افراسيانت - تساؤلات عديدة برزت إلى السطح في أعقاب تصريحات ترامب في 26 يناير (كانون الثاني) الجاري، حول نيته إقامة مناطق آمنة في سوريا، وهي الخطوة التي يُحتمل أن يكون لها الكثير من التداعيات، ليس على مُستقبل المنطقة فحسب، وإنما أيضًا على العلاقات بين قوتين كبيرتين ذاتا النفوذ الأكبر في المنطقة والعالم، الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا.
ما الذي تعينه «منطقة آمنة»؟
يطلق عليها المنطقة الآمنة أو المنطقة العازلة أو منطقة حظر الطيران، ويُقصد بها الأراضي التي لا يُسمح للطائرات الحربية بالطيران فوقها، وعادة ما تُعيّن هذه المناطق في سياقٍ عسكري إلى حدٍّ كبير كمنطقة منزوعة السلاح، وعادة ما تمنع فيها طائرة عسكرية تابعة لقوة محاربة عاملة في المنطقة. والطائرات التي تخرق منطقة الحظر الجوي قد يتم إسقاطها، وهو ما يتوقف على الشروط التي قامت المنطقة عليها.
ومناطق حظر الطيران ظاهرة حديثة، يمكن تمييزها من خلال الاعتماد القسري لحرمة أجواء دولة أخرى، لتحقيق أهداف على الأرض داخل الدولة المستهدفة، وغالبًا ما ترتبط هذه الأهداف بحماية المدنيين. وفي حين أن سلاح الجو الملكي البريطاني أجرى عمليات مراقبة جوية نموذجية على المستعمرات الخلافية بين الحربين العالميتين في القرن العشرين، إلا إن مناطق حظر الطيران لم تأخذ صورتها وشكلها الحديث إلا مع نهاية حرب الخليج عام 1991.
وقبل حرب الخليج عام 1991، لم تُظهر القوى الجوية للدول الدقة اللازمة لتنفيذ هجمات دقيقة ضد أهداف متحركة من الصعب الوصول إليها. بمعنى آخر فإن القوات الجوية كانت تفتقر في ذلك الوقت إلى القدرة على إنتاج تأثيرات سياسية حاسمة قصيرة المدى ومحدودة دون الوصول إلى حرب شاملة، ومع ذلك فإن زوال الاتحاد السوفياتي وارتفاع القدرات الفضائية التي نتجت عن ثورة التكنولوجيا، جعلت مناطق حظر الطيران قابلة للتطبيق في كل السياقات السياسية والعسكرية.
ثلاثة نماذج
وتمثلت نماذج المناطق الآمنة أو مناطق حظر الطيران بشكلها الحديث في ثلاثة أمثلة أساسية، هي:
العراق
المثال الأول كان في عام 1991، عندما تدخلت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وتركيا ودول أخرى في النزاع الكردي العراقي شمال العراق، من خلال إنشاء منطقة حظر الطيران التي منعت فيها الطائرات العراقية من التحليق. وكان القصد من منطقة الحظر الجوي هذه، منع القصف المحتمل واستخدام الأسلحة الكيمياوية ضد الأكراد من قبل نظام صدام حسين.
وفي حين إن القوى المشاركة فرضت مشاركتها بناء على قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 688، إلا أن القرار في الواقع لم يكن يجيز العمليات، ولم يتضمن أي تفويض صريح، وذكر الأمين العام للأمم المتحدة في ذلك الوقت «بطرس بطرس غالي»، أن مناطق حظر الطيران «غير قانونية»، وذلك في مقابلة أجريت معه عام 2003.
وفي جنوب العراق، جرى تأسيس عملية المراقبة الجنوبية عام 1992، لحماية المواطنين الشيعة في العراق، لتصبح هناك منطقتان آمنتان شمالي وجنوبي العراق.
