افراسيانت - نجح اليمين المتطرف في حبس أنفاس أوروبا على مدى أسبوع، كان قريبا فيه من تغيير خارطة الحكم عبر قوس النصر في شارع الشانزليزيه، قبل أن تُعيد انتفاضة أحزاب اليسار الأمور إلى نصابها عبر فوز ينطوي على الكثير من الرسائل والدلالات السياسية إلى باقي شركاء التكتل الأوروبي.
وعلى مدى العقد الأخير، نجحت أحزاب اليمين المتطرف في التعريف بنفسها بقوة لدى مواطني الاتحاد الأوروبي، مستفيدة من الأزمة الاقتصادية وترنح دولة الرفاه الاجتماعي في الدول الغنية، لا سيما تفاقم مشكلة الهجرة غير الشرعية.
وفي تقدير المحللين، فإن فوز اليسار قد يكون منطلقا لمراجعات أيديولوجية عميقة في أوروبا، تتجاوز المكاسب السياسية من وراء إبعاد اليمين المتطرف من سدة الحكم في باريس.
اليسار الفرنسي يخرج من القمقم
يرى المحلل السياسي بمركز الدراسات الغربية في باريس أحمد الشيخ أن نبرة التفاؤل الطاغية خلف فوز "الجبهة الشعبية الجديدة" في الانتخابات لا تدعمها الوقائع، كما لم يكن الفوز وليدا لمسار صاعد من الإنجازات التي يمكن البناء عليها، بقدر ما يعود في جانب كبير منه إلى حالة الخوف والفزع التي انتابت قطاعات كبيرة من الفرنسيين، جراء تصاعد نفوذ اليمين العنصري المتطرف، فكان تصويتهم يسير في هذا الأفق أكثر منه تصويتا إيجابيا لإنجازات اليسار.
ومع ذلك يعتقد الشيخ، في حديثه للجزيرة نت، أنه من الممكن البناء على هذه النتائج حتى يستعيد اليسار بعضا من تراثه وقوته المغيبة منذ سنوات، مدفوعا ببعض التحولات المماثلة تجاه اليسار في بلدان أوروبية أخرى مثل إنجلترا وإسبانيا.
وقال إن هذا ربما يساعد، وفق تحليله، على "إعادة بناء أحزاب اليسار والتأسيس للغة جديدة يمكن أن تكسب عقول وقلوب المواطنين في هذه البلدان، ومواجهة التحديات الكبيرة التي تواجهها الحكومات الوطنية في البلدان الأوروبية".
وبدوره، يشير أيضا الكاتب والباحث في علم الاجتماع السياسي المنذر بالضيافي، في حديثه للجزيرة نت، إلى أن بروز الجبهة الشعبية الجديدة كلاعب رئيسي في فرنسا، واكتساح حزب العمال الانتخابات في بريطانيا وتوليه مقاليد الحكم بعد 14 سنة من حكم المحافظين، كلها مؤشرات دالة على بداية عودة اليسار الأوروبي للصدارة في مواجهة المد اليميني الشعبوي. لكنه ينبّه في الوقت نفسه إلى أنه من السابق لأوانه القول بعودة الفاعلية السياسية لليسار التقليدي.
وعلى الرغم من الأغلبية النسبية التي حصلت عليها الجبهة الشعبية الجديدة، فإن إبعاد اليمين المتطرف عن الحكم يُعد في تقدير الخبراء خطوة ذات أولوية مطلقة، كونه أنهى مخاوف أوروبية جدية تجاه دخول ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي إلى دائرة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، وهو الأمر الذي من المرجح أن يلقي بظلاله على منطقة اليورو.
وتقول الخبيرة أوليفيا لازارد، العضو بمركز كارنيغي للأبحاث في أوروبا، إن الهزيمة غير المتوقعة لليمين المتطرف في الجولة الثانية جنّبت فرنسا خطر "الارتداد إلى نوع من الخطاب السيادي والقومي، الذي أصبح متشددا ومعاديا بشكل واضح لأوروبا".
وتضيف في تعليقها لإذاعة "شومان" في مؤسسة "أورونيوز" أن فرنسا "لا تزال في الوقت الحالي واحدة من المعاقل الرئيسية في أوروبا ضد صعود اليمين المتطرف، وضد نفوذ روسيا، وهذا يعني أن أوروبا ستبقى آمنة لفترة طويلة نسبيا عندما يتعلق الأمر بقضايا الدفاع".
ملف أوكرانيا
كان حزب مارين لوبان، الذي يحتفظ بعلاقات وثيقة مع روسيا، قد تعهّد عشية انتخابات البرلمان الأوروبي في يونيو/حزيران بتقليص المساعدات الفرنسية لأوكرانيا، وفي المقابل التزم بالاستمرار في تقديم الدعم العسكري، ولكن دون إرسال صواريخ إلى كييف تكون قادرة على ضرب الأراضي الروسية.
