علاقات أميركية كوبية يباركها الديمقراطيون الذين يرون فيها إنجازا دبلوماسيا ناجحا رغم معارضة الجمهوريين المتمسكين بموقفهم تجاه البلد اللاتيني.
افراسيانت - واشنطن - قبل نحو سنتين من انتهاء ولايته كرئيس للولايات المتحدة الأميركية، يسعى باراك أوباما في هذه الفترة إلى افتتاح عهد "الربيع اللاتيني" انطلاقا من المعقل الأيديولوجي الذي تبقى لليساريين في العالم: كوبا الشيوعية، بعد أن فشلت كل الإدارات السابقة في إيجاد منافذ لها من خلال الأنظمة اللاتينية الأخرى وعلى رأسها فنزويلا والبرازيل والأرجنتين.
وتعتبر فترة التقارب هذه التي انطبعت بمفاوضات مباشرة بين الجانبين الأميركي والكوبي فترة "ذهبية" ونجاحا بارزا بالنسبة لدبلوماسية العم سام الحساسة تجاه أي توجه رافض لامبرياليتها في العالم والتي تصدرت كوبا في وقت ما في القرن الماضي الجبهة ضد الهيمنة الأميركية. وهاهي الآن بعد خروج الزعيم التاريخي فيدال كاسترو تبدأ مرحلة جديدة في سياستها الخارجية.
وفي الفترة التي يهتم فيها العالم بشطر العالم الشرقي خاصة الوطن العربي وما يحمله من نزاعات وحروب، سارعت إدارة البيت الأبيض إلى استغلال حالة الهدوء النسبي في أميركا اللاتينية لإعادة العلاقات مع كوبا ورفع الحصار الاقتصادي والعقوبات المسلطة عليها منذ ستينات القرن الماضي، وهو الخيار الذي دافعت عنه إدارة الرئيس باراك أوباما وخاصة وزير خارجيته جون كيري.
ولكن في المقابل، بقي الجمهوريون محافظين على الموقف نفسه تجاه كوبا منذ أن نجح فيدال كاسترو تشي غيفارا ورفاقهما في الثورة الكوبية في منتصف القرن الماضي. ولعل ماركو روبيو، أحد النواب الجمهوريين، يعد من أبرز المعارضين للانفتاح الأميركي الذي أعلنه أوباما تجاه كوبا.
حان الوقت لتغيير سياستنا والانفتاح على كوبا
أعلن وزير الخارجية الأميركي جون كيري فتح “عهد جديد” مع كوبا، معربا عن التزام الإدارة الأميركية بأن تبحث مع الكونغرس رفع الحظر المفروض على كوبا منذ نصف قرن. وقال كيري في كلمة له ألقاها أمام صحفيين إن “عزل كوبا لم يعط نتيجة”، داعيا إلى اتباع “نهج جديد” وقد أكد أن هذا المنهج يتفق معه أغلب الأميركيون قائلا: هذه الخطوة نستحسنها نحن كلنا كأميركيين”.
وقال: “اليوم نجري هذه التغييرات لأنها الأمر الصواب. اليوم تختار أميركا أن تفك أغلال الماضي لتصل إلى مستقبل أفضل للشعب الكوبي وللشعب الأميركي، ولهذا النصف بأكمله من الكرة الأرضية وللعالم”.
بدوره، أعلن الرئيس الكوبي راؤول كاسترو أنه اتفق مع أوباما على إعادة العلاقات الدبلوماسية. وأضاف في خطاب بثته وسائل الإعلام الرسمية: “هذا لا يعني أن المشكلة الرئيسية أي الحصار الاقتصادي تمت تسويتها.
”. وأضاف: “هذا القرار من قبل الرئيس أوباما يستحق اعتراف وتقدير شعبنا”، موجها كلمة شكر إلى البابا فرنسيس الذي ساهم في التوصل إلى هذه الخطوة. وقال وزير الخارجية الأميركي جون كيري في واشنطن إنه “مستعد للقاء نظيره الكوبي في أي زمان ومكان”، مع انطلاق المحادثات الدبلوماسية التي تستهدف تطبيع العلاقات بين البلدين في هافانا.
وتهدف المحادثات، التي استمرت يومين إلى إنهاء الصراع الدبلوماسي المستمر منذ أكثر من نصف قرن بين الولايات المتحدة وكوبا. وقال كيري في وزارة الخارجية “إنني أتطلع إلى السفر إلى كوبا لفتح السفارة”.
