
افراسيانت - أشعلت تصريحات الإعلامي المحافظ تاكر كارلسون عن "التطرف الإسلامي" عاصفة من الجدل داخل اليمين الأميركي، كاشفةً عن انقسامات عميقة داخل حركة "لنجعل أميركا عظيمة مجددا" "ماغا" بين جناح يرفض التدخلات الخارجية ويخضع دعم واشنطن لإسرائيل للمراجعة، وآخر يرى في هذا الخطاب تهديدا مباشرا للأمن القومي والهوية المحافظة.
ويُعد كارلسون يمينيا انعزاليا يريد للولايات المتحدة الأميركية وأغلبيتها المسيحية البيضاء أن تصبح عظيمة من جديد، ولهذا فهو يرى أنه لتحقيق ذلك فلابد ألا تدخل البلاد في حروب ليس لها فيها ناقة ولا جمل لمصلحة دولة الاحتلال الإسرائيلي، كما أنه لا يريد أن يصبح لإسرائيل ذلك النفوذ الضخم على بلاده.
وفي تقرير إخباري، نقلت مجلة نيوزويك عن كارلسون القول -خلال ظهوره في برنامج البودكاست الشهير: (الأميركي المحافظ /The American Conservative)- إنه لا يعرف أي شخص في الولايات المتحدة خلال السنوات الـ24 سنة الماضية قُتل على يد الإسلام المتطرف.
واعتبر كارلسون أن الخطر الحقيقي الذي يواجه الولايات المتحدة يكمن في الانتحار، والإدمان، وتفكك المجتمع، وليس في "التطرف الإسلامي".
بل ذهب أبعد من ذلك حين اتهم الحكومة الإسرائيلية ومؤيديها في الولايات المتحدة بالترويج لفكرة أن "الإسلام المتطرف" يمثل التهديد الأول لأميركا.
وتابع قائلا: "أعرف كثيرا من الناس أقدموا على الانتحار، وآخرين ماتوا بسبب الجرعات الزائدة من المخدرات. وأعرف أشخاصا لا يستطيعون الحصول على وظائف … هؤلاء الأولاد البيض يتعرضون للتدمير بسبب العقار المنبِّه (أديرال) وألعاب الفيديو والإباحية".
وقد أثارت هذه التصريحات ردود فعل غاضبة على منصات التواصل الاجتماعي من شخصيات يمينية بارزة، في مقدمتها الناشطة اليمينية المتطرفة لورا لومر، التي اتهمت كارلسون بالكذب وبالتغطية على ما تصفه بــ"الإرهاب الإسلامي"، كما انضم إلى الانتقادات عدد من المعلقين المحافظين الذين اعتبروا كلام كارلسون إنكارا لوقائع أمنية وسياسية معروفة.
في المقابل، دافعت عضو مجلس النواب السابقة عن الحزب الجمهوري، مارجوري تايلور غرين، عن كارلسون مؤكدة صداقتها معه، ومشيدة بإيمانه وحبه للولايات المتحدة، في موقف يعكس اصطفافها الواضح مع تيار (أميركا أولا) الرافض لتورط واشنطن في نزاعات خارجية، وعلى رأسها دعم إسرائيل في حربها مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس).
وبحسب نيوزويك، فإن هذه المواجهة العلنية تعكس شرخا عميقا داخل حركة ماغا، بين جناح قومي انعزالي يشكك في التحالفات الخارجية الأميركية، وجناح جمهوري تقليدي يرى في دعم إسرائيل جزءا أساسيا من المصالح والقيم الأميركية.
كما تأتي هذه الأزمة في سياق توترات سابقة داخل المعسكر نفسه، شملت مقابلات مثيرة للجدل أجراها كارلسون وخلافات علنية بين غرين والرئيس دونالد ترامب.
واختتمت المجلة تقريرها محذرة من أن انقسام المحافظين حول قضايا محورية قبيل انتخابات التجديد النصفي العام المقبل، قد يؤثر على مستقبل الحزب الجمهوري.
تاكر كارلسون.. المنشق عن "شياطين" الغرب
في منطقة معزولة بقلب غابات ولاية ماين الأميركية وفي منزل خشبي في بلدة وودستوك الصغيرة كان تاكر كارلسون المذيع السابق في قناة فوكس نيوز ينام في هدوء تحيط به أشجار الصنوبر الكثيفة بعيدا عن صخب واشنطن.
