاوض اللبناني. وساهمت فيه قوى محلية ذهبت بعيداً إلى حد العداء المعلن، الأمر الذي أبرز مخاوف من تفككٍ داخلي قد يُفضي إلى انفجارٍ لا عودة عنه في قلب المجتمع. هذا من ناحية.
- من ناحية ثانية، كانت "إسرائيل" تتجاوز قواعد الاشتباك التي رسمها الميدان، وتلعب لعبة حافة الهاوية على الجميع، من خلال استهداف قلب بيروت، الأمر الذي دفع المقاومة إلى تفعيل معادلة بيروت – "تل أبيب". لكن أفق هذه المعادلة كان سيقود إلى الحرب الصفرية التي تحدثنا عنها، وهي حرب المنتصر المطلق والمهزوم المطلق. وبما أن هذه الحرب ستكون في بدايتها، فإن سنوات من الحرب كانت ستمضي قبل الوصول إلى ظروف وقف إطلاق النار. هذه النقطة أدارتها المقاومة بمسؤولية، وتمكن الرئيس نبيه بري من خلق مساحة مصلحة مشتركة فيها بين المقاومة وواشنطن وباريس. فنجحت المهمة المستحيلة.
لكن، ماذا حقق الطرفان من الاتفاق؟
بالنسبة إلى "إسرائيل"، فإنها حققت، من دون شك، هدف تشكيل الظرف الملائم لعودة المستوطنين إلى الشمال. ومن منظارها، أبعدت قوات النخبة في المقاومة قليلاً عن الجليل، الأمر الذي يمكن تسويقه كإنجاز وقائي من تكرار سيناريو السابع من أكتوبر في غلاف غزة.
أيضاً، تمكنت "إسرائيل" من الخروج بخطاب تحقيق أضرار في قدرات الحزب، واغتيال قادته الكبار، وإجباره على التزام مندرجات القرار 1701، وهو القرار الذي خرقته "إسرائيل" نفسها نحو 35 ألف مرة، منذ صدوره في الـ12 من آب/أغسطس 2006. وفي السياق، يمكن لها القول إنها فصلت الساحات، لكن في هذه النقطة تحديداً، فإن موقف المقاومة غير محرج على الإطلاق، لماذا؟ هذا يقودنا إلى منجزات المقاومة:
في المحصلة، منعت المقاومة احتلال الجنوب مرة جديدة، وإنشاء منطقةٍ عازلة محتلة، أو فرض شروط سياسية مذلة، وكل ما قدمته كان التزام تطبيق القرار، الذي صدر عقب الحرب التي انتصرت فيها في تموز/يوليو 2006. وهذا أيضاً يعظّم قيمة الحركة اللامعة والتحفة الديبلوماسية التي صنعها الرئيس بري، حين أصر على أن يكون الاتفاق محصوراً في الآلية التطبيقية للقرار، من دون إضافاتٍ إليه، أو صدور قرارٍ جديد من مجلس الأمن، كان سيحمل شروطاً مغايرة، ويسير في مخاضٍ من التناحر بين القوى الخمس دائمة العضوية، ويطول مداه إلى زمنٍ غير محدد.
حافظت المقاومة على وفائها للعناوين التي رفعتها نصرةً للشعب الفلسطيني، وقدمت إليه أمام العالم قادتها ومقاتليها ومواردها وبيوتها ومعاناتها، وضغطت على "الجيش" الإسرائيلي فاستنزفت جزءاً كبيراً من قدراته في الجبهة الشمالية، حتى تلقت في الأشهر الأخيرة كرة النار الكبرى بصدرها، بينما انخفضت وتيرة ناره على غزة، لكن مع إصرار الاحتلال على حرب الإبادة.
قوّض هذا الخيار الاتهامات الطائفية، التي سيقت بحق المقاومة اللبنانية، وأخرجها متناغمةً مع مشروعها وخطابها تجاه فلسطين وقضايا الأمة، وصادقةً في دفع الثمن الذي كان كبيراً جداً.
