
افراسيانت - د. هشام عوكل - في اللحظة التي كان العالم منشغلاً بخطة ترامب لإنهاء الحرب في أوكرانيا. كانت التفاصيل الأكثر خطورة تتسلّل من بين السطور لا من داخل الوثيقة نفسها. فالخطة التي صاغها ويتكوف وكوشنر في جلسات مغلقة مع كيريل دميترييف. الرجل الذي لمع اسمه في كل زاوية مظلمة من علاقات موسكو – واشنطن. كشفت شيئاً أكبر من مجرد محاولة “إطفاء حرب”. الخطة بدت أقرب إلى هندسة جديدة للنظام الدولي عبر إقصاء الخارجية الأميركية. تجاوز الناتو. وتطويق الأوروبيين. ولكن وسط كل هذا ظهرت تسريبات إعلامية تطرح سؤالاً أثقل من حجمه. هل يستعد ويتكوف للقفز من كييف إلى غزة؟ وهل اللقاء المتوقع أو المرشّح إعلامياً بينه وبين القيادي في حماس خليل الحَيّة هو مجرد حاشية جانبية. أم الصفحة الأولى في صفقة الشرق الأوسط القادمة؟
حكاية خطة و28 بنداً… ومطبخ بلا شفّافيات الخطة الأميركية الأوكرانية بُنيت في غرفتين. الأولى في ميامي مع دميترييف. والثانية في البيت الأبيض مع فريق ترامب الضيّق. أما الخارجية الأميركية. الناتو. الأوروبيون. والأوكرانيون أنفسهم. فكانوا مجرد قرّاء متأخرين للوثيقة. لم تكن المشكلة في البنود فقط. بل في الطريقة. إعفاء خاص لدخول دميترييف رغم العقوبات. استبعاد مبعوث أوكرانيا الرسمي. وتهديد مباشر لزيلينسكي بأن يختار بين فقدان الكرامة أو فقدان الحليف. النتيجة. خطة تبدو كأنها مكتوبة في القاعة الجانبية للكرملين مع توقيع أميركي في آخر الصفحة.
. هندسة النظام الدولي: من كييف إلى غزة؟
لكن السؤال الذي يفتح شهيّة التحليل: لماذا يصبح ملف أوكرانيا فجأة متشابكاً مع ملف غزة؟ ولماذا تشير الصحافة العالمية إلى احتمال لقاء بين ويتكوف والحَيّة في المستقبل القريب رغم عدم وجود تأكيد رسمي؟
الجواب لا يحتاج بحثاً بعيداً. فالمنطق الأميركي الجديد عن دونالد ترامب يقوم على قاعدة واضحة. أغلق الجبهات. حرّك القطع. وابدأ بترتيب الشرق الأوسط قبل أن ترتّبه موسكو وطهران وأنقرة. وبهذا المنطق يصبح الملف الفلسطيني امتداداً طبيعياً لما يجري في أوكرانيا. لا العكس. إذا التقى ويتكوف بالحَيّة… فماذا يعني ذلك؟ حتى الآن لا توجد معلومات مؤكدة.
لكن مجرد ترشيح هذا اللقاء إعلامياً يكشف ثلاثة مسارات استراتيجية. 1) احتواء حماس وليس إسقاطها تاريخ واشنطن علّمنا أن من يريد إنهاء حركة مسلّحة لا يرسل لها ويتكوف. بل يرسل القوة العسكرية أو الضوء الأخضر لها. أما إرسال رجل صفقات ترامب إن حصل فيعني شيئاً آخر. تحويل حماس من لاعب مواجه إلى لاعب مستثمر. تماماً كما حدث مع فصائل أخرى في المنطقة.
من الحرب إلى الشراكة الأمنية إلى الاقتصاد. 2) تسليم مفاتيح غزة إلى التحالف الأميركي – العربي ليس سرّاً أن إدارة ترامب السابقة والحالية تفكّر بغزة كأساس مشروع اقتصادي قبل أن تكون قضية سياسية. وبحسب تسريبات عديدة يشبه المشروع التالي. منطقة تساعد على إعادة الإعمار مقابل التهدئة. وممر اقتصادي. وحياة مدنية بلا سلاح ثقيل. وبقاء من يوافق على فكرة التعايش.
وبالمقابل ترحيل أو تحييد العناصر المسلّحة الرافضة للمسار الجديد. اللقاء إن حصل يضع حماس أمام لحظة تشبه لحظة حزب الله بعد 2006. إما تسليم قرار الحرب للدولة. أو الخروج من المشهد السياسي. 3) نهاية القضية الفلسطينية… أم بداية مرحلة بلا سلاح؟ هنا يدخل السؤال الأخطر. هل ما يجري هو محاولة لتصفية القضية الفلسطينية. أم محاولة لإعادة صياغتها وفق ميزان جديد؟ المؤشرات تقول.
إسرائيل تريد غزة ضعيفة. العرب يريدون غزة مستقرة اقتصادياً. أميركا تريد غزة بلا سلاح ثقيل. أوروبا تريد منع الهجرة والتطرّف. والناس في غزة يريدون فقط البقاء أحياء. فإذا وضعنا هذه المصالح فوق بعضها يظهر مسار واحد. غزة بلا سلاح. وبلا مقاومة مسلحة. وبلا قدرة على فرض واقع سياسي مستقل. وهذا المسار يفسّر. لماذا يرتبط ملف غزة الآن بملف أوكرانيا؟ ولماذا تضغط واشنطن على كييف لتوقيع اتفاق ينهي إحدى الجبهات قبل فتح الجبهة الأخرى؟
من كييف إلى غزة: العالم يتغيّر ترامب يريد. إنهاء حرب أوكرانيا. وقف تمدد روسيا. ضبط إيران. إعادة هندسة الشرق الأوسط. وكتابة اتفاق غزة قبل أن تصل موسكو أو بكين إلى القطاع. لكن هذه المرة يريد فعل كل ذلك من دون أوروبا. ومن دون المؤسسات الأميركية التقليدية. الطريقة نفسها. غرفة صغيرة. فريق ضيّق. صفقات تُكتب في الظل ثم تُفرض على اللاعبين.
خاتمة زاوية حادة: سؤال المستقبل إذا كان ويتكوف قد صاغ خطة أوكرانيا مع دميترييف بعيداً عن الخارجية الأميركية. وإذا كان الرجل نفسه مرشحاً للقاء الحَيّة بناءً على ترشيحات إعلامية. فإن السؤال يصبح. هل تستعد واشنطن لكتابة صفقة غزة بالطريقة نفسها؟
وهل سيُطلب من الفلسطينيين كما طُلب من الأوكرانيين التوقيع بين خيارين فقدان الكرامة أو فقدان الحليف؟ هذا هو السؤال الذي سيحدّد شكل الشرق الأوسط ما بعد 2025.
د. هشام عوكل – أستاذ إدارة الأزمات والعلاقات الدولية.