في هذا المكان -الذي وصفه كارلسون يوما بأنه "مكانه المفضل في العالم"- حدث التحول الكبير.
وفي رواية قد تبدو للوهلة الأولى ضربا من الهذيان أو فصلا من رواية رعب يروي كارلسون في مقطع مرئي نُشر قبل عام تقريبا، حادثة وقعت له في سريره داخل ذلك الكوخ، وهو يؤكد على أن ما سيرويه حقيقي تماما، إذ يقول إنه استيقظ ذات ليلة على ألم حاد وضيق في التنفس وكأن قوى غير مرئية تطبق على صدره وتخنقه.
لم يكن الأمر كابوسا عابرا، فعندما أضاء النور وتفقّد جسده وجد علامات مخالب دامية، 4 جروح ملموسة تحت ذراعيه وعلى كتفه، وكأن حيوانا هاجمه أثناء نومه.
ويضيف كارلسون أن زوجته -التي تنام بجانبه- وكلابهما الأربعة التي تتشارك معهما الغرفة لم يستيقظ أي منهم، لم تنبح الكلاب، ولم تشعر الزوجة بشيء، بقي هو وحده ينزف في صمت.
وعندما سأل مساعدته -وهي مسيحية إنجيلية متدينة- عن تفسير ما حدث أجابته بهدوء بارد مثل الطقس في الخارج "أوه نعم، هذا يحدث، الناس يتعرضون لهجمات من الشياطين أثناء نومهم في أسرّتهم".
كانت هذه القصة -التي رواها كارلسون في مقطع ترويجي لفيلم وثائقي بعنوان "المسيحيات"- بمثابة حجر الزاوية في التحول الأيديولوجي والروحي العميق الذي يعيشه الرجل، فبين يوم وليلة لم يعد العالم بالنسبة له ساحة للصراع السياسي بين الجمهوريين والديمقراطيين، أو بين المحافظين والليبراليين بشأن الضرائب والهجرة.
لقد انزاحت الستارة لتكشف عن معركة أو حرب روحية شاملة بين الخير والشر، بين قوى النور وقوى الظلام التي تترك ندوبا حقيقية على الأجساد والأرواح.
هذا الإطار الماورائي يُعد مفتاحا لفهم التحول الجذري بحسب ما يروي هو عن ذاته، فكيف لرجل بنى مجده الإعلامي على القومية البيضاء والتحذير من المهاجرين والدفاع عن "الحضارة الغربية" أن يصبح فجأة أحد أشد مهاجمي إسرائيل، بل الصوت الأبرز الذي يتبنى رواية الفلسطينيين في اليمين الأميركي؟
وكيف تحول من نجم المحافظين المدلل إلى "مهرطق" يتهمه السفراء وأعضاء مجلس الشيوخ بمعاداة السامية وكره إسرائيل؟
ربما تكمن الإجابة عنده في تلك الليلة الدامية بالغابة في ماين، فإذا كان العالم ساحة معركة بين الخير والشر المطلقين تصبح التحالفات السياسية التقليدية بلا معنى.
وإذا كانت القوى التي تحكم واشنطن قوى "معادية للإنسان" و"شيطانية" كما يصفها كارلسون فإن كل ما تدعمه هذه القوى -بما في ذلك الحروب في الشرق الأوسط والتحالف غير المشروط مع إسرائيل- يصبح موضع شك في أفضل الأحوال أو رفض ديني لاهوتي في أسوئها.
وهنا، في هذا الكوخ الخشبي المضاء بالشموع ووسط جدران مزينة ببنادق الصيد انتقل كارلسون من "أميركا أولا" إلى "المسيح أولا"، وفي هذا المكان خطط لحرق الجسور مع أقرب حلفائه الذين ظلوا كذلك لسنوات طويلة.
ولفهم الزلزال السياسي الذي أحدثه كارلسون يجب أن نعود قليلا إلى الوراء، إلى اللحظة التي تحطم فيها منبره التقليدي، ففي أبريل/نيسان 2023 استغنت قناة فوكس نيوز عن خدماته بشكل مفاجئ رغم كونه المذيع الأعلى تصنيفا في تاريخ القناة وتاريخ التلفزيون الأميركي.
كانت تلك محاولة إسكات من قبل المؤسسة الإعلامية المحافظة التي بدأت تشعر بأن كارلسون تجاوز الخطوط الحمراء المرسومة له.