وبفوز الجبهة الشعبية الجديدة يكون التكتل الأوروبي قد تفادى خضوع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى ضغوط اليمين المتطرف وتبني سياسات التقارب مع موسكو لحكومة اليمين المتطرف المرتقبة.
غير أن الخطوة الأهم للجبهة الأوروبية المؤيدة لكييف، وفق الخبراء، هي التوصل إلى تكوين حكومة قوية في باريس، ما يعد ضمانة لاستقرار باقي مؤسسات الاتحاد الأوروبي والموقف الداعم لأوكرانيا، ويحتاج ذلك إلى تحالف وظيفي موجّه بين تلوينات اليسار المختلفة والوسطيين في الجمعية الوطنية.
ويشكّل الخط السياسي لحزب "فرنسا الأبية" بزعامة جون لوك ميلانشون نقطة تحفظ لدى الأوروبيين في بروكسل، بسبب مواقفه التقليدية المعارضة للاصطفاف العسكري الفرنسي وإمدادات السلاح لكييف، وهو موقف عبّر عنه ميلانشون في تصريحات إعلامية قبل أشهر من الانتخابات.
وتشير المحاضرة في جامعة أنجيه ليتيسيا لانجلوا إلى أن الحزب الاشتراكي وزعيمه رافائيل جلوكسمان يمكن لهما أن يلعبا دورا مهما في هذا الجانب، من أجل احتواء خطاب ميلانشون وتأسيس ائتلاف مؤيد لأوكرانيا، في حين سيكون من الصعب على حزب "فرنسا الأبية" قيادة حكومة في الوقت الذي يضع فيه الدعم الفرنسي لأوكرانيا موضع شك.
مواقف حزب "فرنسا الأبية" بزعامة ميلانشون المعارضة للدعم العسكري الفرنسي لكييف تثير تحفظ الأوروبيين (رويترز)
إنقاذ الميثاق الأخضر
كما أنقذ فوز اليسار "الميثاق الأخضر" من الانهيار، حيث يُنظر إلى القيادي في "التجمع الوطني" جوردان بارديلا، أحد مرشحي اليمين المتطرف لمنصب رئيس الوزراء عقب نتائج الجولة الأولى، كأكبر مهدد للميثاق بسبب مواقفه المعادية للسياسات البيئية، ودعوته للحكومة الفرنسية الى التخلي عن الاتفاق الأوروبي في هذا المجال.
وعلى خلاف ذلك، فإن تحالف اليسار كان أعلن دعمه لخطط الحياد المناخي، الذي يتضمنه قانون المناخ الأوروبي حتى عام 2050، ليحافظ بذلك على جهود بروكسل في توحيد السياسات الأوروبية في هذا المجال، والإبقاء على فرنسا في الخط الأول لهذه الجبهة.
ويوضح مدير مركز الأبحاث الأوروبي "الآفاق الإستراتيجية" نيل ماكاروف أن الانتخابات الفرنسية كانت بمثابة جرس إنذار للزعماء الأوروبيين، لاتخاذ إجراءات ضد تراجع التصنيع ونقص الاستثمار، وتضخم فواتير الطاقة بسبب الاعتماد المكلف على واردات الغاز والنفط والفحم".
ويعتبر معهد التنمية المستدامة والعلاقات الفرنسي أن "نتائج الانتخابات أخبار جيدة لالتزام فرنسا بالعمل المناخي في بلادها، بشرط أن يتمكن البرلمان من إرساء تحالف قوي".
وفي تقدير المستشارة بالمعهد لولا فاليجو، فإنه بإمكان الرئيس ماكرون الاستمرار في لعب دور مؤثر في الشؤون الدولية والمناخية والمالية، كما فعل في كثير من الأحيان، غير أن موقفه بعد الانتخابات غير واضح.
محور باريس برلين
وعلى الرغم من حالة الارتياح في برلين بعد انتكاسة اليمين المتطرف في الجولة الثانية من الانتخابات الفرنسية، فإن حالة القلق والشكوك تحوم في قصر المستشارية والبوندستاغ، والسبب مرة أخرى زعيم الحزب ميلانشون ومواقفه من النزاع في الشرق الأوسط والدولة العبرية، ومن الشريك الألماني بالذات.
وتعد انتقادات ميلانشون المتكررة لسلوك إسرائيل الحربي ضد المدنيين في قطاع غزة، وتعهده بالاعتراف بدولة فلسطين حال قيادته حكومة جديدة، مواقف مربكة لألمانيا الداعم التاريخي للدولة العبرية.
