افراسيانت - معن بشور* - بعد 26 عاماً على انطلاق أول مؤتمر قومي عربي في تونس، عاد المؤتمر ليعقد دورته السابعة والعشرين في الربوع التونسية وهو يحمل السؤال التالي: ما سرّ استمرار هذا المؤتمر وسط هذه الزلازل والعواصف والأعاصير التي شهدتها أمّتنا عبر ربع قرن ونيف، وما تزال؟.
بل وما سرّ نجاح هذا المؤتمر في إطلاق منتديات ومؤتمرات ومخيمات وندوات فكرية شبابية ما زالت منتظمة الانعقاد على مدى السنوات، وعلى امتداد الأقطار، وآخرها دون شك المنتدى العربي الدولي الثاني من أجل العدالة لفلسطين، الذي ضمّ أكثر من 400 شخصية قادمة من 30 دولة عربية وأجنبية وتمثل 162 حزباً وفصيلاً وهيئة عربية ودولية، والذي انعقد، بحضور شبابي لافت، وبحضور فلسطيني كثيف من الداخل والخارج، في تونس أيضاً، وبعد يوم واحد من انعقاد المؤتمر القومي العربي السابع والعشرين؟.
هل يكمن سر الاستمرار في مجرد عزيمة ومثابرة ونفس طويل يحملهم مؤسسو هذه التجربة الحوارية المتميّزة وقادتها رغم كل ما واجهوه من حصار مادي وإعلامي، ومن اتهامات وشيطنة، ومن مضايقات وتحامل غالباً ما كان يصدر عن جهات متناقضة قد تختلف في أمور كثيرة ولكنها تتفق على إطفاء جذوة العروبة التحررية الديمقراطية التقدمية الوحدوية كهوية ثقافية جامعة لمكونات الوطن الكبير، وكمشروع نهضوي تتكامل عناصره ويرفض مقايضة أحدها على حساب الآخر..
أم أن الأمر أكثر من مزايا ذاتية لبعض من أفنى عمره في سبيل وحدة أمته وتحررها؟.
إنني أعتقد أنه ما كان لهذا المؤتمر أن يستمر، ومعه المؤتمر القومي – الإسلامي، ومخيمات الشباب القومي العربي، وندوات التواصل الفكري الشبابي العربي، ومنتديات العمل القومي في العديد من أقطار الأمّة، وتشكيلات المساندة والدعم لفلسطين وقضايا الأمّة وعلى رأسها الملتقيات الدولية من أجل فلسطين، لولا أن هذا المؤتمر والمنظومة القومية المتكاملة من حوله، جسّد حاجة موضوعية في أمّة تكتشف يوماً بعد يوم ضرورة تمتين هويتها الجامعة، وصون استقلالها الوطني والقومي، وبناء مؤسساتها الديمقراطية الحارسة لحقوق الإنسان وكرامتها، وتحقيق العدالة الاجتماعية المنافية لكل ظلم أو فساد أو استغلال، وإنجاز تنميتها المستقلة التي تتكامل فيها اقتصاديات أقطارها، وتجديد انتمائها الحضاري المرتكز إلى تفاعل رسالات وثقافات ولدت على أرضنا.
وأعتقد أيضاً أنه ما كان لهذه المنظومة العروبية الواسعة أن تستمر طيلة هذه السنوات وأن تتجدّد في آليات عملها ومبادراتها وأعضائها، لولا ارتكازها بالأساس إلى صرح فكري بحثي شارف على بلوغه الأربعين عاماً، وهو "مركز دراسات الوحدة العربية"، الذي نال الريادة العلمية والسبق الثقافي بين العديد من المؤسسات المماثلة.
وأعتقد كذلك أنه ما كان لهذه المنظومة الوحدوية المتكاملة أن تستمر وتنمو وتتسع لولا تمسكها باستقلاليتها عن التجاذبات والاستقطابات والاصطفافات القائمة في وطننا الكبير وشعارها الدائم "جسور بين أبناء الأمّة ومتاريس بوجه أعدائها".
وأعتقد أيضاً أن هذه المنظومة التي يشكّل المؤتمر القومي العربي محورها، ما كانت لتصمد بوجه الرياح العاتية التي تعصف بالأمّة لولا التزامها بمنطق الحوار بين مكوناتها، كما بين تيارات الأمّة الرئيسية، وهو منطق مؤسس لأي عمل ديمقراطي من جهة، كما إنه بانطلاقه من فكرة قبول الآخر، أياً كان رأياً أو فكراً أو جماعة، واحترامه والتكامل معه إنما يشكّل النقيض لظواهر الإقصاء والإلغاء والغلو الظلامي والتطرف الدموي.