لكن بدلا من أن يختفي انسحب كارلسون إلى أستوديو بناه في مرآب قديم اشتراه بـ30 ألف دولار في بلدة وودستوك بولاية ماين، وأضاف إليه تحسينات بآلاف الدولارات من ماله الخاص.
ومن هذا الأستوديو الريفي المتحرر من قيود الإعلام التقليدي وضغوط الجمهوريين أطلق كارلسون منصته الجديدة على منصة إكس.
وفي هذا الفضاء الجديد لم يعد كارلسون مضطرا إلى تجميل آرائه أو الموازنة بين "الترامبية" وبين مصالح الحزب الجمهوري، لقد أصبح حرا في قول ما لا يقال.
وفي قلب هذا الخطاب الجديد برزت قضايا السياسة الخارجية- وتحديدا العلاقة مع إسرائيل- كأداة مركزية لتفكيك ما يسميه نفاق النخبة الحاكمة في أميركا.
لم يكن أحد يتخيل قبل سنوات أن تصبح لآراء تاكر كارلسون وبرامجه ومداخلاته تلك الشعبية الصاعدة في العالم العربي والإسلامي، إذ لطالما كان كارلسون في الجهة المقابلة تماما من هذا العالم، لكن التحولات العميقة تلك -والتي لم يكن يتصورها أحد أن تأخذ هذا المنحى المفاجئ- غيرت كل شيء.
صارت مداخلات ولقاءات كارلسون تترجم للعربية وتحظى باحتفاء واسع بين الناطقين بها ويعود ذلك في المقام الأول إلى انتقاداته اللاذعة لدولة الاحتلال الإسرائيلي وفتحه مجالا غير مسبوق للمدافعين عن الحقوق الفلسطينية من خلال برنامجه، هذا فضلا عن لقاءاته الإعلامية التي أحرج فيها بشدة مسؤولين بارزين في الإدارة الأميركية فيما يخص السياسة الأميركية العدائية تجاه العالم الإسلامي.
مواقف كارلسون الأخيرة -التي مكنته من حشد شعبية غير متوقعة بين المسلمين في الولايات المتحدة الأميركية وفي العالم الإسلامي وبين المتعاطفين مع القضية الفلسطينية عموما- دفعت معلقة سياسية من أقصى اليمين المتطرف تصف نفسها بأنها "فخورة برهابها من الإسلام" -وهي لاورا لومير- إلى أن تشن هجوما لاذعا على كارلسون الذي يشاركها في الأرضية اليمينية المحافظة وتقول إنه أصبح متحكما فيه من قبل المسلمين.
وادّعت أنه يتلقى أموالا من دول إسلامية لترويج خطابات مؤيدة للإسلاميين ومعادية للولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، وهو الأمر الذي يظهر من تقرير مفصل للإندبندنت البريطانية أنه ليس صحيحا، إذ لا يظهر أي دليل على أن كارلسون قد تلقى أموالا من أي دولة إسلامية ليعمل لحسابها.
مواقف كارلسون المعادية للنزعة الإمبريالية الأميركية مؤخرا جعلته يحصد إعجابا واضحا من اليسار الأميركي الذي عاداه طوال السنوات الماضية، فموقفه المعادي لشن الولايات المتحدة الأميركية الحرب على إيران وإحراجه رجال النخبة الأميركية المتحمسين لتلك الحرب في لقاءاته معهم من خلال إظهار ضعف معرفتهم بالشرق الأوسط وبإيران نفسها قد دفع الإعلامي الأميركي البريطاني مهدي حسن المحسوب على اليسار والمشهور بدفاعه عن القضية الفلسطينية وانتقاده اللاذع لدولة الاحتلال الإسرائيلي أن يقول حينها مازحا: من حقنا أن نعجب بعنصري يؤمن بتفوق العنصر الأبيض مثل تاكر كارلسون لمدة 48 ساعة، لأنه الرجل الوحيد في تلك اللحظة الذي يمارس الصحافة بصدق.
حتى تلك النقطة يمكن تفسير الأمر ببساطة أن كارلسون بحكم كونه يمينيا انعزاليا يريد للولايات المتحدة الأميركية وأغلبيتها المسيحية البيضاء أن تصبح عظيمة من جديد، ومن سبل هذه العظمة من وجهة نظره ألا تدخل البلاد في حروب ليس لها فيها ناقة ولا جمل لمصلحة دولة الاحتلال الإسرائيلي.
