
افراسيانت - ليلى نقولا - مصادرة أصول البنك المركزي تتعارض بشكل صارخ مع مبدأ "الحصانة السيادية للدول" الراسخ في القانون الدولي العرفي، ولا توجد سابقة قضائية تتيح لدولة مصادرة أصول بنك مركزي لدولة أخر.
أعاد الجدل الأوروبي - الغربي حول استخدام الأصول الروسية المجمّدة لتمويل أوكرانيا وإعادة إعمارها (من ضمن السلة المقترحة للحلّ في أوكرانيا) إحياءَ نقاشات تاريخية حول العقوبات الاقتصادية التي فُرضت على ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى في معاهدة فرساي.
ورغم أن التبريرات الأوروبية، تعتبر أن الدافع المبدئي في الحالتين هو تحميل الدولة المعتدية كلفة الحرب، إلا أنّ مقارنة الآليات والنتائج المحتملة تكشف اختلافات جوهرية في البنى السياسية والدولية السائدة بين الحالتين، إضافة الى الكثير من المحاذير القانونية والسياسية التي يجب عدم الوقوع فيها.
ولكي نقيّم مدى قدرة الغرب على فرض هذا البند ضمن الخطة التي وضعها الرئيس الأميركي دونالد ترامب لحل الأزمة الأوكرانية، والتي اعتبر الرئيس فلاديمير بوتين أن هناك أموراً لا توافق عليها، قد يكون من ضمنها موضوع الأموال الروسية المجمدة في الخارج، وللمقارنة بين ما يريده الغربيون اليوم، وما فعله المنتصرون في الحرب العالمية الأولى من فرض "سلام قرطاجي وتعويضات فلكية" على ألمانيا، كما وصفها الاقتصادي جون ماينارد كينز، يمكن الإشارة الى ما يلي:
أولاً- ميزان القوى العسكري
وفق المنظور الواقعي، تُفهم العقوبات وإعادة توزيع الكلفة الاقتصادية للحرب بوصفها تعبيراً عن توازنات القوة، حيث يفرض المنتصر على المهزوم شروطه ويطالبه بالتعويضات.
في عام 1919، كانت ألمانيا دولة مهزومة عسكرياً، خاضعة للاحتلال، وتفتقر إلى القدرة على الاعتراض. شكّل ميزان القوى هذا أساساً يسمح بفرض تعويضات مالية فلكية من دون اعتبار لقدرة ألمانيا الاقتصادية أو ردود الفعل المستقبلية.
في المقابل، روسيا اليوم ليست دولة مهزومة، ولا تزال تحتفظ بقوة عسكرية ضخمة ونفوذ جيوسياسي واسع، إضافة إلى ترسانة نووية تجعل الضغط المباشر عليها محفوفاً بالمخاطر.
عني ذلك أنّ الشروط الواقعية التي مكّنت القوى الأوروبية من فرض نظام فرساي لا تتوافر في السياق الحالي، وهو ما يفسّر عجز أوروبا عن مصادرة الأصول الروسية بشكل كامل أو استخدامها من دون حسابات دقيقة. الضغط على قوة نووية تحقق تقدماً عسكرياً على الأرض وتقضم الجغرافيا الأوكرانية (ولو ببطء) لا يشبه الضغط على دولة مهزومة مجردة من القدرة على الرد.
ثانياً – القانون الدولي
لا يوجد اليوم أي إطار قانوني دولي يكرّس حق مصادرة أموال دولة ذات سيادة من دون معاهدة سلام أو حكم قضائي دولي.
كانت معاهدة فرساي اتفاقاً دولياً رسمياً ملزماً وقّعت عليه ألمانيا مكرهة بفعل الهزيمة. قانونياً، تنازلت ألمانيا عن سيادتها المالية بموجب توقيعها.
وعليه، إن مصادرة أصول البنك المركزي تتعارض بشكل صارخ مع مبدأ "الحصانة السيادية للدول" الراسخ في القانون الدولي العرفي، ولا توجد سابقة قضائية تتيح لدولة مصادرة أصول بنك مركزي لدولة أخرى لم تعلن الحرب عليها رسمياً (الغرب ليس في حالة حرب معلنة مع روسيا)، ومن دون قرار من مجلس الأمن. وعليه، يريد الغرب من روسيا أن توقّع على هذا البند من ضمن سلة الشروط التي تتضمنها اتفاقية ترامب للسلام.
يدرك الأوروبيون أن استخدام الأصول الروسية من دون احترام الأصول القانونية سيشكّل سابقة خطيرة قد تؤدي إلى فقدان الثقة الدولية بالأسواق الأوروبية، وهروب رؤوس الأموال من الاتحاد الأوروبي إلى مناطق أكثر استقراراً قانونياً، إضافة الى خطر قيام الروس بفتح دعاوى قضائية تمتد عقوداً وتقوّض الثقة بحكم القانون في الاتحاد.
تقدّر الأصول الروسية المجمّدة بنحو 300 مليار دولار، والسماح بالتصرف بها سيشكّل سابقة تهدد حصانة الأصول السيادية لجميع الدول، وهو ما دفع أوروبا إلى التصرف بالفوائد العائدة لتلك الأصول لا بالأصول نفسها.
ثالثاً- المخاطر المالية
يعتمد اليورو والدولار كعملتي احتياط عالميتين استناداً الى ركيزتي "سيادة القانون" و"حماية الملكية"، وبالتالي، إن مصادرة أصول دولة ذات سيادة من دون حكم قضائي دولي سوف يرسل إشارات ذعر إلى الدول الأخرى تدفعها إلى تنويع احتياطياتها والهرب من الأسواق المالية الغربية، ما يضعف النفوذ المالي الغربي على المدى الطويل.
في المقابل، تحتفظ روسيا بأصول غربية داخل ولايتها القضائية، تقدّر بمليارات الدولارات، ما يعني أن روسيا يمكن أن تقوم بالمثل وتصادر أموال الشركات الغربية.
النتيجة، هذه المخاطر إضافة إلى التعقيدات القانونية، دفعت العديد من الدول الأوروبية إلى عدم الموافقة سابقاً على مصادرة واستخدام الأصول الروسية، لأنها تدرك أن مصادرة الأصول ستخلق سابقة قانونية قد تطاردها لاحقاً. كسر الحصانة السيادية للبنوك المركزية هو "صندوق باندورا" لا يريد الغرب فتحه.