البوسنة والهرسك
في عام 1992 وفي ذروة الحرب البوسنية الصربية، أصدر مجلس الأمن القرار رقم 781، الذي يحظر الطلعات الجوية العسكرية غير المصرح بها في المجال الجوي البوسني. وأدى ذلك إلى عملية سميت بـ«Sky Monitor»، حيث رصد حلف شمال الأطلسي (ناتو) الانتهاكات لمنطقة حظر الطيران، لكنه لم يتخذ إجراءات ضد المخالفين لهذا القرار.
وردًا على 500 انتهاك جرى توثيقها بحلول عام 1993، بما في ذلك انتهاك قتالي واحد، أصدر مجلس الأمن الدولي القرار رقم 816، الذي يحظر جميع الرحلات الجوية غير مصرح بها ويسمح لجميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بـ«اتخاذ جميع التدابير اللازمة لضمان الامتثال مع قيود منطقة حظر الطيران». وشن حلف شمال الاطلسي غارات جوية في وقت لاحق.
ليبيا
وظهر المثال الأخير لهذا النوع من العمليات خلال أحداث الثورة الليبية عام 2011، كجزء من التدخل العسكري في ليبيا 2011، عندما وافق مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على فرض منطقة حظر جوي في 17 مارس (آذار) 2011. وتضمن القرار أحكامًا لاتخاذ مزيد من الإجراءات لمنع الهجمات على أهداف مدنية. واستغل حلف شمال الاطلسي الفرصة لشن الهجمات وقصف مواقع الحكومة الليبية خلال الحرب الأهلية. وجرى إنهاء الحظر الجوي في 27 أكتوبر (تشرين الأول) بعد تصويت بالإجماع من قبل مجلس الأمن الدولي.
المنطقة الآمنة في سوريا
ظهر هذا الاسم لأول مرة وطالب به المسؤولون الأتراك على مختلف المستويات، إذ دائمًا ما كانت ترغب تركيا في إنشاء منطقة عازلة داخل سوريا. واقترحت تركيا والمعارضة السورية إنشاء منطقة آمنة تتضمن بعض مناطق شمالي سوريا في عام 2013، ولكن الولايات المتحدة والحكومات الغربية الأخرى لم تكن على استعداد لقبول هذه الخطط.
وبعد تقدم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في العراق، بدأت مفاوضات بين الجانب التركي والأمريكي تتعلق بهذه المنطقة الآمنة، وفي حين قبلت الولايات المتحدة الأمريكية بمنطقة خالية من عناصر تنظيم القاعدة، كان المسؤولون الأمريكيون في إدارة أوباما مترددين في قبول فرض منطقة حظر الطيران.
بعد هجمات «تنظيم الدولة» في منطقة الأكراد السورية، بدأ عشرات الآلاف من السوريين غير السنيين والمسيحيين واليزيديين بالهروب إلى تركيا، وفي بداية عام 2015 بدأ اللاجئون في عبور الحدود التركية اليونانية والفرار إلى الدول الأوروبية. هذه التدفقات الضخمة من اللاجئين تسببت في إعادة النظر في إنشاء منطقة آمنة للمدنيين في سوريا. ثُمّ في فبراير (شباط) 2016، قالت المستشارة الألمانية «أنجيلا ميركل» «في الوضع الحالي، سيكون من المفيد أن يكون هناك مثل هذه المنطقة، حيث لا يسمح لأي من الطرفين المتحاربين شن هجمات جوية».
لم تُنشأ المنطقة الآمنة في سوريا حتى الآن بسبب خلافات بين الحكومتين التركية والأميركية، ويتمثّل وجه الخلاف الرئيس حول الجهة الأولى التي من المفترض أن يُقضى عليها في سوريا، وكانت تركيا آنذاك ترغب في إزالة نظام الأسد في أقرب وقت ممكن، في حين تبنت الولايات المتحدة خيار أولوية القضاء على «تنظيم الدولة».