كما أنه لا يريد لدولة الاحتلال الإسرائيلي أن يصبح لها ذلك النفوذ الضخم على بلاده، وبالتالي من الطبيعي في هذه النقطة أن تتلاقى مواقفه مع مواقف التقدميين واليساريين والمتعاطفين مع القضية الفلسطينية فقط من باب المصلحة الواحدة.
لكن الواقع أن خطاب كارلسون نفسه تغير على مستويات مختلفة، وفي أحد لقاءاته مع ضيف له على قناته في اليوتيوب صرح تاكر بأنه كان كارها للمسلمين ومهاجما للإسلام، لكنه يتذكر أنه ذات مرة كان يستضيف في هذا الوقت معلقا معاديا للإسلام، وقد قال له هذا المعلق لكي يُظهر له مدى سوء الإسلام من وجهة نظريهما آنذاك إن كلمة "إسلام" تعني في الأساس التسليم لله.
يتذكر كارلسون هذا الموقف ويقول إن شيئا في نفسه كان يقول له إن هذا المعنى جيد في الحقيقة فلماذا نحاول أن نظهر هذا المعنى الجيد بوصفه سيئا؟
يقول كارلسون هذا وهو يتذكر ماضيه الكاره للإسلام ويضحك ضحكته الشهيرة وسط حديثه، ليقول بعدها أنا لست مسلما الآن، بمعنى أن تحوله ليس تحولا للإسلام بقدر ما هو تحول لفهم الإسلام بعيدا عن الانحيازات المسبقة والعنصرية ضد المسلمين.
كذلك، فإن خطاب كارلسون قد تغير من ناحية مهمة أخرى، فالضيوف الذين يستقبلهم مؤخرا وينتقدون دولة الاحتلال الإسرائيلي لا يقيمون خطابهم على أساس براغماتي فقط لتوضيح أن الانحياز لدولة الاحتلال ضار بالولايات المتحدة وإنما هم ومعهم كارلسون الذي يعلق على ما يقولون يبنون جزءا من خطابهم على أساس أخلاقي أيضا.
كارلسون.. الذي كان رمزا لأقصى اليمين
بحلول عام 2020 كان كارلسون تاكر قد وصل إلى ذروة نجاحه باعتباره أبرز معلق وإعلامي من أقصى اليمين في البلاد.
وبحسب "بيزنس إنسايدر" كان برنامج تاكر كارلسون على قناة فوكس نيوز اليمينية آنذاك "تاكر كارلسون الليلة" هو البرنامج الإخباري الأكثر مشاهدة في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية بعدما تمكن من تجميع 4.3 ملايين مشاهد في الربع الأخير من ذلك العام.
حتى تلك اللحظة كان كارلسون متربعا على عرش النجاح كأبرز إعلاميي التيار اليميني، وهو الذي اشتُهر بتعليقاته اللاذعة ضد المهاجرين والنساء والسود، وهو ما جعل عشرات الشركات تتوقف عن عرض إعلاناتها في برنامجه، حتى تنأى بنفسها عن الغضب الكبير الذي تحوزه حلقاته من قطاعات واسعة من الشعب الأميركي الذي يرى في الرجل نموذجا للتطرف اليميني العنصري.
لكن هذا لم يكن عائقا أمامه، فإلى جانب حصوله على نسبة مشاهدات قياسية -بحسب "بيزنس إنسايدر" أيضا- كان كارلسون قد وصل آنذاك إلى وجود إجماع ناشئ في الحزب الجمهوري على أنه ستكون لديه فرصة قوية للغاية للفوز إذا ما ترشح لانتخابات الرئاسة لعام 2024.
كان كارلسون مشهورا للغاية بخطابه المعادي للأقليات، ففي عام 2018 صرّح بأن المهاجرين "سيجعلون الولايات المتحدة الأميركية أفقر وأقذر"، ولم يعتذر كارلسون عن هذا التصريح فيما بعد رغم الغضب الذي تسبب فيه.
وفي عام 2019 وبعد أن نفذ شخص حادثة إطلاق نار جماعي في تكساس، وكان قد ترك بيانا قبل حادثته يتحدث فيه عما سماه "الغزو اللاتيني لتكساس" استفز كارلسون الكثير من المستمعين حيث كان التيار السائد من الإعلام آنذاك يتحدث عن مشكلة العنصرية البيضاء وصعود النظرية العنصرية بشأن تفوق العرق الأبيض بين بعض المتطرفين، في حين علّق كارلسون بأن قصة "التفوق الأبيض" هذه ليست مشكلة حقيقية، بمعنى أن العنصرية البيضاء مشكلة متوهمة وليست حقيقية على أرض الواقع.