ويشير المحلل السياسي الألماني المتخصص في شؤون الشرق الأوسط كيرستن كنيب، في حديثه للجزيرة نت، إلى أن التزام ألمانيا التاريخي تجاه إسرائيل هو أكثر من مجرد هدف سياسي، بل إن أمن تل أبيب ووجودها هما سببا وجود الدولة في ألمانيا، وهما يمثلان معا جوهر المصالح الألمانية، وفق تقديره.
وفي حال نجاح زعيم حزب "فرنسا الأبية" الفائز الأكبر من بين فصائل اليسار المكونة "للجبهة الشعبية الجديدة"، فإن هذا الأمر قد يشكّل تهديدا مباشرا للعلاقات بين أكبر دولتين في الاتحاد الأوروبي والمحرك الأساسي للتكتل.
وفي إفادة للنائب مايكل روث عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي ورئيس لجنة الشؤون الخارجية في البوندستاغ، لصحيفة "تاغشبيل" الألمانية، فإن "ميلانشون لا يختلف عن لوبان كثيرا، كونه مناهضا لألمانيا وأوروبا".
وفي جانب آخر، تخشى ألمانيا من انزلاق إصلاحات ماكرون لنظام التقاعد إلى المجهول، كونه لا يحظى بقبول من قِبل تحالف اليسار الذي تعهد باتخاذ تدابير اجتماعية معاكسة.
ويثير هذا قلقا من زيادة الإنفاق الحكومي ومن تضخم عجز الموازنة لدى فرنسا، بما يتعارض مع المعايير الأوروبية، ويدعو الخبراء في برلين إلى الاحتياط من شبح أزمة ديون سيادية أوروبية أخرى قد تلقي بنتائجها مباشرة على الدور الألماني في منطقة اليورو.
والأهم من ذلك، يتضاءل الآن الرهان الألماني على ماكرون شيئا فشيئا، ليس فقط بسبب تقلص هامش المناورة السياسية لديه بعد نتائج الانتخابات، ولكن أيضا مع احتمال قوي لصعود اليمين المتطرف مجددا في الانتخابات الرئاسية الفرنسية في 2027، بعد استكمال الرئيس الفرنسي ولايتين في قصر الإليزيه.
ويزيد هذا حالة عدم اليقين في برلين بشأن مستقبل العلاقات الألمانية الفرنسية، ومستقبل فرنسا نفسه داخل التكتل الأوروبي.
الرهان الألماني على ماكرون يتضاءل مع احتمال قوي لصعود اليمين المتطرف مجددا في الانتخابات الرئاسية 2027 (الفرنسية)
إدارة العقد الاجتماعي
وفي كل الحالات لا يمكن فصل مستقبل فرنسا عن ماضيها، وهي المهد الأول للعلاقة التعاقدية بين المواطنين والسلطة في التاريخ المعاصر للحكم، بجانب إطلاقها منظومة حقوق الإنسان المتعارف عليها اليوم عبر العالم.
ويرى الكاتب والباحث في علم الاجتماع السياسي المنذر بالضيافي، في حديثه للجزيرة نت، أن نتائج الانتخابات الفرنسية التي أفضت إلى فوز اليسار كأفكار وتيار أخلاقي عززت الشكوك اليوم تجاه الأحزاب والأيديولوجيا والنُّظم السياسية في أوروبا، كونها لم تعد تضمن الاستقرار بسبب غياب الأغلبيات، وتعذر التحالفات مثلما هو حال فرنسا اليوم.
وهو ما قد يخلق، حسب تحليل الضيافي، وضعا يؤثر على التنمية، مثلما تمت معاينته عند تراجع اليورو مباشرة بعد بروز مؤشرات حول برلمان مُعلق في باريس.
ويسوق الباحث في تحليله جملة من التصورات تعليقا على الدلالات الرمزية لفوز اليسار في فرنسا، أولها "أنه لا بد من إعادة التفكير في آليات إدارة العقد الاجتماعي، مع الالتزام المطلق بإعلاء شأن القيم الإنسانية، والالتزام بالنضال حتى تسود، ويتم قطع الطريق على التوحش".
وهذا ما يفسر -حسب الباحث- نسبة المشاركة المرتفعة في الدورة الثانية لانتخابات فرنسا، فالهدف في تصوره "لم يكن الانتصار لليسار بل إسقاط خطر تطرف اليمين الصاعد في أوروبا، الذي أصبح يهدد قِيم العيش المشترك".
ويقول الضيافي في خلاصة تعليقه للجزيرة نت "الدرس البارز في انتخابات فرنسا، في تقديري، هو ضرورة فهم التحولات الجارية في رحم المجتمع الفرنسي والأوروبي عامة، والتي من نتاجها صعود "اليمين المتطرف"، والعودة لخطاب القومية والهوية ورفض الآخر المهاجر، هذا اليمين الذي فشل اليوم في فرنسا لكنه قد ينجح غدا".