مضمون المنطقة الآمنة هو سبب آخر للخلاف بين السلطات التركية والأميركية، فوفقًا لتركيا، يجب أن تشمل المنطقة الآمنة الحظر الجوي، في حين ترفض الولايات المتحدة أي إمكانية لإنشاء منطقة حظر الطيران. كما أن تُركيا تدعم إشراك قوى المعارضة السورية في المنطقة، بعد القضاء على «تنظيم الدولة»، لكن الولايات المتحدة مترددة حيال ذلك؛ لأنها ترى أن المعارضة السورية تتضمن كثيرًا من الإسلاميين الذين ترى أنهم «مُتطرفون».
إدارة أمريكية جديدة ورؤية جديدة
لكن يبدو أن الإدارة الأمريكية الجديدة لها وجهة نظر مختلفة عن سابقتها، فقد أكّد ترامب، الأربعاء الموافق 26 يناير (كانون الثاني) الجاري، على إنشاء المنطقة الآمنة في سوريا للاجئين الفارين من الحرب، ووفقًا لوثيقة اطلعت عليها وكالة أنباء رويترز، فمن المتوقع خلال الأيام المقبلة أن يطلب ترامب من وزارة الدفاع ووزارة الخارجية وضع خطة لإنشاء هذه المناطق في سوريا والدول المجاورة.
لكن الوثيقة لم توضح ما الذي من شأنه أن يجعل المنطقة الآمنة «آمنة»، وعما إذا كان الغرض منها فقط حماية اللاجئين من التهديدات على الأرض، مثل المقاتلين الجهاديين، أو ما إذا كان ترامب يتصور إمكانية فرض منطقة حظر جوي تحرسها أمريكا وحلفائها.
دعوة ترامب لوضع خطة لمناطق آمنة في سوريا هي جزء من أمر تنفيذي أكبر جرى التوقيع عليه خلال الأيام الماضية، شمل حظرًا مؤقتًا على معظم اللاجئين إلى الولايات المتحدة، وتعليق تأشيرات الدخول لمواطني سوريا وستة بلدان أخرى من الشرق الأوسط وأفريقيا.
وأثناء وبعد الحملة الرئاسية، دعا ترامب لمناطق حظر طيران لإيواء اللاجئين السوريين كبديل عن السماح لهم بدخول الولايات المتحدة، مُتهمًا إدارة أوباما بـ«الفشل» في فحص المهاجرين السوريين الذين يدخلون الولايات المتحدة لضمان أنه لا تربطهم أية علاقة بـ«جماعات متشددة»، وعليه فإن رؤية ترامب لهذه المنطقة الآمنة تدور حول إيجاد حل أساسي لمشكلة اللاجئين الذين ينزحون تجاه الولايات المتحدة، وأوروبا بالتبعية.
وفي نظر ترامب، تهدف هذه المناطق المزمع إنشاؤها، إلى أن تكون مناسبة لسكنى المدنيين فيها دون خوف من استهدافهم من قبل أي طرف من الأطراف المتنازعة في الحرب الأهلية الطويلة في سوريا، وأن يكون المدنيون محميين من قبل المجتمع الدولي، كما أنه يرى أنها وسيلة لوقف، أو حتى عكس، الهجرة السورية إلى أوروبا وأماكن أُخرى حول العالم.
المواقع المحتملة للمنطقة الآمنة
بالعودة إلى منطقتي حظر الطيران بعد حرب الخليج، سنلاحظ أنه لم يكن من الممكن تطبيقهما فعليًا إلا بوجود قواعد جوية وحاملات طائرات في كل من تركيا شمالًا ودول الخليج والخليج العربي جنوبًا.
وبالتالي فإن موقع المنطقة الذي يقترحها ترامب لابد أن تكون بالقرب من قواعد يمكن استخدامها لتمشيط منطقة حظر الطيران، والمنطقة الأقرب لكل التوقعات تتمثل في شمال سوريا، أي: المنطقة الواقعة تحت الهيمنة الكردية، أو تلك الواقعة تحت الهيمنة التركية بعد دخول قوات تركية تجاه مدينة الباب.
