
افراسيانت - السيد شبل - لم تعد مواجهة العقوبات الغربية على روسيا، مجرد قرارات ظرفية. بل تطوّرت تدريجياً لتصبح استراتيجية اقتصادية شاملة تتعامل مع العقوبات بوصفها "بيئة دائمة" أكثر من كونها "أزمة طارئة".
تدرك موسكو أن العقوبات الغربية ليست مجرد إجراءات ضغط ظرفيّة، بل بنية استراتيجية دائمة تُستخدم لإعادة صياغة ميزان القوى العالمي وتقييد قدرات الدول الصاعدة. هذا الإدراك دفع روسيا إلى خوض مسار طويل لبناء اقتصاد مقاوِم للعقوبات، تم فيه المزج بين التحصين الداخلي، والتحالف مع الأنظمة التي تتبنى نهجاً رافضاً للهيمنة الأميركية، مع تطوير أدوات مالية وتجارية بديلة بهدف تقليص نفوذ واشنطن.
ومع اشتداد المواجهة الروسية–الغربية بعد حرب أوكرانيا التي اندلعت في فبراير/شباط 2022، وفي ضوء سعي موسكو لتجاوز العقوبات التي اقترب عددها من 31 ألفاً (بحسب منصات تحليلية مستقلة)، بدأت ملامح مشروع أوسع تظهر، فثمة محور دولي يتشكل تدريجياً لمناهضة العقوبات الأميركية، والحدّ من قدرة واشنطن على استخدام الدولار كسلاح جيوسياسي (de-dollarization).
التحصين الاقتصادي: من ردّ الفعل إلى استراتيجية دولة
لم تعد مواجهة العقوبات الغربية على روسيا، خصوصاً بعد عام 2014 ثم 2022، مجرد إجراءات ترقيعية أو قرارات ظرفية. بل تطوّرت تدريجياً لتصبح استراتيجية اقتصادية شاملة تتعامل مع العقوبات بوصفها "بيئة دائمة" أكثر من كونها "أزمة طارئة".
هذه المقاربة الجديدة دفعت موسكو إلى بناء منظومة متكاملة من الأدوات الاقتصادية التي تعزّز قدرتها على الصمود أمام الضغوط الخارجية. ويمكن اختصار أبرز المسارات التي تحركت فيها روسيا في ثلاثة محاور رئيسية:
أولاً، تعزيز الاكتفاء الذاتي في الغذاء والدواء والصناعات الثقيلة:
فبعد فرض العقوبات الغربية عام 2014، جرى منع روسيا من استيراد معظم المنتجات الزراعية الأوروبية. لكن النتيجة جاءت معاكسة للتوقّعات، إذ تضاعف إنتاج الألبان واللحوم والدواجن، وتحوّلت روسيا إلى أكبر مصدّر للقمح في العالم لسنوات متتالية، إذ بلغت صادراتها نحو 57 مليون طن في موسم 2024-2025، رغم التحديات اللوجستية.
أما في ملف الدواء، فقد توسعت الحكومة الروسية في برامج "الاعتماد على الذات"، فارتفعت نسبة الأدوية المصنّعة محلياً إلى حوالي 70% من الحزم المباعة في 2023-2024 (وفقًا لـ DrugPatentWatch ووزارة الصناعة والتجارة الروسية)، مقارنة بـ 55% بنهاية العقد الماضي، أمّا فيما يتعلق بمواد الخام المستوردة من الخارج، فكان الاعتماد بالأساس على كلٍ من الصين والهند.
وعلى مستوى الصناعات الثقيلة، فقد زادت شركات مثل روستيك (Rostec) وأورالفاغونزافود (Uralvagonzavod) من إنتاجها للمكونات المحلية للطائرات والمُعدّات العسكرية/المدنية، رغم العقوبات، إذ ارتفع الإنتاج بنسبة 20-30% في بعض القطاعات منذ 2022، وإن كان بعض التحديات لا يزال قائماً في ما يتعلق باستيراد الرقائق الإلكترونية، على سبيل المثال.
