افراسيانت - بقلم: الدكتور خيام الزعبي* - تتواصل حالة الفوضى الأمنية والسياسية في ليبيا منذ سقوط نظام القذافي عام 2011، وتزداد حالة الإنقسام السياسي والجهوي إستفحالاً والأزمة تعقيداً، في إطار ذلك تمر ليبيا بواحدة من أصعب مراحلها الأمنية التي شهدتها البلاد، فبين أحداث مشتعلة وإقتتال داخلي باتت ليبيا غارقة في فوضى وتناحر على السلطة بدءاً بحرق خزانات النفط في مرفأ السدرة، مروراً بتفجير البرلمان الليبي في طبرق، وصولاً لسقوط طائرة تابعة لمسلحي فجر ليبيا، ولن نتفاجئ بوجود تنظيم داعش المسلح في المسرح الليبي، لأن المشهد هناك عبارة عن فوضى خلاقة ويسمح لكل الجماعات المتطرفة أن تتواجد في هذه الدولة.
بعد إنتخاب مجلس النواب منتصف عام 2014 وما ترتب عنه من فشل التيار الإسلامي في الحصول على نصيب كبير من المقاعد، بدأ شرخ الإنقسام يدب بين مراكز القوى المختلفة، وقد إزداد هذا الشرخ إتساعاً مع إنعقاد أولى جلسات مجلس النواب في 4 آب في مدينة طبرق التي تعد أحد معاقل اللواء خليفة حفتر، في إطار ذلك سارعت قوى ما يعرف بـ"فجر ليبيا" إلى رفض هذه الخطوة وقامت بإحياء المؤتمر الوطني العام وإنبثقت عن الأخير حكومة برئاسة عمر الحاسي، موازية لتلك التي شكلها مجلس النواب في طبرق برئاسة عبد الله الثني، وقد أكدت الدول الغربية ومعظم الدول العربية إعترافها بشرعية مجلس النواب وحكومة عبد الله الثني، إلا أن الدائرة الدستورية في المحكمة العليا الليبية أصدرت حكماً أثار الكثير من الجدل فُسر على أنه يقضي بعدم شرعية مجلس النواب، لذلك رفض مجلس النواب والحكومة المنبثقة عنه قرار المحكمة الدستورية، ولم يحسم قرار المحكمة الخلاف بين طرابلس وطبرق، بل زاد من حدة الإنقسام بين الطرفين، خاصة بعد أن عد مجلس النواب تنظيم "أنصار الشريعة" وقوى "فجر ليبيا" جماعات إرهابية خارجة عن القانون ومحاربة للشرعية، وبالمثل نزع المؤتمر الوطني العام الشرعية عن مجلس النواب.
ينظر الجميع بترقّب شديد وحذر إلى مآل تلك التطورات التي باتت تُهدّد وحدة هذا البلد، فليس من شك في أن الوضع الليبي الراهن هو نتاج لمسار كامل لحقت به العديد من الإهتزازات التي أدّى في نهاية المطاف إلى إتساع الهوة بين مختلف الأطراف السياسية وكثرة التجاذبات والإستقطابات، وإنتهى إلى ضبابيّة المشهد السياسي وتداخل لعناصر في غاية الخطورة منها سطوة المجموعات التكفيرية وإنتشار السلاح في كل مكان وتقلص سلطة الدولة ومؤسساتها الراهنة، مما عزز على تفاقم الأزمة الداخلية بين الفرقاء السياسيين وإنقسام الشعب، وأصبحت البلاد مهددة بنشوب حرب أهلية بالرغم من المساعي المحلية والإقليمية والدولية في تهدئة الأزمة.
اليوم تشهد ليبيا سلسلة مواعيد ولقاءات مرتقبة تحمل في طياتها إشارات عن تطورات مرتقبة في المشهد السياسي، فقد عاد الحديث عن إنطلاق الحوار الوطني الليبي في مدينة سبها الليبية تحت إشراف المبعوث الأممي برناردينو ليون في محاولة لتفعيل المبادرة التي كان أطلقها بين الفرقاء الليبيين لإسكات صوت الرصاص والمدفع والسير الى حوار سياسي، فقد تعددت الدعوات الخارجية للحوار بين أطراف النزاع في ليبيا، السؤال الذي يفرض نفسه هنا، هل تنجح هذه المساعي الدولية بإنخراط القوى المختلفة في حوار شامل؟، خاصة في ظل تعنت الأطراف المتنازعة وتشبث كل طرف بمواقفه، وإصرار البعض على حسم النزاع بقوة السلاح، تبدو الأزمة الليبية تبعث بحالة من اليأس الشديد في إمكانية حلها قريباً، ما جعل الدعوات إلى الحوار أمر ضروري، بإعتباره السبيل الوحيد لفض النزاعات بين أبناء البلد الواحد، مع إدارك حقيقة أن السلاح لن يحل المشكلة وأن الحسم العسكري أمر في غاية الصعوبة.