وفي حديثه للنسخة التركية من موقع «سبوتنيك» الروسي، لفت الجنرال التركي المتقاعد، «هالدون سولمازتورك»، الانتباه إلى حقيقة أن الأمور تغيرت كثيرًا وبشكل جذري في سوريا خلال الآونة الأخيرة، مُشيرًا إلى خطط الإدارة الأمريكية الجديدة لبناء مناطق آمنة في المناطق التي تسيطر عليها حاليًا ما تسمى بقوات سوريا الديموقراطية (SDF) التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني (PYD) وجناحها العسكري وحدات حماية الشعب (YPG).
وأشار سولمازتورك في وقت سابق إلى مزاعم عن أن الولايات المتحدة أنشأت قاعدة عسكرية بالقرب من مدينة الحسكة في شمال شرق سوريا، كما أكّد مصدر في قوات سوريا الديمقراطية لموقع «سبوتنيك» على إنشاء قاعدة عسكرية أمريكية في قرية تل بدر، على بعد 35 كيلومتر من مدينة الحسكة.
من جانبه أكد ممثل عن الشؤون الخارجية من قوات سوريا الديموقراطية «عبد العزيز يونس»، وجود الجيش الأمريكي في أجزاء كثيرة من منطقة الحكم الذاتي غير المعترف بها من كردستان السورية شمالي سوريا، إذ قال «من المعروف جيدًا أن الجيش الأمريكي موجود في أجزاء كثيرة من منطقة كردستان السورية».
وأعرب الجنرال التركي المتقاعد هالدون سولمازتورك عن مخاوف بشأن إمكانية تشييد ترامب مناطق آمنة في جميع أنحاء سوريا بمساعدة قوات سوريا الديموقراطية، وليس سرا أن أنقرة تعارض بشدة إنشاء أي كيانات كردية مستقلة قرب الحدود الجنوبية لتركيا، وتعتبر تعزيز العلاقات بين الولايات المتحدة والكردية خطرًا يُهدد أمنها القومي. وفي حالة إقدام الولايات المتحدة على ذلك، فسيمثل الأمر مشكلة حقيقية مع تركيا التي يمكن أن تمنع استخدام قاعدتها العسكرية، «إنجرليك»، لتسيير رحلات المراقبة.
وفي أقدم ترامب على هذه الخطوة، فقد يُعقّد ذلك بشكل كبير معركة أنقرة ضد حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب الكردية، الذيْن تعتبرهما القيادة التركية تابعين لحزب العمال الكردستاني (PKK)، المصنف منظمةً إرهابية في تركيا، لذا فإن سولمازتورك يعتقد أن إنشاء منطقة آمنة في سوريا «لا يُمكن تحقيقه تمامًا في ظل الظروف الحالية».
البديل الثاني هو أن يتجه ترامب نحو تعزيز العلاقات مع تركيا نفسها، ويبني المنطقة الآمنة في المنطقة الخاضعة لسيطرة تركيا من الشريط الحدودي، غرب نهر الفرات والمنطقة الحدودية بين إدلب وتركيا، وبذلك يمكنه الحصول على دعم تركي واضح على المستوى العسكري واللوجيستي.
وطبقًا لما ذكره موقع «سي إن إن»، فإن حجم وموقع هذه المناطق هو أمر «هام وحاسم»، وذلك طبقًا لوجود أو عدم وجود قوات النظام السوري أو القوات الروسية أو التركية، وفي حال أُنشئت مثل هذه المنطقة شمالي سوريا، وتحديدًا في مناطق السيطرة التركية، فإن الأخيرة ستساهم بشكل رئيسي في عمليات الحماية، بخاصة وأن تركيا وقوات المعارضة المسلحة المدعومة منها تملك منطقة خالية بالفعل من عناصر «تنظيم الدولة» والقوات الكردية، لكنّ العديد من اللاجئين في دول العالم سيكونون حذرين من العودة إلى أي جزء من سوريا، بينما لا يزال الوضع لا يمكن التنبؤ بذلك. سيكون من الصعب للغاية ومشكوك فيه أخلاقيًا إجبارهم على القيام بذلك.