وفي غرب هافانا، اجتمع الوفدان في قصر المؤتمرات لبحث قضايا الهجرة. وقد تأكدت توقعات المراقبين في أن يبحث الوفدان بشكل مباشر استعادة العلاقات الدبلوماسية، المقطوعة منذ عام 1961 . وقد ظهرت خلافات في فترة المفاوضات بشأن السياسة الأميركية للسماح للمهاجرين الكوبيين بالبقاء بشكل قانوني إذا وصلوا إلى شواطئ الولايات المتحدة، في حين أن أولئك الذين يتم اعتراضهم في البحر تتم إعادتهم إلى كوبا.
وقال مسؤولون كوبيون إن سياسة “القدم المبللة، القدم الجافة”، والتي ترجع إلى عام 1996، تشجع الهجرة غير الموثقة والاتجار بالبشر وتنتهك الاتفاقات الثنائية بشأن الهجرة. وقالت الولايات المتحدة إن السياسة ستظل قائمة فيما يتعلق بالهجرة الكوبية.
وتترأس الوفد الأميركي روبرتا جاكوبسون، مساعدة وزير الخارجية لشؤون نصف الكرة الغربي وسيكون الوفد الكوبي برئاسة جوزفينا فيدال، رئيس الشؤون الأميركية في وزارة الخارجية الكوبية.
وقد وصلت جاكوبسون إلى هافانا، لكنها لم تشارك في المحادثات حول الهجرة. وتتميز جاكوبسون بخبرتها الطويلة في أميركا اللاتينية، وهي أعلى مسؤول دبلوماسي أميركي يزور كوبا منذ عقود، ومن المقرر أن تشارك غدا في المحادثات.
وأعلن الرئيسان الأميركي باراك أوباما والكوبي راؤول كاسترو في 17 ديسمبر خطة لإصلاح العلاقات المقطوعة منذ فترة طويلة، والإفراج عن السجناء وتقديم تنازلات من الجانبين. وشدد أوباما على ضرورة استعادة العلاقات مع كوبا مرة أخرى في خطابه عن حالة الاتحاد.
وقال أوباما للكونجرس “في كوبا، نحن ننهي سياسة تجاوزت موعد انتهائها منذ فترة طويلة. عندما لا ينجح ما تقوم به لمدة 50 عاما، فهذا يعني أن الوقت قد حان لتجربة شيء جديد”.
وقد أكد وزير الخارجية جون كيري أن سياسة البيت الأبيض تجاه كوبا سوف تتبع فلسفة الديمقراطيين في التغيير السلمي والهادئ في العالم عبر ما أسماه “تشجيع الحريات والانفتاح والتحفيز على التغيير بشكل تدريجي دون استعمال أي نوع من أنواع القوة”.
وقد شبه مراقبون هذا التصريح بالسياسة التي اتبعتها أميركا في الوطن العربي عبر ما يسمى “الربيع العربي”، حيث انتهجت الولايات المتحدة الأميركية أسلوبا دعائيا وإعلاميا داعم للمظاهرات والتحركات السلمية التي كانت تحدث في شوارع تونس ومصر ودول عربية أخرى، وقد أدت تلك التحركات (بالدعم الأميركي لها) إلى إسقاط عدد من الأنظمة. ولكن عددا من المراقبين أكدوا أن كوبا هي حالة مغايرة، فهي بلاد تسعى إلى فك الحصار الاقتصادي عنها والاندماج مجددا في المنظومة الدولية حتى ولو كانت في شكلها القديم الشيوعي الرافض للسياسة الأميركية.
تطبيع العلاقات مع كوبا خيار ساذج
أعرب برلمانيون جمهوريون مؤيدون لإبقاء عزلة كوبا عن أسفهم لقرار الرئيس باراك أوباما بدء تطبيع العلاقات مع كوبا، في حين لم يستبعد البيت الأبيض أن يزور أوباما كوبا. وقال السيناتور الجمهوري ماركو روبيو عن “أسفه لهذه الخطوة الخاطئة سياسيا ودبلوماسيا والتي لن تضيف شيئا لأميركا التي تبحث عن نشر الديمقراطية وليس تطبيع العلاقات مع الأنظمة الشمولية التي تعود لحقبة الخمسينات من القرن الماضي”.