كذلك في عام 2020 أثار كارلسون غضب المجتمع الأسود في الولايات المتحدة بشدة حين دافع عن الشاب الذي أطلق النار على شخصين من ذوي البشرة السمراء وقتلهما أثناء احتجاج لحركة "حياة السود مهمة" في ويسكونسن، إذ قال حينها -وفقا للغارديان البريطانية- لماذا نحن مندهشون من أن أعمال النهب والحرق قد أدت إلى أن شابا قد قرر أن يحمل البندقية ليحمي النظام العام، في حين لا يجرؤ أحد على القيام بذلك، بمعنى أن عدم إيقاف أعمال السلب والنهب التي تقوم بها احتجاجات "حياة السود مهمة" -بحسب كارلسون- قد أدت إلى هذا العنف، وهي جذر العنف من الأساس.
ومع بداية العقد الحالي كان تاكر كارلسون لا يزال يلعب الدور نفسه ببراعة، وهو دور المؤثر اليميني الذي يثير الجدل بآراء صادمة للغاية في وقت كانت لا تزال تسيطر فيه اللغة الليبرالية على الخطاب السائد في العالم الغربي.
وبحسب "الغارديان"، فخلال تلك الفترة التي كان كارلسون لا يزال يعمل فيها مع فوكس نيوز كان يروج بالأساس لنظرية الاستبدال العظيم التي تفيد بأن الليبراليين والديمقراطيين في الدول الغربية يزرعون سياسات في الغرب تؤدي في النهاية إلى الاستعاضة عن الناخبين البيض على المدى الطويل بآخرين مهاجرين من أصحاب الأصول العرقية الأخرى والأيديولوجيات غير الغربية.
وبحسب جوي ريد في حوارها مع "الغارديان" -وهي مقدمة برامج في قناة "إم إس إن بي سي" في عام 2022- فإن كارلسون كان أبرز صوت في وسائل الإعلام اليمينية رسخ لنظرية المؤامرة العنصرية.
ووفقا للمؤرخة السياسية نيكول هيمر في جامعة فاندربيلت الأميركية في حوارها أيضا مع "الغارديان"، فإن كارلسون بحلول هذا التوقيت كان قد أصبح الصوت الأبرز لجماعة "لنجعل أميركا عظيمة من جديد" في الحزب الجمهوري، وقد استطاع أن ينسج خطابيا نغمة يمينية محكمة يجد فيها أقصى اليمين ملاذه، وقد كانت تلك النغمة تقوم على فكرة المظلومية البيضاء، أي أن الرجال البيض في المجتمعات الغربية هم من يعانون الآن على مستويات عدة.
وحتى تلك الفترة لم يكن تاكر كارلسون على المستوى العالمي أكثر من صوت يميني زاعق يعرفه البعض بآرائه المتطرفة المعادية للأقليات، لكن ربما يكون التحول الكبير الذي حدث هو تركه قناة فوكس نيوز.
ففي 24 أبريل/نيسان 2023 حين أعلنت "فوكس نيوز" عن الرحيل المفاجئ لتاكر كارلسون كانت تلك نقطة التحول له رغم ما شاب تلك النهاية من مزاعم بأنها جاءت نتيجة تورطه في بث تعليقات هو يعلم أنها غير صحيحة، إذ جاء ذلك الرحيل بحسب "سي إن بي سي" بعد أن رفعت شركة دومينيون لأنظمة التصويت دعوى تشهير ضخمة على القناة، وقد ظهرت خلال التحقيق في الدعوى القضائية مراسلات داخلية بالقناة تبين منها أن تاكر كارلسون كان يعبر عن شكوكه بشأن مزاعم تزوير الانتخابات التي فاز فيها جو بايدن على دونالد ترامب رغم أن برنامج تاكر لم يُظهر على الإطلاق مثل هذا التشكيك للافتقار إلى أدلة التزوير.
نقطة التحول لم تكن في الواقع متمثلة في أن كارلسون تحول إلى الوسط بدلا من اليمين، ولم تكن أنه أظهر فجأة حبا وقبولا للأقليات، لكنها ظهرت في استقلاليته ومحاولته ممارسة عمله الصحفي بمهنية أكبر.