قانونية الخطوة
أشرنا إلى أن هناك ثلاثة أمثلة سابقة لمناطق آمنة جرى تطبيقها، واحدة منها جرت دون قرار واضح وصريح من مجلس الأمن (العراق)، بينما نُفّذت الأخيرتان عبر قرارات صريحة من مجلس الأمن الدولي، وهنا يُشار إلى قضية هامة، وهي أنه قانونيًا لا يجوز إنشاء منطقة آمنة إلا عبر القنوات الرسمية المتمثلة في الموافقة الأممية، لكن في الواقع نلاحظ أن كثيرًا من الأمور تجري من خلال فرض الأمر الواقع، خاصة في الحالات التي من المعروف معارضة إحدى الدول التي تمتلك حق الفيتو لها.
وغالبًا ما ستحتاج المنطقة الآمنة في سوريا إلى الحماية من جانب كل من القوات البرية وفرض منطقة حظر جوي، وهو ما يتطلب التخطيط التفصيلي، كذا موارد كبيرة، وهو ما يطرح تساؤلًا آخر هام «هل ستسعى إدارة ترامب إلى إنشاء مناطق آمنة في سوريا من خلال الأمم المتحدة، بالاتفاق مع الحكومات الأخرى (روسيا وسوريا تحديدًا)، أو أنها ستفعل ذلك من طرف واحد؟» ربما يكون الخيار الأخير محفوفًا بالمخاطر بشكل كبير للغاية، نظرًا لوجود روسيا والعداء الواضح لقوات الجيش العربي السوري ، والذي يتطلب إرسال عدد كبير من القوات العسكرية الأمريكية.
ويُعد أخطر ما في إعلان ترامب احتمالية الصدام مع النظام السوري أو حتى الصدام المباشر مع الروس، وهو ما أشار إليه خبراء، لفتوا إلى أن إنشاء ترامب مناطق آمنة في سوريا، قد تجبره إلى اتخاذ قرارات وصفوها بـ«الخطيرة»، وفقًا للمدى الذي سيذهب إليه لتطبيق قرار المنطقة، بما في ذلك إسقاط الطائرات السورية أو الروسية، أو نشر آلاف من القوات الأمريكية.
وإذا كانت عملية فرض منطقة حظر جوي ستنفذ دون تفاوض على الأقل حول بعض بنودها مع الجانب الروسي، فقد يعني هذا أنه سيتعين على ترامب تحديد ما إذا كان سيعطي الجيش الامريكي سلطة إسقاط الطائرات السورية أو الروسية إذا كانت تشكل خطرًا على آمنا المنطقة، وهو ما رفض الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، الإقدام عليه.
في هذا الصدد، أشار «جيم فيليبس»، الخبير في شؤون الشرق الأوسط في مؤسسة التراث (think-tank) في واشنطن، إلى الدفاعات الجوية الروسية المتقدمة، قائلًا إن «هذا لا يتعدى كونه في الأساس استعدادًا للذهاب إلى الحرب من أجل حماية اللاجئين».
وكان ترامب قد وعد خلال حملته الانتخابية استهداف عناصر «تنظيم الدولة»، كما أعرب عن عدم سعيه الانجرار بشكل أعمق في الصراع السورية، الأمر الذي قد يُشير إلى إمكانية حصوله على ضمانات تجعله مرتاحًا لهذا القرار، ربما من موسكو، أنه لا طائرات روسية ولا سورية ستستهدف المنطقة.
