افراسيانت - د. عبير عبد الرحمن ثابت - شكلت عملية التفجير فى خانيونس فى منطقة العين الثالثة تطوراً نوعياً كبيراً للمقاومة الفلسطينية، وذلك ليس فى الجانب العملياتى العسكرى فحسب؛ بل فى الجانب السياسى الاستراتيجى للمقاومة. فالعملية ليست هجومية بل دفاعية بحته؛ فثمة جنود إسرائيليين على الحدود مع قطاع غزة؛ قد استفزهم علم فلسطينى على سياج فاصل؛ فهرعوا لنزعه؛ ووقعوا فى شرك عبوة ناسفة أخطئوا تقدير خطرها .
وبهذا الحدث ليس هناك ثمة عمل عدائى هجومى على الجنود الإسرائيليين من طرف غزة، لأنه وبموجب اتفاق الهدنة لعام 2014 لا يحق لإسرائيل أن تقترب قواتها العسكرية من السياج؛ كما هو الحال بالنسبة للمقاومة الفلسطينية، كذلك فإن إسرائيل تفرض منطقة عازلة داخل غزة تمنع من خلالها حتى المدنيين من الاقتراب من أراضيهم التى تقع بالقرب من السياج الفاصل، وتقتل فى أحيان عدة كل من يقترب منه من خلال أبراج المراقبة؛ وآلياتها العسكرية التى تبرمج إلكترونيا لاستهداف كل من يقترب من السياج من فوق الأرض أو حتى من تحتها؛ كما حدث عندما استهدفت إسرائيل نفقا تابع لحركة الجهاد الاسلامى قبل أشهر، وقالت فى حينه أنه يمتد داخل أراضيها ويستهدف أمنها، وحكمت على كل من فيه بالموت بالغاز السام، واستشهد فى حينه كل من كان فى النفق؛ علاوة على المسعفين الذين حاولوا الإنقاذ، ولم تفترض إسرائيل أن هذا النفق ليس عسكريا أو أنه يستخدم لتهريب سلع لغزة التى تحاصرها إسرائيل جوا وبحرا وبرا، وتقبل فى حينها العالم الرواية الإسرائيلية؛ ولم يحقق أحد فى جريمة القتل بالغاز؛ وهى جريمة حرب؛ ولم يكلف أحداً من المجتمع الدولى نفسه فى البحث فى حيثيات تلك الجريمة؛ والتى راح ضحيتها أكثر من عشرة أشخاص تحت مبرر أن تلك الحدود هى حدود حرب، وأن الاقتراب منها أو تعديها هو عمل عدائي يستوجب الرد القاتل، وبنفس ذلك المنطق تعاملت المقاومة الفلسطينية، واعتبرت اجتياز دورية جولانى السياج الحدودى الفاصل والمسلحة بشكل علنى عمل عدائى يوجب الرد وهو ما حدث.
وهنا أتى الرد الفلسطينى الطبيعى وبالمثل على استهداف النفق بنفس السياق وبنفس المنطق، وهنا يبرز لنا فكر استراتيجى سياسى جديد للمقاومة؛ يتسم بالحكمة والتخطيط المحكم السياسى والعسكرى؛ وهو ربما أكثر ما فاجئ إسرائيل فى هذه العملية الموجعة عسكرياً؛ والموجعة أكثر سياسيا فى البعد الاستراتيجى لمعادلة الردع؛ لأنها كسرت وبجدارة وحكمة معادلة الردع الاسرائيلى لصالح معادلة متكافئة المنطق على جانبى الحدود، فاستهداف العسكريين سيقابل باستهداف عسكريين؛ واستهداف المدنيين عبر الغارات الجوية سيقابل باستهداف مدنيين عبر صواريخ المقاومة، وهو ما كان رد على الغارات بالأمس، وهنا تتغير قواعد اللعبة فعلياً، عندما تكون المقاومة استراتيجية وحكيمة ومدركة للأبعاد السياسية وللمعادلات والمناخ والظروف الإقليمية والدولية، فهى تعرف اليوم متى وكيف وأين ستضرب لتحصل على المكاسب العسكرية والسياسية .
والتساؤل الأهم هنا ... هل ستسلم إسرائيل بالمعادلة الجديدة على طرفى الحدود مع غزة ولن تقوم بعملية عسكرية واسعة ، وبإعتقادى الاجابة وفى ظل كل المعطيات الآنية فليس أمام إسرائيل على الأقل الآن إلا التسليم بقواعد اللعبة الجديدة مع غزة، وقبولها بمعادلة شبه تكافؤ الردع على طرفى الحدود مع غزة، نظراً لأن البديل لذلك يعنى حملة عسكرية إسرائيلية ستقضى على ما تبقى من حياة فى جثة غزة المكلومة، وإضافة للتكلفة الدموية والأخلاقية لتلك الحملة؛ فسيكون على إسرائيل لزاما تولى أمر اثنى مليون فرد وحدها، وعندئذ عليها أن تواجه كابوسا أكبر؛ ذاك الذى هرب منه رابين 1993ولحق به شارون فى 2005، إضافة إلى ذلك أن الوضع الدولى والاقليمى لا يسمح لإسرائيل بمغامرة من هذا النوع فى غزة؛ نظرا لآثارها الكارثية على المخططات الأمريكية والإقليمية لترتيب الجغرافيا السياسية للمنطقة، والتى تشهد صراعات إمبراطورية بالغة الحساسية على مناطق النفوذ، فأى حرب على غزة فى هذا السياق الآن ليست إلا مضيعة للوقت والجهد ولا طائل منها، علاوة على أنها ستشكل ضغط شعبى لن يكون لحكومات التحالف العربى الأمريكى القدرة على مواجهته؛ خاصة مع الموقف الأمريكى من قضية القدس فيما يعرف بصفقة القرن .
وآخر ما تريده اليوم إدارة ترامب هو استفزاز الفلسطينيين مجددا بحرب مدمرة رابعة على غزة، لكن فى المقابل فان إسرائيل ستسعى إلى استخدام أدواتها الأخرى فى ابتزاز غزة والضغط المقنن عليها ضمن سياسة إبقاء الراس فوق الماء حتى لا تموت غزة بشكل نهائى، وتدرك اسرائيل أن الحبل الذى يخنق غزة هو بيدها، وبصمات حكوماتها المتعاقبة مطبوعة عليه.
أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.