لكنّ هذا لا يعني أن العقوبات كانت بلا أثر، فثمة تحديات حقيقية ضربت الاقتصاد الروسي في المراحل الأولى. غير أنّ نقطة التحوّل جاءت مع اعتماد الحكومة حزمة إجراءات عاجلة وواقعية، بالتوازي مع توسيع التعاون مع الحلفاء، ما سمح بتجاوز الصدمة وتعظيم المكاسب الممكنة. ومع هذا المسار الذي ركّز على تقليل الاعتماد على الخارج وتعزيز الإنتاج المحلي، أصبحت موسكو اليوم لا تكتفي بالصمود، بل تقدّم نموذجاً اقتصادياً قادراً على تحقيق نتائج ملموسة رغم الحصار الغربي.
ثانياً، تطوير بدائل مالية لنظام سويفت الغربي:
عملت روسيا على بناء منظومة مالية موازية حتى لا تبقى رهينة للنظام الغربي، وأظهرت مرونة اقتصادية مذهلة، فأثبتت زيف رهانات صندوق النقد الدولي، الذي توقّع خبراؤه انكماش الناتج المحلي بنسبة 8.5%، بينما بلغت نسبة الانكماش 2.1% فقط في 2022، قبل أن يبدأ الناتج في النمو مجدداً بنسبة 3.6% في 2023 و3.9% في 2024.
أما أهم الوسائل التي اعتمدتها الحكومة الروسية لتجاوز الهيمنة المالية الغربية، فجاءت كالتالي:
أ - نظام SPFS (نظام تحويل الرسائل المالية الروسي)، وهو البديل الروسي المباشر لسويفت، وكانت بدايته داخل روسيا، ثم توسّع ليشمل بنوكاً من دول صديقة، ويضم حالياً أكثر من 500 مؤسسة مالية داخل روسيا، وحوالى 177 مؤسسة من 24 دولة أخرى (منها الصين، أرمينيا، بيلاروسيا، كازاخستان، طاجيكستان، قيرغيزستان، وعدد من دول الخليج وآسيا)، ورغم أنه لا يزال أصغر بكثير من سويفت، إلا أنه يغطي معظم التحويلات المالية مع الدول التي تتعامل مع روسيا بكثافة.
ب - بعد خروج فيزا وماستركارد من روسيا عام 2022، أصبح نظام "مير" (MIR) هو البديل الوطني الرئيسي. واليوم يستخدم أكثر من نصف الروس بطاقات مير يومياً، أما خارج روسيا، فتعمل MIR حالياً في نحو 10-12 دولة (مثل تركيا لفترة ثم توقفت، إيران، فنزويلا، كوبا، فيتنام، كوريا الجنوبية جزئياً، وبعض دول رابطة الدول المستقلة). وهناك خطط لإضافتها في دول أخرى مثل مصر والإمارات وتايلاند.
ج - السعي لتجاوز الدولار، عبر الاعتماد على العملات المحلية، وأبرز مثال على ذلك هو أنّ حصة العملات الوطنية في التجارة الروسية الصينية بلغت 99%، بحسب تصريحات نائب رئيس الوزراء الروسي، ألكسندر نوفاك، الشهر الماضي.
كذلك تُسوّى معظم صفقات النفط مع الهند بالروبية وبالروبل أو بالدرهم الإماراتي، وقليل جداً استخدام الدولار؛ وهناك أيضاً نسبة كبيرة من العمليات التجارية التي تتم مع تركيا وإيران وبعض دول الخليج يُعتمد فيها على العملات المحلية.
ثالثاً، بناء احتياطيات ضخمة من الذهب وتقليل الاعتماد على الدولار:
منذ سنوات طويلة قبل الحرب في أوكرانيا، اتخذت روسيا قراراً استراتيجياً بأن "الدولار سلاح يُمكن أن يُستخدم ضدها يوماً ما"، فبدأت حملة مُنظّمة لتقليل التبعية له وتعزيز الاحتياطيات بالذهب والعملات الصديقة.
