
افراسيانت - بسمة خالد أبو معمر - كان الليل هادئا على غير عادته في غزة، وكأن المدينة تلتقط أنفاسها قبل العاصفة، كنت جالسة مع العائلة في زاوية ضيقة من بيت لا نملكه بحثا عن الأمان: مكان لجأنا إليه نازحين بعدما أجبرنا الاحتلال الإسرائيلي الغادر على الإخلاء قسرا من منزلنا الأول.
في هذا المكان، نمكث كأننا ضيوف على أنفسنا، نتحسس خطواتنا خشية أن نثقل عليه، كان الخوف يرافقنا ويتنفس معنا، لا يبرحنا حتى حينما نغفو، ولا يهدأ حين نستيقظ على أصوات القذائف ورائحة الموت والبارود التي تعبق الأزقة، أو خبر تهجير جديد.
لا شيء كان يوحي بأن الحياة تستعد لتغيير مفاجئ، لا شيء يوحي بأن الموت على بعد خطوات، لم نكن نعلم أن تلك اللحظة التي يختلط فيها الدفء بالبرد، والضحك بالبكاء، والحياة بالغياب، كانت تقترب دون تمهيد.
انتهت أمي من أداء الركعة الأخيرة في صلاة العشاء، الركعة الأخيرة لم تكن مجرد حركة ختامية في الصلاة، بل هي خلاصة اليوم بأكمله، فيها تضع أمي تعبها، وشقاءها، ودعاءها، ورجاءها، وشكرها، وحاجتها.
وفي حال سجودها، كانت تشعر أن كل أثقال الحياة تهوي معها إلى الأرض.. وحين سلمت عن يمينها وعن يسارها، كنت أنا من شعر بالسلام.
طلبت مني أن أحضر لها البطانية، فالنعاس أغشى على جفنيها، جلبت لها ما طلبت بيدين مرتجفتين ومتيبستين، أبي لم يكن نائما، ولم يكن أيضا مستيقظا تماما، بل عالقا مع ذاكرته، وشقيقاتي كنَّ يتسامرن، ووجوههن كانت تلمع، وقلوبهن خفيفة مليئة بالحكايات، وبالأمنيات المؤجلة، والخطط الصغيرة التي لا تستحق التدوين.
لا شيء، حقا لا شيء كان يوحي بأن الحياة تستعد لتغيير مفاجئ، لا شيء يوحي بأن الموت على بعد خطوات، لم نكن نعلم أن تلك اللحظة التي يختلط فيها الدفء بالبرد، والضحك بالبكاء، والحياة بالغياب، كانت تقترب دون تمهيد، ودون أن تمنحنا فرصة التمهل.
في حدود الساعة التاسعة وعشر دقائق من مساء الخميس، 28 مارس/آذار 2024، وعلى حين غرة، جاء الضوء: ضوء أحمر حاد، أعقبه انفجار مفاجئ اخترق صمت الليل! اهتز المكان، وارتجت الجدران، وتناثرت النوافذ والأثاث، وسقط الغبار مثل ستار سميك فصل بين الحياة والموت، وكانت الأجواء مشبعة برائحة الدخان والبارود.
في لحظات كهذه، يصبح الزمن مشوها، محاصرا بين لحظة من الفزع ورغبة قوية في البقاء، الجميع يصرخ، وقلوبنا غاصت في أرض لا تستقر.
لم يُصَب أحد بأذى، لكن الموت كان قريبا.. قريبا بما يكفي ليلامس أرواحنا ويترك أثره دون أن يأخذنا! المنزل المستهدف لم يكن ذاك الذي لجأنا إليه، بل البيت المجاور الذي كان يشاركنا الحائط والوجع، ونازحين آخرين.
هنا في غزة، لا أحد ينجو تماما، من نجا بجسده ماتت أجزاء من روحه، ومن بقي حيا سيبقى يفتش بين الركام عن معنى النجاة. نعم نجونا، لكن صوت الانفجار لن يُنسى.
من هول الصدمة خرجت مهرولة، حافية القدمين، متجاهلة تماما الزجاج المتناثر على الأرض، والشظايا التي ملأت المكان! البيت المجاور صار كومة من الحجارة الساخنة، حيث لا صوت، ولا حركة.
تم قصف المنزل على رؤوس ساكنيه، وهذا الغدر القاتم أدى إلى تدمير المربع السكني بالكامل واستشهاد 19 شخصا، جلهم من الأطفال والنساء وكبار السن.
كل من كان بالمنزل رحل، استعجالهم كان مفاجئا، رحلوا حتى قبل أن يرتبوا قضية غيابهم عنا، ما نال حقد العدو آنذاك إلا من أطهر ما فينا، فاصطفاهم الخالق لجواره.. "آدم ، تولين، بيان، إسلام، رغدة، إيمان، آية، سما، ساري، عبدالله، إبراهيم، سامر، فاطمة، خالدية، سما، ريم".
الموت مر من هنا، لكنه تخطانا، كأنما اختار في تلك الليلة أن يطرق بابا غير بابنا. نجونا، نعم.. لكن لم نخرج سالمين؛ نجوت أنا وعائلتي، لكن النجاة هنا ليست خلاصا، بل هدنة مؤقتة مع القدر.
هنا في غزة، لا أحد ينجو تماما، من نجا بجسده ماتت أجزاء من روحه، ومن بقي حيا سيبقى يفتش بين الركام عن معنى النجاة. نعم نجونا، لكن صوت الانفجار لن يُنسى، النازح لا ينجو حقا.. فهنا، لا ملاذ آمنا، ولا سكن دائما، ولا حتى جدار يقي، ولا نافذة تطل على فجر واضح.
في زمن الحرب.. حتى النجاة قصة تحتاج إلى عزاء.