كما أنه بدأ في التحول تدريجيا لمخاطبة جمهور عالمي ربما دون تخطيط منه، فبعد الرحيل عن "فوكس نيوز" أسس كارلسون منصة إعلامية موجهة للجمهور مباشرة وهي "تي سي إن" والتي ترمز إلى شبكة تاكر كارلسون، واستضاف عبر منصته تلك مجموعة من أبرز الشخصيات العالمية، وحتى تلك الشخصيات الأميركية التي لا تظهر عادة في الإعلام السائد حتى اليميني منه في الولايات المتحدة الأميركية.
وربما كان لقاء كارلسون مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في فبراير/شباط 2024 واحدا من أهم لقاءاته الصحفية بعد الرحيل عن "فوكس نيوز"، والذي حصد حتى الآن 20 مليون مشاهدة على قناة تاكر كارلسون وحدها بمنصة يوتيوب.
وقد أثار هذا اللقاء موجة غضب عارمة في الولايات المتحدة الأميركية من البعض بوصفه محاولة تلميعية لبوتين استطاع الرئيس الروسي فيها أن يلقي محاضرة مطولة عن التاريخ الروسي وعن أسباب غزوه لأوكرانيا دون أن تُطرح عليه أسئلة محرجة من كارلسون بحسب المنتقدين للحلقة.
لكن كارلسون دافع عن مقابلته بالقول إن معظم الشعب الأميركي كان محروما من معرفة السبب الذي غزا بسببه بوتين أوكرانيا وما هي أهدافه، لأن هذه الأسئلة لم يتم تناولها بجدية وموضوعية في الإعلام السائد من قبل، وإن هذا كان هدفه من المقابلة، وهو أن يعرف المواطن الأميركي وجهة النظر الأخرى.
وبعد تلك المقابلة أشارت وكالة أنباء يابانية -وهي "إس إن إيه"- إلى أنه رغم كون معظم التقدميين الأميركيين ينظرون إلى تاكر كارلسون باعتباره ممثلا لأقصى اليمين المتطرف فالواقع أن هناك حقيقة جلية، وهي أن مواقف الرجل في السياسة الخارجية بدأت تتوافق وتتطابق مع بعض مبادئ اليسار المناهض للإمبريالية حتى وإن كانت استنتاجاته نابعة من مسار فكري وأخلاقي مختلف.
طوفان الأقصى.. صوت فلسطين الأبرز في اليمين الأميركي
منذ بداية معركة طوفان الأقصى وما تلاها من حرب إبادة شنتها دولة الاحتلال على قطاع غزة اتخذ السواد الأعظم من اليمين الأميركي موقفا تقليديا من الحرب، إذ إن قطاع كبير من هذا اليمين كان متأثرا بشدة برؤى لاهوتية تفسر آيات العهد القديم باعتبارها تحث على دعم دولة إسرائيل دائما.
ولأن هذا كان هو الموقف السائد داخل اليمين الأميركي فإن وسائل الإعلام اليمينية لم تدخر جهدا في تقديم مادة إعلامية تناصر دولة الاحتلال وتحاول أن تختلق لها المسوغات لم تقوم به.
ولو أمكن أن نشير إلى شخص واحد فقط باعتباره كان مسؤولا عن تكبير حجم الهامش في اليمين الأميركي -وهو الهامش الذي كان ينظر لدولة الاحتلال بعين الريبة- فإن هذا الشخص على الأرجح سيكون تاكر كارلسون.
وفي الواقع، اتخذ كارلسون موقفا منددا بدولة الاحتلال منذ البداية، وقد نما هذا الموقف مع مرور أيام الحرب، إذ باتت منصته هي النافذة التي تطرح على المواطن اليميني الأميركي المحافظ أسئلة وآراء لا يمكن أن يستمع إليها في الإعلام اليميني السائد.
كان كارلسون يقدم مادته الإعلامية منذ بداية الحرب المنتقدة لدولة الاحتلال، لكن ربما كانت حلقته مع تيد كروز عضو مجلس الشيوخ عن ولاية تكساس هي الحلقة التي أعطت كارلسون الاعتراف حتى من أطراف يسارية في الولايات المتحدة الأميركية بمجهوده الكبير في فضح دولة الاحتلال، وأنه واحد من قلائل يمارسون الصحافة بحق في الإعلام اليميني الأميركي.
