الرأسمالية المقلقلة تجعل فيسبوك مؤسسة ربحية، وأوروبا اللاعب الوحيد الذي يستطيع قيادة نوع مختلف من ثورة البيانات.
لندن - افراسيانت - استبدل مارك زوكربيرغ الرئيس التنفيذي لشركة فيسبوك قميصه الشهير وسرواله الجينز بسترة سوداء ورابطة عنق قرمزية اللون عندما اجتمع مع مشرعين أميركيين،الاثنين، للاعتذار عن إساءة استخدام موقع التواصل الاجتماعي لبيانات مستخدميه ولتجنب أي إجراءات قانونية محتملة.
وتسبق اعتذاراته جلسات استماع ستعقد في الكونغرس الأميركي هذا الأسبوع، حيث سيواجه زوكربيرغ سؤالا بشأن كيفية تبادل بيانات 87 مليون مستخدم لفيسبوك على نحو غير مشروع مع شركة كامبريدج أناليتيكا البريطانية التي تعمل في مجال الاستشارات السياسية.
خالف مؤسس فيسبوك وعده لروّاد التواصل الاجتماعي بـ”بناء مجتمع عالمي يعمل من أجلنا جميعا” وعقب فضيحة شركة كامبريدج أناليتيكا توضح لعشاق فيسبوك أن بياناتهم الشخصية مباحة بسبب ما يجنيه انتهاك الخصوصية من أموال طائلة، وما يحققه من مكاسب سياسية لأطراف معينة اختارت المؤسسة أن تدعمها في تجاوز أخلاقي صريح. وأمام أزمة الثقة التي يعيشها الموقع الأشهر عالميا يقترح الكاتب البريطاني إيفجيني موروزوف العودة إلى الاقتصاد الرقمي الذي يحمي المواطنين أينما حلّوا. لكن هذا الاقتراح يواجه صعوبات بسبب سيطرة الدول الكبرى على السوق الرقمي، ولتحويل الرأسمالية شركات صناعات التكنولوجية إلى مصادر لجني الأرباح تماما كشركات النفط، ما يجعلها تغض النظر على مثل هذه التجاوزات، الأمر يدفع وفق الكاتب البريطاني إلى ضرورة اتخاذ خطوة مماثلة بفرض رسوم مالية على فيسبوك مقابل الوصول إلى البيانات، مشيرا إلى أن أوروبا الوحيدة القادرة مستقبلا على قلب معادلة الصناعات التكنولوجية بقيادة ثورة مختلفة في مجال حماية البيانات.
ومن المرجح أيضا أن يواجه أسئلة بخصوص الإعلانات والتعليقات التي نشرها ضباط مخابرات روس على الموقع، فيما تعتقد السلطات الأميركية أنها محاولة للتأثير على انتخابات الرئاسة الأميركية لعام 2016.
وقال زوكربيرغ في تصريحات مكتوبة نشرتها لجنة الطاقة والتجارة بمجلس النواب، الاثنين، “لم تكن لدينا نظرة فاحصة لمسؤليتنا وكان ذلك خطأ كبيرا” وتابع قائلا “كان ذلك خطئي.. أنا آسف”.
وإذا لم يقدم زوكربيرغ إجابات مرضية، فإن الكونغرس سيضغط على الأرجح لسنّ قوانين جديدة تفرض رقابة صارمة على فيسبوك.
واستباقا لهذه الخطوة، قالت الشركة بالفعل إنها تؤيد تشريعا جديدا سيجبر شبكات التواصل الاجتماعي على الكشف عمن يقفون وراء الإعلانات السياسية مثلما تفعل القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية بالفعل.
لكن على الرغم من المحاولات الحثيثة لمؤسس فيسبوك، وسيلة التواصل الاجتماعي الأشهر عالميا، لاسترجاع شعبيته وثقة المستخدم، فإن الكاتب البريطاني إيفجيني موروزوف يشير في مقال بصحيفة الغارديان البريطانية أن استمرار انهيار ثقة الجمهور في فيسبوك خاصة مع تواصل فضيحة انتهاك الخصوصية التي طالت أستراليا ونيجيريا، مؤخرا، هو “خبر يسرّ الكثير ممن كانوا يحذّرون من مخاطر استخراج البيانات على مدى سنوات عدة”.
ولعل ما يثبت صحة ذلك هو ظهور الدليل النهائي على أن فيسبوك الذي رفع شعار “بناء مجتمع عالمي يعمل من أجلنا جميعا” يثبت عقب فضيحة انتهاك الخصوصية أنه يتبع مشروع جدّي يستغل فيه خصوصية المستخدم ليبني “مخزنه العالمي العملاق لجمع البيانات” وذلك بهدف جني أموال طائلة من جهة وخدمة مصالح أطراف سياسية من جهة أخرى.