كيف خلص التوازن إلى هذه النقطة؟
التقط المفاوض اللبناني هذه المعطيات، ومعه الوسيطان، الولايات المتحدة وفرنسا، ومن نقطة أعمق إيران، لإيقاف القتال قبل الانزلاق إلى نقطة الحرب الصفرية، بحيث نكون أمام انتصار مطلق أو هزيمة مطلقة، وذلك لعلمهم - من ناحية - بأن هذه النقطة بعيدة جداً زمنياً، ومحفوفة بمخاطر لا يقين بشأنها، ومن ناحية ثانية لكون المنطقة غير قادرة على استقبال تداعيات صراعٍ عالمي على حساب شعوبها ودولها.
هل يصمد الاتفاق؟
هنا نصل إلى الجواب عن سؤال الانتصار والهزيمة، وهو ما يفسر الضبابية في الجانبين، إذ يتهم الجميع في "إسرائيل" نتنياهو بالتراجع والهزيمة أمام المقاومة، بينما، في الجانب اللبناني، تتهم قوى وحملات إعلامية المقاومة بأنها تبالغ في تظهير صورة النصر في موازاة التكلفة والخسائر التي وقعت في لبنان.
وجواب ذلك أن لا هزيمة مباشرة وقعت لدى الجانبين، أو انتصار ساحق لأصحاب الأرض أو لمحتليها.
ما حدث هو نقطة توازن كافية لوقف الحرب، بحيث ينظر كل طرف إلى الاتفاق على أنه يحقق الحد المقبول من أهدافه. هذه النتيجة المباشرة، فماذا عن النتيجة الاستراتيجية؟
في المدى الاستراتيجي، فإن النظر إلى الصورة الكبرى، وصورة "إسرائيل" في العالم اليوم، يكفي للقول إنها تعرضت لأكبر هزيمةٍ في تاريخها. وعلى الرغم من تقييد مخرجات الحرب للمقاومة في حركتها، فإن الأخيرة ليست سوى ردة فعلٍ مجتمعية على الاحتلال. وبالتالي، فإن حركتها في هذا الإطار تمتلك من المرونة ما يمكّنها من الهدوء إلى حد التجمد، والعودة إلى النشاط إلى حد الاشتعال، إذا عاد الاحتلال.
وهزيمة "إسرائيل"، في هذا المستوى، تطال فرصها البعيدة في البقاء بالشكل الذي صنعته مع حلفائها طوال 70 عاماً، والذي سقط الآن بالضربة القاضية، وما قرار الجنائية الدولية سوى بداية ومظهر لذلك.
انتهت لعبة الحرب على لبنان، وأتصور أن الاتفاق متينٌ وسيصمد، لكن اللعبة الكبرى الجديدة مستمرة. وهذا يقودنا إلى أحداث حلب المفاجئة.
أدارت دمشق سياسةً حذرة في الأشهر الأخيرة، ولم تنجرف إلى التدخل بقوة في الحرب الدائرة، من منطلق فهمٍ للظرف الاستراتيجي الدقيق جداً. ومن منظور العلوم السياسية، يمكن القول إنها إدارة متقدمة لضرورات الأمن القومي في لحظة شديدة الخطورة والحساسية.
لكن سوريا، حتى مع التبريد الاستراتيجي الذي اعتمدته، تلقت جزءاً وافراً من الضربات في سياق توحش نتنياهو في الإقليم. وهي مع توقف النار في لبنان، تبقى عقدة استراتيجية وقطعة استثنائية في الصورة عند اللاعبين كلهم. فماذا حدث؟
تقاطعت مجموعة من المصالح في الشمال السوري، وفي هذه اللحظة تحديداً.
أولاً، استفادت المجموعات المسلحة من تكتيكات حروب غزة ولبنان وأوكرانيا، وهذا واضح في تكتيكات الهجوم.
ثانياً، تزويد المجموعات بالموارد يعود إلى إرادة أميركية بالضغط على سوريا لمصلحةٍ أميركية إسرائيلية.
الهدف الأول إرغام دمشق على فصل الساحات وقطع طرق الإمداد لحركات المقاومة في كل اتجاه، فسوريا هي عقدة الطرق في هذا المسار.