على الجانب الآخر، ومن جهة موسكو، أكّد المتحدث باسم الكريملين «ديمتري بيسكوف»، على أن ترامب لم يتشاور مع الإدارة الروسية فيما يخص المنطقة الآمنة، مُحذرًا من عواقل هذه الخطوة، التي قال: إنه «يجب حسابها بدقة قبل الإقدام عليها».
هل هي خطة واقعية؟
ومن شأن أية منطقة آمنة في سوريا مضمونة من قبل الولايات المتحدة أن تتطلب قدرًا من الحماية العسكرية الأمريكية الجوية والبرية، وهو ما يعني مشاركة آلاف من الجنود على الأرض بآلياتهم، فضلًا عن الطائرات.
وتوجد في مناطق الشمال السوري العديد من خطوط التصدعات مثل الأكراد و«تنظيم الدولة» والجيش السوري وفصائل المعارضة المسلحة الأخرى، بما في ذلك فرع تنظيم القاعدة سابقًا، جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقًا)، ولجميعها حضور هناك.
وبالنسبة لـ«تنظيم الدولة»، وبالرغم من أنه يقف موقفًا دفاعيًا في جزء كبير من شمالي سوريا، إلا أن وجود قوات حفظ السلام الدولية لحماية منطقة آمنة، سيكون أمرًا يسيل له لعاب عناصر التنظيم. وهكذا فإن ساحة المعركة الفوضوية في سوريا، تُصعّب من مهمة حماية مساحة واسعة من الأراضي المفتوحة؛ ما يجعل إنشاء منطقة آمنة أمرًا خطرًا، ولهذه الأسباب وغيرها نأت إدارة أوباما بنفسها عن دعم مناطق آمنة، بالرغم من الضغط الكبير من تركيا التي استقبلت نحو ثلاثة ملايين لاجئ سوري.
ثمة أيضًا مسألة التكاليف، ففي عام 2013، قال الجنرال «مارتن ديمبسي»، رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة، إن فرض منطقة حظر جوي «تتطلب مئات الطائرات المتمركزة على الأرض وعلى حاملات الطائرات في البحر، بالإضافة إلى الاستخبارات ودعم الحرب الإلكترونية»، بتكلفة تصل إلى مليار دولار في الشهر الواحد. وقد يُؤثر ذلك على الموارد الموجهة لقتال «تنظيم الدولة»، الذي يُمثّل القضاء عليه هدفًا رئيسًا من أهداف الإدارة الأمريكية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن منطقة الحظر الجوي والمنطقة الآمنة ليسا بالضرورة مفهومين متماثلين، ولكن نظرًا لاستخدام القوات السورية الهجمات الجوية، فمن الصعب أن تكون هنا منطقة آمنة دون فرض منطقة حظر جوي.
وكان ترامب قد اقترح مرارًا، أن تدفع دول الخليج الأموال لتنفيذ المناطق الآمنة في سوريا، وقال لصحيفة «بيلد» الألمانية: إن «دول الخليج ينبغي أن يدفع الثمن والتكلفة، فبعد كل شيء، هم لديهم المال الذي لا يملك أحد آخر مثله حاليًا»، لكن دول الخليج، التي دعمت الفصائل المتمردة المختلفة، لم تعرض أي دعم علني لتنفيذ هذه الفكرة، لكن المملكة العربية السعودية، كانت قد تحدثت قبل عام عن نشر قوات برية في سوريا لحماية بعض المناطق التي يسيطر عليها المعارضون للنظام، ولكن الفكرة تبخرت بسرعة عندما تحولت ساحة المعركة لصالح سوريا وحلفائها.
المنطقة الآمنة والتقسيم
قد تكون هناك مخاوف أيضًا تتعلق بأن إنشاء مثل هذه المناطق يمكن أن يدعم فكرة التقسيم، ويعتمد ذلك أساسًا على مكان وجود المنطقة ومدى استمراريتها زمنيًا، وإلى أي مدى ستستمر الإدارة الأمريكية في إدارتها، فمن الممكن أن تأخذ المعارضة المسلحة هذه الفرصة للاستفادة من المناطق الآمنة كملاذ، ولإعادة التموين، بخاصة أنه يُفترض ألا يكون للجيش السوري أي دور في تلك المنطقة، وهو سبب معارضته لإقامتها.