ويعتقد موروزوف أن فيسبوك كغيرها من المؤسسات التكنولوجية تبحث عن تحقيق الأرباح عن طريق النبش في أعماق بيانات المستخدم. ويفسر ذلك بقوله “يتم ذلك عن طريق النقر على أزرار النكز والإعجاب التي يقوم بها المستخدمون، مثلما تفعل شركات الطاقة الكبرى التي تحفر في أعماق الأرض لاستخراج النفط: الأرباح أولاً، ثم تأتي بعد ذلك العواقب الاجتماعية والفردية في أخر قائمة أولوياتها”.
علاوة على ذلك، يرى الكاتب أن المستقبل الرقمي الوردي، الذي يقوم حسب مارك زوكربيرغ على تأسيس بنية تحتية اجتماعية في صلب هذه المواقع. لم تعد محل ثقة ويقين الكثير من رواد التواصل الاجتماعي.
ويلفت موروزوف أن “التكاليف المالية لبناء وتشغيل هذه البنية التحتية الاجتماعية قد تكون ضئيلة للغاية -بالنسبة إلى متحملي الضرائب- في المقابل فإن تكاليفها باهظة على الصعيدين السياسي والاجتماعي”.
ويتابع “ربما يكون هذا الاستنتاج، بالرغم من أنه صادم ومفاجئ، غير كافٍ. فالفيسبوك وجه من أوجه استغلال المستخدم أولا والمواطن بصفة عامة من قبل الحكومات والجهات الضاغطة”.
وحسب موروزوف “فيسبوك ليس السبب الوحيد لمشاكلنا. وعلى المدى الطويل، لن نستطيع إلقاء اللوم على ثقافة هذه المؤسسة وحدها”.
الحل في الاقتصاد الرقمي
بدلا من مناقشة ما إذا كان علينا معاقبة زوكربيرغ بعد فضيحة فيسبوك الأخيرة، يدعو موروزوف إلى ضرورة “بذل قصارى جهدنا لفهم كيفية إعادة تنظيم الاقتصاد الرقمي لصالح المواطنين، وليس فقط لصالح حفنة من الشركات التي تقدر بالمليارات من الدولارات والتي ترى مستخدميها كمستهلكين سلبيين لا يمتلكون أي أفكار سياسية أو اقتصادية أو تطلعات خاصة بهم”.
لكن العقبات الهيكلية تقف في طريق إحداث هذه الإصلاحات. ويرى موروزوف أنه “ليس من المرجّح أن يتم حلها بمجرد استخدام تطبيق ذكي. حيث تنجم هذه العقبات أساسا من ديناميات الرأسمالية المعاصرة ‘المقلقة’، وليس من إدمان المستخدمين لشبكات التواصل الاجتماعي أو إساءة استخدام شركات التكنولوجيا لهذا الإدمان”.
يشرح الكاتب البريطاني هذا التوجه قائلا “في حين أننا قد نواصل الهجوم على شركات التكنولوجيا العملاقة، إلا أننا لا يمكننا أن نتجاهل حقيقة أن فيسبوك بجانب شركات مثل ‘ألفابيت’ و’أمازون’ و’مايكروسوفت’ وغيرها، كانت من ضمن إحدى الوسائل الأساسية التي ساعدت على تعزيز سوق الأوراق المالية في الولايات المتحدة”.
ويتابع “بمعنى آخر، لا تختلف أسواق التكنولوجيا الأميركية في عام 2010 عن أسواق الإسكان الأميركية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين: فقد حاول كلاهما توليد ثروة ضخمة، عن طريق رفع قيمة الأصول، حتى خلال المعاناة الحقيقية للاقتصاد”.
ويلفت موروزوف أنه “إذا تم إزالة المكاسب الهائلة التي حققتها قيمة الأسهم من شركات التكنولوجيا الكبرى على مدى السنوات القليلة الماضية، لن يكون هناك الكثير ما يستحق ذكره للحديث عن التعافي من الأزمة المالية”.
إيفجيني موروزوف: فيسبوك كغيرها من المؤسسات التكنولوجية تبحث عن تحقيق الأرباح عن طريق النبش في أعماق بيانات المستخدم
ويكشف أن ذلك هو “السبب الرئيسي وراء عدم قيام الولايات المتحدة بعمل أي شيء يعرقل نشاط عمالقة التكنولوجيا بها، خاصة عندما تستعرض شركات التكنولوجيا الصينية عضلاتها وتتوسع في الخارج”.