تريد إسرائيل، ومعها أميركا، تحولاً دراماتيكياً في خيار سوريا تجاه العلاقة مع إيران والمحور.
ثالثاً، تريد تركيا من جانبها (وهي باب الإمدادات للمجموعات وعمقها الجغرافي)، الضغط على سوريا، التي رفض رئيسها لقاء الرئيس التركي قبل تحقق شروط طلبها الأسد، وتتعلق بالسيادة الإقليمية، قبل حدوث هذا اللقاء.
رابعاً، تريد أوكرانيا الضغط على الوجود الروسي في سوريا، وبدت قطع تسليح أوكرانية في الجبهة، وهي مؤثرة وفعالة.
خامساً، يريد هؤلاء جميعاً الضغط على إيران وسوريا معاً لفصل المسارات، والضغط على مسارٍ آخر يتنامي بين طهران وموسكو، وهو ما يفسر الاتصال المهم اليوم بين وزيري خارجيتي البلدين لافروف وعراقتشي، والذي أكدا خلاله وحدة النظرة إلى هذه النقلة على الرقعة، وبحثا في سبل مواجهتها.
هناك في سوريا وأحداث حلب ما يربط بالصراع الجيوسياسي العالمي. فالدور المطلوب لسوريا، من واشنطن والغرب، متباين تماماً عن موقفها الحالي. وعبّر خطاب الأسد في الرياض عن التزام خيارٍ حاد ضد "إسرائيل"، وهو ما يفسر معارضةً للتحول في اتجاه ما تريده واشنطن أيضاً من الصراع مع الصين.
المنطقة الشمالية من سوريا هي الممر الرئيس للصين إلى البحر المتوسط، في إطار المشروع الأعظم "الحزام والطريق". وإذا كان الحزام والطريق يفترقان من مدينة تشينغداو، في الساحل الشرقي للصين، فإنهما لا يجتمعان في أي نقطة إلا عند الوصول إلى مياه المتوسط.
كيف؟ وما علاقة المرافئ: بيروت وحيفا واللاذقية؟
في السنوات السابقة، تعرض مرفأ بيروت لانفجارٍ هائل ومروّع، لكنه بقي غامضاً، وما حيك بشأنه من اتهامات قاصر عن تفسير ما حدث. وليس هناك من تفسير غير الحسابات الجيوسياسية، قادر على إيفاء المنطق مقتضياته في هذا الحدث.
خرج الميناء عن الخدمة كمحطةٍ استراتيجية للمشروعات الكبرى. وترافق ذلك مع حملات إعلامية وسياسية. ومن دون الدخول في تفصيلها، فإنها في المحصلة منعت الصين من وضع قدمٍ في لبنان، والانطلاق منه لإعادة إعمار سوريا.
لقد قُطعت قدمٌ صينية هنا. لكن حدثاً أكبر حدث بالتزامن، وفي مكانٍ قريب.
تدخلت الولايات المتحدة مع "إسرائيل"، فأبعدت الصين عن ميناء حيفا أيضاً. وهكذا، قُطعت قدم صينية أخرى، وشريان جديد مفترض للحزام والطريق.
بقي ميناء اللاذقية. في الحسابات الكبرى أيضاً، سوريا تقع ضمن مساحة التأثير الاستراتيجي الروسي. وروسيا منهمكة منذ أعوام في محاربة اللَّعِب في قلب مجتمعها، أي أوكرانيا. وتحاول إبعاد خطرٍ داهم وملحّ.
استعادت دمشق كثيراً من الأراضي التي خسرتها قبل 12 عاماً، لكن مناطق شديدة الأهمية بقيت خارج سلطة الدولة. عند الحدود الأردنية، تقف أميركا، وفي الشرق أيضاً عند منابع البترول – كالعادة -، وفي الشمال الشرقي "قوات سوريا الديموقراطية"، وفي عمق نظرتهم الحلم الكردي التاريخي. لكن المنطقة الشمالية المحاذية للحدود مع تركيا شيءٌ آخر.