فبداية من عام 2008 تحديداً، بدأت روسيا حملة منهجية لتحصين نفسها عبر شراء كميات هائلة من الذهب كل عام، حتى وصل احتياطيها خلال العام الجاري إلى أكثر من 2300 طن، وفقاً لبيانات البنك المركزي الروسي، وهو أعلى مستوى منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، ما يضع روسيا بين أكبر خمس دول في العالم من حيث احتياطيات الذهب. وفي ظل الارتفاع المستمر لأسعار المعدن النفيس، قُدّرت قيمة هذه الاحتياطيات بمئات مليارات الدولارات، ما يعزز من قدرة روسيا على توفير "غطاء مالي ذهبي" واقتصادي مستقل، ويعكس بوضوح سعيها لتقليل الاعتماد على العملات الغربية.
وكانت روسيا، في الوقت نفسه، قد قلّصت حيازتها من الدولار واليورو بشكل دراماتيكي: من أكثر من 40% في 2014 إلى 16% فقط للدولار وأقل من 20% لليورو بنهاية 2021، واستبدلتها بالذهب واليوان الصيني الذي أصبح يُشكّل نحو 17-18% من الاحتياطيات.
لذا عندما جمّد الغرب 300 مليار دولار من أصول البنك المركزي الروسي في 2022، لم يكن هذا الرقم يُمثل سوى نصف الاحتياطيات الكلية التي كانت تبلغ حوالي 630-640 مليار دولار، أما الجزء الآخر فكان ذهباً مخزّناً داخل روسيا أو يواناً في بنوك صينية أو عملات أخرى لا يستطيع الغرب الوصول إليها. لذلك لم يسقط الروبل ولم يتوقف البنك المركزي عن العمل كما راهن الكثيرون في الغرب.
روسيا من الدفاع إلى الهجوم: إعادة هندسة النظام المالي العالمي
تحولت العقوبات الغربية على روسيا من مجرد أداة للضغط إلى عامل مُحفّز لبناء تحالفات دولية واسعة، تهدف إلى إعادة تشكيل النظام المالي العالمي وجعله أكثر قدرة على الصمود أمام الضغوط الغربية. موسكو اليوم تركّز على تحييد ما تعتبره الأسلحة الاقتصادية لأميركا، وغيرها من العواصم الغربية، والتي تُستخدم كوسيلة ضغط على أي دولة تسعى إلى الحفاظ على استقلالها السياسي والاقتصادي.
وقد نجحت روسيا على مدار العامين الماضيين في توقيع عدد من الاتفاقيات الثنائية مع دول متضررة بالفعل من العقوبات أو لديها موقف مبدئي رافض للهيمنة الاقتصادية الأميركية، إذ تم توقيع اتفاقية شراكة استراتيجية مع فنزويلا في مايو/أيار 2025، خلال زيارة الرئيس الفنزويلي مادورو لموسكو، وبحسب التصريحات الرسمية الصادرة عقب التوقيع، ركّز الجانبان على تعزيز التعاون النفطي والغازي، وتطوير "بنية مالية مستقلة" عن النظام الغربي، بما يشمل توسيع استخدام العملات الوطنية في التجارة الثنائية، خصوصاً في قطاع الطاقة.
كما عززت موسكو علاقاتها مع بيلاروسيا ضمن الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، ووقعت معاهدة شراكة شاملة مع كوريا الشمالية تتكون من 23 مادة، تُغطي صور التعاون السياسي والتجاري والعسكري كافة، إضافة إلى ذلك ساندت كوبا، عبر رفض العقوبات الأميركية الجديدة على نظامها في يوليو/تموز 2025، ودعمت قرار الأمم المتحدة الشهر قبل الماضي، الذي يدين الحصار الأميركي المفروض على كوبا منذ عام 1962، وهو بالمناسبة القرار الرقم 33، الذي تمتنع واشنطن عن تنفيذه.