ويعتقد موروزوف أنه “كان بإمكان فيسبوك تغيير نموذج وأساليب أعمالها”. وقدم مثال شركتي “أمازون” و”ألفابيت” اللتين اتجهتا إلى تطوير قطاع الخدمات الأكثر ربحًا، باستخدام الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية لتحقيق هوامش ربح أعلى والمساعدة على تعويض المشكلات الناشئة من خدماتهم الأساسية.
لكن على عكس ذلك، تسير فيسبوك متخلفة عن هذا الركب، على الرغم من أن لديها باحثين رائدين في مجال الذكاء الاصطناعي والكثير من البيانات التي يعملون عليها. فبعد كل هذه الفضائح الأخيرة، ستواجه فيسبوك صعوبة في إقناع مستخدميها وعملائها من الشركات بأن بياناتهم لا تزال سرية وآمنة.
ويرى موروزوف أن فيسبوك ستقف في النهاية أمام خيار واحد فقط، تم اقتراحه بالفعل من قبل البعض من مستثمريها، مثل روجر مكنيم، وهو فرض رسوم شهرية لتسجيل الدخول على المنصة.
وهنا يمكن لفيسبوك أن تضرب عصفورين بحجر واحد: منها تقليل نشر الأخبار المزيفة، وفي نفس الوقت تخفيف الرغبة في جمع وتخزين الكثير من بيانات المستخدمين.
ويشير الكاتب البريطاني أنه في غضون ذلك، سيتلقى المستخدم العديد من الوعود -من قبل السياسيين، وخاصة في الجانب الأوروبي، وأيضاً من قبل المديرين التنفيذيين لهذه الشركات العملاقة- بأنهم سيبذلون قصارى جهدهم لتشديد الرقابة على البيانات وحتى إدخال قوانين جديدة لمعاقبة سوء استخدامها.
ويقول موروزوف إن “هذا تطور يجب أن نراقبه بعناية أكبر، لأن مثل هذا الخطاب سيحاول حتماً استعادة الشعور بطبيعة الواقع الراهن للاقتصاد الرقمي، في محاولة لإقناعنا بأنه باستثناء بعض الممارسات السيئة وانحرافاتها الأخلاقية، فإن الأساسيات ما زالت تبدو جيدة ولا يوجد هناك أي مخاطر محتملة”.
ويبيّن أن “التخفيف من حدة ما تتعرض له فيسبوك ومحاولة الترويج بأنها ستستعيد عافيتها يتلاءم بشكل جيد مع النظرة العالمية للاقتصاد الرقمي وان يتقاسمها معسكرين متضادين تماماً”.
ويتابع بقوله “على الرغم من التعارض بينهما، إلا أن مسؤولي التكنولوجيا في أوروبا ومسؤولي التكنولوجيا في فيسبوك متشابهين تمامًا في فهمهم للعالم من حولهم؛ فبالنسبة إلى كليهما، هناك مساحة معيّنة في مجال أعمالهم لا يمكن المساس بها، حيث تقدم شركات التكنولوجيا كل الأنواع الممكنة من الخدمات لمستهلكيها من المستخدمين، والذين، إذا كانوا غير راضين، يمكنهم دائماً أن يقوموا بنقل أعمالهم إلى شركات أخرى منافسة”.
ويرى موروزوف أن “التدخلات الوحيدة المسموح بها في هذا العالم الافتراضي هي المبادرات الرامية إلى تعزيز حقوق المستخدم وبياناته، وتعزيز المنافسة، وربما زيادة الحصص الضريبية، أو تصميم خدمات وتقنيات أفضل”.
وأردف “عند حدود هذا العالم الافتراضي ينتهي التاريخ ولم تعد الرأسمالية العالمية مجرد قواعد عليا، بل تحاول أن تبرهن أنها تعمل بالفعل على توفير مصادر الرخاء والنفوذ في كل مكان تشغله”.
ويعتقد “أننا لن نحتاج بأن نتخيل أشكال جديدة من التنظيم الاجتماعي والسياسي بما أن المدن أو المواطنين أو حتى الدول ستلعب دورا أكثر بروزا في تشكيل السوق أو اتخاذ قرار بشأن الاحتفاظ ببعض خصوصيات حياتنا خارج إطار التكنولوجيا”.
ويتابع “هذه النماذج والحلول الجديدة مفيدة حقا، لكن يجب أن نعلم أن السوق قد فكر في تطبيقها سابقا”.
حماية الصناعات التكنولوجية
هذا المفهوم، يتناقض بشكل مباشر مع الواقع. حيث أن نجاح عمالقة التكنولوجيا في كل من الولايات المتحدة والصين، على سبيل المثال، كان النتيجة المباشرة لتدخل الدولة القوي في كيفية سير عمل سوق الاقتصاد الرقمي لشركاتهم التكنولوجية، وليس السماح لهم بالعمل كيفما يتراءى لهم.
