افراسيانت - حسين سمور - السلطات الروسية استطاعت تثبيت وتعزيز سيطرتها في مختلف الأقاليم والمناطق الروسية، وأجهضت كلّ المساعي الغربية الهادفة إلى تأليب الرأي العام الروسي على قيادته
في ظلّ المواجهة الروسية الغربية المتصاعدة خلال الأشهر الأخيرة، لم يكن مفاجئاً قرار تنظيم انتخابات محلية وإقليمية في روسيا، وبالرغم من اتساع رقعة الصراع واقتراب شبح الحرب من المناطق الروسية المحاذية لأوكرانيا، توافد الآلاف إلى مراكز الاقتراع للتعبير عن قناعاتهم ومواقفهم السياسية، كما ساهمت تقنية التصويت عن بعد في المناطق الفيدرالية برفع معدل التصويت الإجمالي، حيث أعلنت لجنة الانتخابات المركزية الروسية أنّ نسبة الاقتراع بلغت نحو 47% وشارك فيها أكثر من 27 مليون مواطن روسي من مختلف المدن والمناطق والأقاليم.
ولعلّ القرار الروسي بتنظيم هذا الاستحقاق الانتخابي يأتي لأسباب عديدة أبرزها إضفاء جوّ من الاستقرار والطمأنينة لدى المواطنين، وإحساس الأفراد والمجتمع الروسي بالحياة الروتينية المعتادة في ظلّ الظروف الحالية، وإظهار مدى تحكّم وسيطرة الدولة على مختلف مؤسسات القرار في البلاد.
بالإضافة إلى محاولة كسب شريحة واسعة من "المتمرّدين والرافضين للحرب" إلى صفها بعد المستجدّات الميدانية العسكرية على الحدود الروسية، بما فيها الهجوم الأخير على مقاطعة كورسك، الذي ساهم إلى حد معيّن في تغيير رؤية وموقف الكثيرين بشأن ما يجري، حيث بدأ الصراع يطرق أبواب المدن الروسية، ما شكّل نوعاً من التعاضد والتكاتف الاجتماعي المؤيّد للحسم العسكري ضدّ أوكرانيا.
الانتخابات الروسية ونتائجها
اتسمت الانتخابات المحلية الأخيرة بعنوان "يوم التصويت الموحّد" في روسيا بنسبة إقبال عالية مقارنة بالاستحقاق السابق، حيث شكّل التصويت الإلكتروني عن بعد وتمديد التصويت لثلاثة أيام متتالية عاملين قويين لزيادة نسبة المقترعين، على الرغم من الشكوك والتحفّظات الموجّهة من بعض الأحزاب السياسية على هذه العوامل، وشارك في الانتخابات 20 حزباً سياسياً للتنافس على أكثر من 35 ألف منصب انتخابي، بينهم رؤساء 21 إقليماً ومنطقة روسية ونوّاب مرشحون على مقاعد في المجالس التشريعية المحلية.
وأظهرت النتائج الأخيرة للانتخابات المحلية الروسية ارتفاعاً ملحوظاً في شعبية الحزب الحاكم "روسيا الموحّدة"، ما يعكس حجم التغيّرات التي تحدث داخل المجتمع الروسي، حيث يتجه موقفه ليصبح أكثر نضجاً تجاه الخيارات السياسية وبدأ فعلياً في اتباع نهج أكثر عقلانية استناداً إلى الظروف الراهنة التي تعيشها روسيا.
بالإضافة إلى ذلك، كشفت الانتخابات العديد من العناصر التي تميّز النظام السياسي الروسي، بينها فعّالية النظام الانتخابي نفسه الذي يتم تطويره بشكل متواصل، حيث تعدّ هذه الانتخابات "بروفة" وتجربة سياسية للمرحلة التالية الأهم وهي انتخابات مجلس الدوما في البلاد.
خريطة ومقاعد الأحزاب الروسية بعد نتائج الانتخابات
بعد إعلان لجنة الانتخابات المركزية الروسية النتائج الرسمية تبيّن أنّ الحزب الحاكم "حزب روسيا الموحّدة" عزّز مواقعه في مختلف المناطق والأقاليم، حيث يعود ذلك إلى التغيّرات القيادية في بنيته التنظيمية، والتي أدخلت عناصر وكوادر جديدة موالية ومنبثقة من جيل جديد مرتبط بالحرب الأوكرانية، وأكثرهم محاربون ونشطاء اجتماعيون ساهموا في السنوات الأخيرة في دعم الجيش والمجتمع ورئيس الدولة في أصعب الظروف.
في الوقت نفسه، ثبّت الحزب الشيوعي الروسي نفسه كثاني أكبر الأحزاب في البلاد من خلال فوزه بخمس مناطق من أصل 20، وهي ماري إل، وكراشاي-شركيسيا، بالإضافة إلى مناطق فولوغدا وتولا وفولغوغراد، بالرغم من الأزمة التنظيمية التي تفتك بالحزب من جراء الانقسامات على مستقبل القيادة الحزبية. كما ساهم الصراع الأوكراني بجذب الكثير من مناصري الحزب الشيوعي لانتخاب الحزب الحاكم، وذلك بناء على خطابه الواضح وفعّاليته على الأرض بين المواطنين.
وفي المقابل، أظهرت نتائج الانتخابات الأخيرة تراجعاً ملحوظاً للحزب الديمقراطي الليبرالي الروسي بعد وفاة زعيمه فلاديمير جيرينوفسكي، الذي كان رمزاً سياسياً بارزاً للحزب والبلاد لعقود عديدة، حيث لم يستطع الحزب الثالث في روسيا الحفاظ على مقاعده السابقة واقتصر فوزه في أربعة برلمانات إقليمية في ألتاي وشبه جزيرة القرم وإقليم خاباروفسك ومقاطعة بريانسك.
وعلى مقلب آخر، يشهد تيار "روسيا العادلة ـــــ من أجل الحقيقة" أزمة أيديولوجية حادة أثّرت على مكانتها السياسية في البلاد، حيث أدى ذلك إلى ظهور أحزاب صغرى من خارج البرلمان الروسي (الدوما) استطاعت الحصول على بعض المقاعد المنفردة في بعض الأقاليم والبرلمانات المحلية، بينها "حزب الخضر" في قباردينو ـــــ بلقاريا، وحزب "المنصة المدنية" في قراتشاي ـــــ شركيسيا، وحزب المتقاعدين في فولغوغراد.
بناء على ما تقدّم، يمكن القول إن السلطات الروسية استطاعت تثبيت وتعزيز سيطرتها في مختلف الأقاليم والمناطق الروسية، وأجهضت كلّ المساعي الغربية الهادفة إلى تأليب الرأي العام الروسي على قيادته، بل استطاعت روسيا من خلال "يوم التصويت الموحّد" توجيه رسائل هامّة إلى الخارج مفادها المجتمع موحّد ومتكاتف في أصعب الظروف التي تمرّ فيها البلاد منذ أكثر من عشرين عاماً.
باحث سياسي وصحفي روسي- لبناني.