أما عن إيران، فقد وقّع البلدان اتفاقية شراكة استراتيجية شاملة في يناير/كانون الثاني 2025، بهدف تحسين العلاقات وتوسيع التعاون الاقتصادي، وتخفيف تأثير العقوبات الأميركية. وبحسب تقرير وكالة تاس (TASS)، مطلع العام الجاري، فإن حوالى 96% من التجارة الثنائية بين البلدين تجري بالعملات الوطنية، مع نمو التجارة بنسبة 15% لتصل إلى 4 مليارات دولار. وهناك مخططات لإيصال حجم التبادل التجاري إلى 10 مليارات دولار بحلول عام 2027.
في السياق ذاته تُمثّل العلاقات بين روسيا والصين واحدة من أبرز التحالفات الجيوسياسية في العالم المعاصر، إذ تُوصف بـ"الشراكة الاستراتيجية الشاملة" التي لا حدود لها (no-limits partnership)، كما أعلنها الرئيسان فلاديمير بوتين وشي جين بينغ عام 2022.
هذه العلاقات تقوم على معارضة مشتركة للنظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، وقد شهد التعاون بين البلدين تعزيزاً ملحوظاً خلال الفترة الماضية، إذ بلغت التجارة الثنائية مستويات قياسية، فارتفعت بنسبة 60% بين عامي 2021 و2024. وتُعدّ روسيا هي المورد الرئيسي للنفط للصين، وهو ما دفع واشنطن إلى التهديد بفرض عقوبات إضافية على بكين بسبب تعاونها مع موسكو.
أما على الصعيد الدولي، فقد دفعت روسيا بالعقوبات إلى خارج إطارها الثنائي مع الغرب، محوّلة إياها إلى قضية عالمية تتصل بمستقبل النظام المالي الدولي. فموسكو لم تكتفِ بالرد على الإجراءات الأميركية والأوروبية، بل سعت إلى خلق إجماع دولي حول ضرورة تقليص قدرة واشنطن على استخدام الدولار كسلاح اقتصادي.
وقد ظهر هذا الاتجاه بوضوح في قمة بريكس 2025 بالبرازيل، إذ أدان البيان الختامي العقوبات الأميركية، واعتبرها تهديداً لاستقرار النظام الاقتصادي العالمي.
روسيا وبناء كتلة اقتصادية موازية
روسيا لم تعد تتحرك منفردة في مواجهة الهيمنة المالية الغربية، بل باتت جزءاً من حراك دولي واسع يقوده عدد من القوى الصاعدة. يتجلّى ذلك في تشجيع الدول على تسعير النفط والغاز بعملاتها المحلية، وفي إنشاء نظم دفع إقليمية مستقلة لا تمر عبر البنى الغربية، إلى جانب تطوير سلاسل توريد بديلة، وتعزيز التحالفات الاقتصادية داخل البريكس ومنظمة شنغهاي.
هذا التعاون المتنامي أدى إلى توسع غير مسبوق للبريكس ليشمل دولاً نفطية وآسيوية وأفريقية تتمتع بقدرات مالية وطاقية مستقلة، وخلق رغبة جماعية في تقليص الاعتماد على الدولار في تجارة الطاقة والمواد الخام، إضافة إلى تنسيق المواقف داخل المؤسسات الدولية لإعاقة الضغوط المالية الأميركية، وظهور خطاب جديد حول "السيادة الاقتصادية" في مواجهة الهيمنة الغربية.
وتحمل هذه التحركات تداعيات استراتيجية بعيدة المدى، فإذا نجحت تلك الجهود في بناء كتلة اقتصادية محصّنة من العقوبات الأميركية، فإن النظام الدولي سيتجه نحو تعددية مالية تكسر احتكار الدولار، وسيضعف النفوذ السياسي الذي تمنحه العقوبات لواشنطن، وستشهد تجارة الطاقة تحولات جوهرية مع انتشار التسعير بالعملات المحلية. كما ستكتسب عموم دول العالم مساحة أكبر للمناورة بين الشرق والغرب. وفي المحصلة، لم تعد روسيا مجرد دولة تتلقى العقوبات الغربية، بل أصبحت لاعباً طموحاً يسعى إلى صياغة نظام اقتصادي عالمي بديل، يجمع دولاً تسعى إلى التحرر من قبضة الدولار وإعادة تشكيل ميزان القوة الاقتصادية على نحو تاريخي.