هنا ثمة تساؤل آخر هام، وهو «في أي وقت سيكون من الآمن تفكيك هذه المناطق حال إقامتها؟»؛ لأنه إذا أصبحت ملاذًا لمعارضي النظام، فعند تفكيكها قد تتحوّل إلى ما يُشبه «الكانتونات» المعارضة التي يسهل القضاء عليها.
وتتمثل المشكلة مع المناطق الآمنة في كونها وسيلة لتحقيق غاية، وليست حالة دائمة في ذاتها، فإذا افترضنا أنه سيكون هناك اتفاق دولي على إنشاء مناطق آمنة في سوريا، وإذا كانت روسيا قادرة على إقناع الأسد ليوافق على الفكرة، فإن هذه المناطق قد تصبح «منازل في منتصف الطريق»، على حد وصف وسائل إعلام أمريكية، لإعادة توطين ملايين السوريين على الأقل ممن يقبعون في مخيمات اللجوء في البلدان المجاورة، ما من شأنه تخفيف الضغط على الدول المضيفة مثل الأردن ولبنان وتركيا، كما أنها قد تنجح في تقليل تدفق السوريين إلى أوروبا، لكنه أيضًا تعني تغيّرًا ديموجرافيًا في سوريا.
ويبقى السؤال ما هو الهدف النهائي لسياسة الولايات المتحدة في سوريا الآن؟ هل لا تزال متمحورة حول رحيل الأسد واستمرار الدعم العسكري واللوجيستي للأكراد والفصائل المتمردة التي تعتبرها الولايات المتحدة «معتدلة»؟
الرئيس الذي لا يتوقعه أحد
أخيرًا، وقبل ساعات كشف مسؤول رفيع المستوى في البيت الأبيض، رفض الإفصاح عن اسمه، لوكالة أنباء «رويترز»، عن أن إدارة ترامب «لا تدرس حاليًا بشكل مُكثّف إقامة مناطق آمنة في سوريا»، قائلًا: إنها «ستدرس في الوقت المناسب»، وذلك بعد أيّام قليلة من الجدل الذي أثاره ترامب بإعلانه في مقابلة مع قناة «إي بي سي»، أنه ومن المؤكد سيقيم مناطق آمنة في سوريا، على أن تُوضع خطتها خلال 90 يومًا فقط، من وقت إعلانه، وذلك من قبل وزارتي الخارجية والدفاع (البنتاجون) الأمريكيتين.
كما أنّه قد وقّع مرسوم قرارٍ تنفيذي، يفرض حظرًا على دخول مواطني سبع دول تقع جميعًا في منطقة الشرق الأوسط، هي إيران وسوريا والعراق وليبيا والصومال والسودان واليمن، وقد شملت النسخة الأولى من المرسوم فقرةً نصّت على إقامة مناطق آمنة في سوريا «لحماية والدفاع عن سكانها الضعفاء»
ويدفع هذا بالضرورة نحو التساؤل حول أسباب تراجع الإدارة الأمريكية، إذا صح، عن إقامة مناطق آمنة في سوريا، وهل يتعلق هذا التراجع المُحتمل غير المُعلن رسميًا برفض روسيا للمقترح منذ البداية؟ بخاصة مع التقارب الملحوظ بين الرئيس الأمريكي الجديد وروسيا. كما أنه يطرح تساؤلًا آخر أكثر شمولًا حول الدعوات التي رددها ترامب خلال حملته الانتخابية، والتي أثارت جدلًا كبيرًا، وما إذا كان سينفذها جميعها بالفعل أم سيتراجع كما هو مُحتمل مع قرار المناطق الآمنة في سوريا.