وقد توعد برلمانيون من الكونغرس وخاصة الجمهوريون منهم ـوهم من المؤيدين لإبقاء عزلة كوبا- بالتصدي في الكونغرس لرفع الحظر المفروض على كوبا. ووصف السيناتور الجمهوري ماركو روبيو النائب عن فلوريدا (حيث يعيش عدد كبير من الأميركيين الكوبيين المعارضين لنظام كاسترو) مبادرة أوباما بأنها “ساذجة”. وقال ماركو روبيو للصحفيين “البيت الأبيض قدم كل شيء وحصل على القليل”.
وسيرأس ماركو روبيو ابتداء من يناير لجنة الشؤون الخارجية التي ستكلف بالموافقة على تعيين السفير الأميركي المقبل في كوبا، وألمح إلى أن تصديق التعيين “سيكون أمرا حساسا”. مؤكدا رفضه القاطع تمرير قرار فتح سفارة في كوبا وتعيين سفير.
وقال ماركو روبيو كذلك إن الكونغرس الحالي “لن يرفع الحظر” ردا على دعوة أوباما لإنهاء الحظر المفروض على كوبا منذ 1962. وقال “سأستخدم كل الوسائل المتاحة للتصدي للتغيرات المعلنة قدر الإمكان”، ملمحا إلى أنه سيستعمل صلاحياته كرئيس للجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس لمنع تمرير قرار التطبيع بالرغم من أن الصلاحيات التنفيذية لأوباما تمكنه من تخفيض نسبي في حجم الحصار الاقتصادي المضروب على الجزيرة الشيوعية.
ويبحث الجمهوريون في الكونغرس الأميركي عن إستراتيجية لإفشال خطة الرئيس الديمقراطي باراك أوباما لتطبيع العلاقات الأميركية مع كوبا أو إبطائها على أقل تقدير وهو ما قوبل باستهجان من البيت الأبيض.
وطرح الجمهوريون أفكارا للتصدي لتحركات أوباما لإقامة علاقات مع الجزيرة الخاضعة لحكم شيوعي وتوسيع الروابط التجارية معها بعد عداء مستمر منذ نصف قرن. وكان من بين الأفكار منع الأموال لإعادة فتح السفارة الأميركية في هافانا وتعطيل تعيين السفير الأمريكي. وقال السناتور الجمهوري ماركو روبيو وهو من أصل كوبي يقود الحملة ضد تطبيع العلاقات خلال مؤتمر صحفي في ميامي “سندرس كل الخيارات” ولم يقدم أي تفاصيل.
وقال خبراء قانونيون والناطق باسم البيت الأبيض إن الرئيس الأميركي يملك سلطات تنفيذية واسعة لتخفيف القيود على التجارة والنقل والتعاملات المصرفية حتى لو اعترض الكونغرس.
وقال جوش ايرنست المتحدث باسم البيت الأبيض للصحفيين إن “الخطوات التي أعلنها الرئيس هي خطوات في نطاق سلطته التنفيذية كرئيس للولايات المتحدة”، وأضاف أنه غير قلق “بشكل خاص” من معارضة الجمهوريين. وقال ايرنست أيضا إن البيت الأبيض سيكون مستعدا للنظر في زيارة لم يسبق لها مثيل يقوم بها الرئيس الكوبي راؤول كاسترو. وقال ايرنست أيضا إن أوباما مستعد لزيارة كوبا.
وكان فيدال كاسترو الزعيم الكوبي السابق وشقيق راؤول آخر رئيس كوبي يزور الولايات المتحدة. وفي عام 1959 ألقى كاسترو كلمة أمام مجلس العلاقات الخارجية وفي سنوات لاحقة اعتاد إلقاء خطب طويلة خلال دورات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وأعلن أوباما عزمه تطبيع العلاقات مع هافانا، وفي حين تنص القوانين على ضرورة الإبقاء على العقوبات وأبرزها قانون هيلمز بيرتون لعام 1996، قال خبراء إن الرئيس الأميركي لديه مساحة للمناورة لرفع الحصار تدريجيا حتى لو اعترض الكونغرس. وهذا ما نفاه السيناتور الجمهوري ماركو روبيو مؤكدا أن الكونغرس له نفوذ كبير في رسم السياسة الخارجية لأميركا ولن يترك الباب مفتوحا “للعبث بإستراتيجية أميركا الخارجية نحو العالم”.