في جنوبي هذه المنطقة، يمتد طريقM4 الذي كان يُنظر إليه على أنه الوصلة السورية من المشروع الصيني. وفي مقابله، ينشط مشروع أميركي - هندي منافس، ويريد تدمير فرص المشروع الأول.
الهجوم الحالي في اتجاه حلب يهدد ذلك كله، في نقطته قبل الأخيرة. ويهدد روسيا على المتوسط، لذلك فإن تصوري هو أنه ضغط في اتجاه تحويل الموقف السوري وليس إسقاطه. وهذا يلقي ظلالاً من الشك بشأن الأفق السياسي لأولئك الذين يشنون الهجوم اليوم.
هؤلاء يقعون تحت تهديد أي تغيير بسيطٍ في المشهد، من جانب دمشق وإيران من جهة، إذا ما قررتا تغليب المرونة، لكن أخطر من ذلك، فإنه يضعهما تحت رحمة انحرافةٍ طفيفة من إردوغان، لتصنع بهما مذبحة.
لكن ما معنى ذلك بالنسبة إلى الصراع الأميركي - الصيني في المنطقة؟
دخلت الصين المنطقة من باب الاقتصاد، فشبكت مع دول مجلس التعاون الخليجي (وخصوصاً السعودية) وإيران، ورعت الاتفاق التاريخي بين طهران والرياض.
وأفضى ذلك إلى خطوة سعودية جريئة بالتعاون الاقتصادي المتنامي مع الصين. لكن ذلك ليس كل ما تريده الصين.
منطقة الخليج تبقى المنطقة الأهم لإنتاج الطاقة، ومنع الصين منها سيُخسرها موارد الطاقة اللازمة لصراعها مع واشنطن. وأي حرمان لهذا المصدر، سيعني ضربةً موجعة للاقتصاد الصيني.
هذا يقود إلى أن الصين وروسيا معنيتان تماماً بما يحدث في حلب، وهو ما قد ينعكس في الهجوم السوري المضاد، الذي أعتقد أنه سوف يُظهر تسليحاً مغايراً تماماً، وقدرات اتصالية غير مسبوقة. لكن المسألة قد تكون طويلةً ولا ينتهي هذا الحدث في وقتٍ قريب.
المنطقة بين إيران وفلسطين تغلي، وهي الحد الجيوسياسي الجنوبي للأمن القومي الروسي، ومنطقة حياة أو موت لمشروع الصين في اتجاه أوروبا وأفريقيا.
لذلك، فإن خروج لبنان بهذا الاتفاق الآن يُعَدّ معجزةً سياسية.
تصدرت خلال الحرب فئة من المحللين (وأستثني هنا من أرادوا المحافظة على الحذر لحماية الناس من الاستخفاف بإجراءات الأمان وعدم الانجراف في التفاؤل المفرط)، الذين مارسوا "النشر السلبي" كأسلوب جذبٍ للاهتمام، وتحويل الحديث في ميدان العلوم السياسية إلى "مكلمة" وسوق سمك للمزايدة، وإلى منبرٍ للكلمنجيين الطافين على سطح الأحداث، والمتأرجحين ذهاباً مع خبر وإياباً مع توقع.
إنها المهزلة التي تحولت إلى أداة ضغطٍ وحرب نفسية على أهلنا في كل يوم.
ارتكب الناشرون السلبيون جريمةً خلال هذه الحرب، عن علمٍ وأنانية أو عن جهل، ومنهم من لهم باع طويل في الإعلام أو في "صحافة التسريبات" التي تعيش على المعلومة، فيتحول المسرّب إلى متلاعبٍ بالإعلامي الذي بدوره يتلاعب بمعنويات الجمهور، ويحصل على اهتمامهم وعيونهم المفتوحة وأفواههم المشدوهة.
والنشر السلبي في الأسابيع الأخيرة تمحور بشأن بث التهويل، في صيغة التحليل، بأن الحرب ستطول إلى الربيع المقبل، ومنهم من قال لعامٍ وعامين، بل إن هذه ستكون الحال الدائمة!