في ضوء هذه الوقائع والمعطيات، فإن استمرار واقع الفوضى وعدم الإستقرار وفقدان الأمن والأمان في ليبيا يقود إلى سيناريوهين أساسيين هما: السيناريو الأول: أن يؤدي هذا الواقع، إلى فرض مخطط تقسيم ليبيا إلى دويلات وفيدراليات تسيطر عليها المليشيات، وهو ما يناسب الشركات الغربية التي لها مصلحة في عدم وجود دولة مركزية والإبقاء على واقع الصراعات والإنقسامات، لأنه يتيح لها المجال للتحكم بعملية نهب الثروة النفطية في ليبيا، وبالتالي تسعى الى بقاء مظاهر انتشار السلاح والكتائب المسلحة في البلاد.
أما السيناريو الثاني: يؤدي الى تكّون رأي عام واسع النطاق يسعى باتجاه إيجاد بديل وطني يقوم على أساس العمل لبناء دولة مركزية، توحد ليبيا على قواعد وأسس تعزز دولة العدالة الاجتماعية والمساواة بين جميع المواطنين الليبيين، وذلك من خلال توفير الأمن والوئام الاجتماعي وتجريد الجماعات المسلحة من أسلحتها.
في إطار ذلك يمكنني القول إن حل الأزمة الليبية يتوقف على تفعيل آليتين أساسيتين، الأولى تتعلق بفرض الأمن والاستقرار في ليبيا من خلال دعم المبادرات المتخذة وتنفيذ تدابير أمن الحدود، أما الآلية الثانية، فتتعلق بدعم الجهود المبذولة من أجل بناء المؤسسات في ليبيا، وهو المسار الذي تعترضه صعوبات كبيرة، وفي حالة إنعدام الوفاق والمصالحة بين القبائل فضلاً عن تكوين نواة الدولة الليبية من جيش وقوات الأمن وإدارة وإقتصاد، فسوف تكون ليبيا معبراً لكل المجموعات الإرهابية وملجأً لها كما ستجعل بعض الجماعات تتسرب إلى الدول المجاورة وعلى الأخص المغرب والجزائر وحتى مصر وبالتالي إحداث وضعية عدم الإستقرار في المنطقة.
في سياق متصل إن المجتمع الدولي يكتشف مرة أخرى حجم الفوضى العارمة التي تعيشها ليبيا ما بعد القذافي، وإكتشف أن الثورة المزعومة لم تحرر الإنسان الليبي، وتحقق أمنه واستقراره، بل إن الليبيين صاروا يترحمون على زمن القذافي بعد كل الظلم الذي لحقهم على أيدي الجماعات الإرهابية التي تسمي عناصرها ثواراً، وبالتالي فإن الغموض الذي يكتنف تطورات الأحداث في ليبيا يدعو إلى قلق المجتمع الدولي بأسره، لاسيما في ظل تعقيد خريطة النزاعات بين الفرقاء، ففي ليبيا أصبح الكلام عن إيجاد حل سياسي للأزمة الليبية، هو اللغة الوحيدة المشتركة بين كل الفرقاء الإقليميين، والدوليين المعنيين بالوضع الليبي، وهنا يتبادر سؤال في غاية الأهمية، هل أصبحت ليبيا بالفعل مقبلة على حل سياسي يقوم على نظام المحاصصة وتقسيم السلطة بين طوائف الشعب بما يعني مزيد من الإنقسام وعدم الاستقرار على المدى البعيد؟!
وأخيراً أختم مقالي بالحزن الشديد على الإقتصاديات والثروات الطبيعية للبلاد العربية التي تعرضت في السنوات الأخيرة لعمليات نهب وسلب ودمار منظّم ومدروس، فليبيا وسورية والعراق على سبيل المثال تحتاج لإعادة إعمارهما الكثير من المليارات من الدولارات، فلو كان قد تم إستثمارها والاستفادة منها بالشكل المطلوب لحقق ذلك ثورة تنموية وتعليمية وصحية في العالم العربي.
*كاتب سياسي
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.