ففي تلك الحلقة أحرج كارلسون ضيفه بشدة حين فند أطروحته المسيحية الصهيونية التي تقول إن دعم دولة الاحتلال واجب ديني على كل مسيحي وفق الكتاب المقدس.
وكشف كارلسون حينها من خلال أسئلته أن ضيفه لا يعرف حتى أين تقع الآية التي يشير إليها، وبخلاف ذلك فقد بيّن من خلال أسئلته كيف أن ضيفه الذي يضغط من أجل أن تضرب الولايات المتحدة إيران لا يعرف أبسط المعلومات عن تلك الدولة التي يريد تغيير نظامها.
وخلال فترة الحرب حاول كارلسون من خلال لقاءاته الصحفية المتعددة أن يبين للمشاهد اليميني الأميركي المحافظ 3 حقائق أساسية، وهي أولا: تفنيد الدعاية المسيحية الصهيونية القائلة إن الكتاب المقدس يحث المسيحيين على دعم دولة الاحتلال، والحقيقة الثانية التي أبرزها من خلال لقاءاته مع رجال دين مسيحيين أميركيين عاشوا في منطقة الصراع هي أن المسيحيين في فلسطين يتعرضون للقمع المفرط من دولة الاحتلال، تماما مثل المسلمين.
وكان لقاؤه مع منذر إسحاق من أهم تلك اللقاءات، وهو قس فلسطيني أكد أن دولة الاحتلال تقصف المسيحيين وتحد من قدرتهم على التبشير داخل دولة الاحتلال، ولقاؤه أيضا مع الأم أغابيا ستيفانوبولوس الأميركية التي عاشت في الأراضي المحتلة لسنوات عديدة.
وقد وصل الأمر بالأم أغابيا في لقائها مع كارلسون إلى حد الدفاع عن حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، والتأكيد على أنها ليست حركة إرهابية كما يحاول اليمين الأميركي وصفها.
والحقيقة الثالثة: هي أن الولايات المتحدة الأميركية تخسر بشكل براغماتي من دعمها غير المشروط لدولة الاحتلال الإسرائيلي، وأن على الولايات المتحدة أن تأخذ نهجا انعزاليا يبعدها عن مثل تلك المشاكل.
وقبل كل تلك الحقائق كان كارلسون أيضا يعبر عن أن ما يحدث في غزة هو تطهير عرقي وحرب إبادة، وأن دعم الولايات المتحدة غير المشروط لمثل تلك الممارسات يجعلها معارضة للمسيحية وللأخلاق في الحقيقة، فضلا عن أن هذا الدعم غير المشروط يُعد خيانة وطنية، وفقا له.
فتكريس الأموال والجهود الأميركية لدولة أجنبية يُعد بمرتبة الخيانة، فضلا عما أفرد كارلسون من مساحة كبيرة في مادته الإعلامية للحديث عن اللوبيات الصهيونية في الولايات المتحدة وكيف أنها تدفع الولايات المتحدة إلى اتخاذ مواقف تضرها لصالح دولة الاحتلال، كما أكد على أن أي شخص خدم في جيش دولة أجنبية -يقصد دولة الاحتلال- ينبغي أن يفقد جنسيته الأميركية فورا.
واليوم، يقف تاكر كارلسون في المنطقة الحرام التي خلقها لنفسه، محاربا على جبهات متعددة، لقد أحرق سفنه مع المؤسسة الجمهورية التقليدية ومع اللوبي الإسرائيلي ومع الإعلام السائد.
يراه مؤيدوه نبيا يمتلك الشجاعة لقول الحقيقة في زمن الأكاذيب، في حين يراه خصومه عازف مزمار يجر الأميركيين كثعبان كوبرا نحو معاداة السامية وكراهية اليهود.
وسواء كان دافعه صحوة ضمير دينية بعد ليلة الهجوم الشيطاني تلك أو حسابات سياسية دقيقة تراهن على مزاج شعبي جديد يرفض الغطرسة الإسرائيلية بعد الإبادة فإن الأكيد أن كارلسون قد كسر الصنم الأكبر في السياسة الأميركية، وجعل من انتقاد إسرائيل، بل والتشكيك في شرعية وجودها الديني والسياسي، خطابا مسموعا في اليمين الأميركي، وهو ما لم تنجح في تحقيقه عقود من الدبلوماسية العربية التي ادّعت أن اتفاقاتها للسلام ستكون كفيلة بإقناع العالم بحق فلسطين في الوجود.