وأوضح موروزوف أنه “في حالة الولايات المتحدة، استغرق الأمر عقودا من التمويل العسكري لإنشاء وادي السيلكون، وعقودا أخرى من الزمن لهندسة نظام التجارة العالمية بعناية لجعل الأمر يبدو أكثر صعوبة بالنسبة للدول المنافسة الغربية التي تتطلع إلى تطوير تكنولوجيات مماثلة”.
وحسب الكاتب البريطاني فإن “الفرق بين الأوروبيين والأميركيين في هذا المجال هو أنه على الرغم من أن الأميركيين دائماً ما يعدون بشيء ويفعلون شيئاً آخراً، فإن الأوروبيين غالباً ما يفعلون بالضبط ما يقولونه”.
ويضيف “هكذا، بينما تبذل الصين والولايات المتحدة قصارى جهدهما لحماية صناعاتهما التكنولوجية الآخذتين في التوسع، فإن أوروبا تبذل قصارى جهدها للتأكد من أن صناعاتها التكنولوجية تتنافس مع الصناعات التكنولوجية الصينية والأميركية بشروط عادلة، ما يتسبب في ترك القارة الأوروبية دون الكثير من القدرة التكنولوجية المحلية”.
لكن الأمر الإيجابي حسب موروزوف هو أنه “على عكس الولايات المتحدة، حيث يرتبط الكثير من الاقتصاد المحلي بالتكنولوجيا والصين حيث عملية جمع البيانات لا تحدث تأثير في العملية الانتخابية، لأنه لا توجد هناك انتخابات في الأصل فإن أوروبا هي اللاعب الوحيد التي تحتل موضعاً جيداً لقيادة نوع مختلف تماماً من ثورة البيانات، وهو دور يمكنه قلب طاولة صناعة التكنولوجيا وتحفيز الابتكار على كل من الجبهتين التكنولوجية والسياسية”.
ويقترح الكاتب البريطاني في ختام مقاله أنه ” بدلاً من السماح لفيسبوك بالتغاضي عن خدماتها أو استمرارها في استغلال بيانات المستخدم، يجب أن نجد طريقة لإجبار مثل هذه الشركات على دفع مقابل مادي مقابل الوصول إلى البيانات الخاصة باعتبار أن فيسبوك تحوّل إلى فضاء يشترك فيه الجميع ولم يعد فضاء خاص”.
ويشير أن “هناك العديد من المؤسسات والأطراف الأخرى المعنية بالعمل من خلال هذه البيانات التي تساعدها على بناء خدماتها، من الجامعات إلى المكتبات، ومن مؤسسات الرعاية الاجتماعية إلى وكالات النقل العام، ومن روّاد الأعمال إلى البلديات، يمكن إجبارهم باتباع بعض الشروط الخاصة حتى يتمكنوا من الحصول على بيانات المستخدم، أحياناً بشكل مجاني وأحياناً أخرى بمقابل مادي، ربما من خلال صناديق رأس المال الاستثماري التي تديرها الدولة، والتي قد تركز أيضاً على أن ضمان القدرات الأساسية يتطلب الاستفادة الكاملة من تلك البيانات، مثل تنمية الذكاء الاصطناعي، التي يقع تمويلها بسخاء”.
لكن يتساءل في الوقت ذاته “من أين يأتي هذا الدعم المالي؟” يجيب موروزوف قائلا “حسناً، أحد المصادر سيكون على سبيل المثال من خلال فرض الرسوم على شركات مثل ‘فيسبوك’ و’ألفابيت’ مقابل الوصول إلى البيانات، بدلاً من تقليل العبء الضريبي عليهم كما يفعلون الآن”.
ويختم بقوله “مع ذلك، لن تكون النقطة هنا هي الرغبة في زيادة العائدات التي تحققها هذه الطبقة الجديدة من البيانات. لا.. لكن الهدف هو زرع ثمار بيانات مختلفة يمكن أن تنمو على مختلف النطاقات”.
ويضيف “إذا كانت فيسبوك تريد تقديم خدمات تربح من خلالها، فلها الحرية في فعل ذلك -شريطة فرض تكلفة عالية جدًا، وتحت إشراف كامل، وبموافقة كاملة من مستخدميها، ولكن في نفس الوقت لا ينبغي أن يكون هناك أي سبب يمنع الاستفادة أيضاً من النماذج الأخرى حول نفس مجموعة البيانات، مثل فرض رسوم الاشتراك، أو الدخول بمقابل مادي، أو الدخول المجاني اعتماداً على الاستقطاع من الدخل”.