صعوبات بالجملة تقف في طريق التطبيع
واشنطن- لم يتمكن الكوبيون والأميركيون من تحديد مهلة لإعادة فتح سفارتيهما، لكنهم أعلنوا أنهم سيجتمعون مجددا قريبا في محاولة لجعل إعادة علاقاتهما الدبلوماسية أمرا ملموسا.
وقالت مساعدة وزير الخارجية الأميركي روبرتا جاكوبسون للصحافيين “لا يمكنني أن أحدد متى سيحصل ذلك. نعمل جميعا على هذه الموضوعات بأسرع ما نستطيع وسنعيد فتح السفارة ما إن نتمكن من معالجة كل الموضوعات العملية التي نحتاج إلى تناولها”.
من جهتها، أوضحت مديرة القسم المكلف بالولايات المتحدة في وزارة الخارجية الكوبية جوزيفينا فيدال أن الجانبين سيجتمعان مجددا “في موعد قريب” لم يحدد بعد. وأضافت “لا يمكنني أن أقول لكم ما إذا كانت اجتماعات أخرى ستكون ضرورية بعد هذا الاجتماع”.
وأكدت جاكوبسون أن المناقشات كانت “إيجابية وبناءة”، مضيفة “هذه القضايا التي تشكل جزءا من عملية تطبيع أوسع معقدة وتعكس الخلافات العميقة بين بلدينا” لكن “مناقشتها ستتواصل”. وتابعت: “علينا أن نتجاوز أكثر من خمسين عاما من العلاقات التي لم تكن تستند إلى الثقة”.
ولكن قبل التطرق إلى عودة السفيرين إلى كلا البلدين، حذر وزير الخارجية الأميركي جون كيري في واشنطن من ضرورة البحث في عدة قضايا تخص القيود المفروضة على “قسم المصالح” القائم بين البلدين منذ 1977. ومن بين المواضيع التي يوليها الأميركيون أهمية خاصة رفع القيود المفروضة على تنقل الدبلوماسيين داخل الأراضي الكوبية وعلى عدد الموظفين الدبلوماسيين المعتمدين.
وذكر كيري أن واشنطن تطالب “برفع القيود على تجهيز بعثتنا (الدبلوماسية) كي نتمكن من تشغيلها كما ينبغي” وكذلك الوصول دون قيود إلى قسم المصالح في هافانا، مشيرا إلى إمكانية قيام كوبا بالمثل في واشنطن.
وفي هافانا تحدث الوفد الكوبي عن الصعوبات المالية التي تواجهها البعثة الكوبية في واشنطن بسبب القيود المرتبطة بالحصار الأميركي المفروض على كوبا منذ 1962. وذكرت وزارة الخارجية الكوبية أنه “قريبا ستمر سنة على القسم القنصلي” دون أن يتمكن من الاستفادة من خدمات مصرفية الأمر الذي “يتسبب في بلبلة كبيرة لأجهزته”.
وتوقف هذا القسم بين فبراير و مايو 2014 عن تسليم جوازات السفر للكوبيين المقيمين في الولايات المتحدة، بسبب عدم تمكنه من التعامل مع أي مصرف مستعد للتكفل بحساباته المالية. وعلى غرار الدبلوماسيين الأميركيين في كوبا، يخضع الكوبيون المرسلون إلى واشنطن للعديد من القيود لا سيما ضرورة الحصول على إذن لمغادرة واشنطن.
وأوضح كيري أنها مفاوضات تقتضي “توافقا متبادلا” معربا عن تفاؤله وعن استعداده “لزيارة كوبا لتدشين سفارة رسميا”، لكن فقط “عندما يكون الوقت مناسبا”.
وذكر الوفد الكوبي باستيائه من الامتيازات التي تمنحها الولايات المتحدة للمهاجرين الكوبيين القادمين إلى أراضيها، في حين أكد الأميركيون عزمهم على الاستمرار على هذه السياسة.
واعتبر أرتورو لوبيث ليفي أستاذ العلاقات الدولية في جامعة نيويورك أنه “مع أن هافانا وواشنطن ليس لديهما هدف مشترك على المدى الطويل، إلا أنهما على الطريق نفسه”. وأكدت تقارير أن الحالة الاقتصادية لكوبا تتطلب رفع الحصار الأميركي.