وما كان لهذا المؤتمر أن يستمر ويتعزّز دوره لولا أصراره منذ تأسيسه على أن يشكّل تعبيراً عن تكامل جناحي الأمّة في المشرق والمغرب، وفي القلب منهما مصر ووادي النيل، وهو إصرار ناجم عن إدراك عميق بأن أحدى عثرات الحركة القومية في أربعينيات وخمسينيات القرن الفائت هو أنها بدت كحركة شامية أو مشرقية بأحسن الأحوال، ولولا إصراره أيضاً على احترم خصوصيات الكيانات الوطنية، والجماعات الإثنية، انطلاقاً من الإيمان أن العروبة هي تكامل وطنيات، وأن الوطنية هي تكامل الجماعات المكونة للمجتمع.
وما كان لهذه المنظومة أن تتواصل وتتشعب كل هذه السنوات، لولا أن من رحمها انطلقت مبادرات شجاعة حملها أعضاؤها في أكثر من قطر، كمبادرة كسر الحصار الجوي على العراق قبل الاحتلال، حيث انطلقت بمبادرة من أعضاء المؤتمر طائرات تكسر هذا الحصار من أكثر من مطار عربي، كما انطلقت بمبادرات مماثلة سفن وأساطيل وقوافل كسر الحصار على غزّة، تحمل على متنها رموز وأعضاء من المؤتمر، ناهيك عن المسيرات المليونية التي انطلقت في عواصم الأمّة ومدنها انتصاراً لفلسطين والعراق ولبنان وغيرها، والمبادرات التي أطلقها المؤتمر لجمع الفصائل الفلسطينية المتخاصمة، ولدعم الحوار والإصلاح في الأقطار العربية، لاسيّما في سوريا واليمن.
وما كان لهذه المنظومة أن تفرض وجودها في الواقع العربي لولا إدراكها منذ انطلاقتها لمركزية القضية الفلسطينية في حياة الأمّة، فكان المؤتمر أول هيئة قومية تندد بمؤتمر مدريد، واتفاقيات أوسلو ووادي عربة، والمشاريع الشرق الأوسطية المتعاقبة، كما كان أول هيئة تشارك مع مؤتمرات شقيقة (المؤتمر القومي – الإسلامي، والمؤتمر العام للأحزاب العربية، وهيئة التعبئة الشعبية، والاتحادات والنقابات العربية) في مبادرات دعم المقاومة العربية بكل أجنحتها الفلسطينية واللبنانية والعراقية، دون أن تقع بإزدواجية المعايير والانتقائية في المواقف، وآخرها بالتأكيد ما صدر عن الدورة الأخيرة للمؤتمر في تونس من تنديد بقرارات النظام الرسمي العربي والإسلامي باعتبار حزب الله، وقبله حماس، منظمات إرهابية.
وحين عصفت زلازل الفتنة والاضطراب بالعديد من الأقطار العربية، كان للمؤتمر القومي العربي والمؤتمرات الشقيقة نظرة دقيقة، حيث ميّز منذ اللحظة الأولى بين مطالب مشروعة لأبناء الأمّة الذين خرجوا إلى الشوارع والميادين والساحات، وبين أجندات مشبوهة تريد استغلال المطالب المشروعة لخدمة مشاريع تدمير أقطار وكيانات ودول ومجتمعات وجيوش، كما رأينا في الجزائر ثم في العراق وليبيا وسوريا واليمن، فأساء فهم موقفه "أصحاب الرؤوس الحامية" من جهة، فيما جرت محاولات شيطنته من قبل الجهات المشبوهة والموغلة في دماء الشعب العربي...
وإذا كان المؤتمر القومي العربي، وما زال، تعبيراً عن حاجة موضوعية في أمّة تدرك أنها في الوحدة تواجه التفرقة، وفي التنمية تواجه التخلّف، وفي التكامل تواجه الإقصاء، وفي المقاومة تواجه الاحتلال، وفي العدالة تواجه الظلم، وفي الديمقراطية تواجه الاستبداد، وفي الحوار تواجه الفتن ومشاريع الإقصاء والإلغاء. (بالمناسبة كلمة "حوار" وردت في النظام الأساسي للمؤتمر منذ تأسيسه عام 1990).
لكن ما زال ينقص المؤتمر الكثير لكي يرتقي إلى مستوى الآمال المعلقة عليه وهو ما يحتاج إلى بحث طويل، وإلى مشاركة كل المسكونين بهمّ النهضة والوحدة والحرية والتقدم في أمّتنا...
*الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي