"الترامبية الثانية": حين تصنع القوة هشاشة العالم!

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 


افراسيانت - يعقوب عادل البشيّر - منذ عودته إلى البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني 2025، لم يتوقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن إعادة تعريف موقع الولايات المتحدة في العالم.


وبينما تتحدث إدارته عن «استعادة الردع» و»السلام من خلال القوة»، فإن الخطاب السياسي الذي يُنتجه المحيطون بالرئيس ترامب، من روبرت أوبراين إلى مستشاري «أمريكا أولًا»، يعكس رؤية أوسع من مجرد تصحيح مسار؛ إنها محاولة لإعادة إنتاج الهيمنة الأمريكية في نظام دولي بات أكثر تعددية.


من «أمريكا أولًا» إلى «السلام من خلال القوة»


في الولاية الأولى، كان ترامب يتحدث بلغة الانعزال الاقتصادي ومبدأ «أمريكا أولًا» الذي هزّ أسس العولمة.


أما في الولاية الثانية، فقد تحوّل الخطاب إلى ما يمكن تسميته بـ «الترامبية الثانية»، وقوامها مزيج من القومية الاقتصادية، والحزم العسكري، والابتزاز الاستراتيجي!


هذا التحوّل لا يعكس تبدّلًا في الفكر، بل في الأدوات، فبعد أن استخدم ترامب الرسوم الجمركية والعقوبات في ولايته الأولى، يستخدم اليوم القوة الرمزية والضغط المالي لتكريس الهدف نفسه: جعل العالم يدفع ثمن «أمنه» تحت المظلّة الأمريكية. هكذا يتجدّد الشعار القديم «السلام عبر القوة» كمبرّرٍ للعودة إلى الردع العسكري والسيطرة على الأسواق معًا.


«السلام من خلال القوة ليس سلامًا، بل تأجيلٌ للحروب باسم الاستقرار»


استراتيجية الردع الجديد


الترامبية الثانية تقوم على إحياء الردع الكلاسيكي عبر وسائل غير كلاسيكية: زيادة الإنفاق الدفاعي الأمريكي إلى حدود غير مسبوقة، إقناع أعضاء حلف شمال الأطلسي «ناتو» برفع ميزانياتهم إلى 5% من الناتج المحلي، وإطلاق برامج تسليح في آسيا والمحيط الهادئ تستهدف ردع الصين واحتواء روسيا في آنٍ واحد.


في السياق ذاته، أعادت واشنطن التأكيد على التزامها بـ»ناتو»، لكن وفق رؤية جديدة تقوم على «تقاسم الأعباء» بدلاً عن «الحماية المجانية». فكل حليف يدفع مقابل الحماية، وكل شريك يتحمّل جزءًا من العبء المالي.


إنها عودة صريحة لمفهوم «الهيمنة بالمشاركة القسرية». تفرض واشنطن قيادتها عبر إشراك الآخرين في تمويلها.


عالمٌ يعيد ترتيب نفسه


العالم الذي يواجه ترامب في ولايته الثانية ليس هو عالم 2016. فالصين لم تعد مجرّد قوة صاعدة، بل شريك منافس في إدارة النظام الدولي. وروسيا باتت في مواجهة مفتوحة مع الغرب على الأرض الأوكرانية. وأوروبا نفسها فقدت ثقتها بالمظلّة الأمريكية بعد سنوات من «الابتزاز الأمني».


«الترامبية الثانية» تراهن على أن الاضطراب الدولي هو فرصتها الذهبية. فكل حرب تُبقي واشنطن في موقع الحكم، وكل أزمة اقتصادية تُعيد للدولار مكانته كعملة ملاذ آمن، وكل توتر في الشرق الأوسط يُبرّر بقاء القواعد الأمريكية ونفوذ شركات السلاح.


الشرق الأوسط بين الردع والتطويع


في المنطقة العربية، تتجلّى «الترامبية الثانية» بأوضح صورها، فبين الضربات الأمريكية المحدودة لإيران، والدعم المطلق لإسرائيل في حربها على غزة، ومحاولات الضغط على العواصم الخليجية لتوسيع التطبيع الأمني، يتضح أن واشنطن لم تعد تبحث عن الاستقرار بقدر ما تسعى إلى إعادة تشكيل ميزان قوى يضمن استمرار اعتماد المنطقة على الحماية الأمريكية. إنها سياسة «ردع بالتطويع».. ردع لإيران، وتطويع للحلفاء.


في الوقت نفسه، قدَّم ترامب للرأي العام الأمريكي باعتباره «صانع سلام» يستحق جائزة نوبل لأنه كما يقول «أنهى ثماني حروب ولم يبدأ حربًا واحدة»!


لكن الواقع يُظهر أن واشنطن تُدير الحروب بالوكالة بدلًا من أن تُنهيها!


نظام دولي على حافة إعادة الضبط


«الترامبية الثانية» لا تعني عودة «القطب الواحد»، بل تجديد شكل القيادة الأمريكية في نظامٍ متعدد الأقطاب.


إنها محاولة لإعادة تعريف الزعامة الأمريكية كـ»مركز قوة صلب» وسط شبكة تحالفات مرنة، بحيث تبقى واشنطن ضابط الإيقاع حتى في عالمٍ تتقاسمه قوى كبرى مثل الصين والهند وروسيا.


لكن الخطر الحقيقي أن هذه المقاربة، القائمة على القوة بدل الشرعية، قد تفتح الباب أمام مزيدٍ من الاضطرابات، لأن العالم لم يعد يتقبّل منطق «السلام بالقوة» بعد تجارب أفغانستان والعراق وليبيا.


وهم القوة واستقرار الضعف


تُعيد «الترامبية الثانية» إلى الساحة مقولة قديمة: أن الردع يصنع السلام.


لكن دروس القرن الحادي والعشرين تُثبت أن القوة من دون شرعية تولّد فراغًا أخلاقيًا لا فراغًا استراتيجيًا، وأن الاستقرار لا يقوم على الخوف، بل على التوازن.


قد تنجح واشنطن مؤقتًا في إعادة فرض هيبتها العسكرية، لكنها تفقد في المقابل ما كان يمنحها الشرعية: قدرتها على الإقناع لا على الإكراه.


فـ»السلام من خلال القوة» ليس سلامًا، بل تأجيلٌ للحروب باسم الاستقرار وهو بالضبط ما يجعل الفترة الثانية أخطر من سابقتها: إنها قوة بلا مشروع، وقيادة بلا رؤية.


أكاديمي في قسم العلوم السياسية – جامعة الكويت.

 

©2025 Afrasia Net - All Rights Reserved Developed by : SoftPages Technology